مقالات صحفية 2016


أرنولد برجستارسر في الجامعة الجزائرية

نصر الدين لعياضي

نشر بصحيفة الخبر يوم 29/ديسمبر 2016

ظل السؤال ذاته يتردّد علي منذ أول لقاء لي مع طلبة الدكتوراه طيلة السنوات الثلاث الأخيرة. والسؤال هو كالتالي: هل يمكن لي أن أعرض أفكاري في بحثي؟ لقد اندهشت من هذا السؤال حد الذهول. وحاولت أن أتبين سبب طرحه. فكان الجواب واحدا ووحيدأ عبر عنه  كل مرة أحد الطلبة بالقول: لقد نبهني أستاذي إلى ضرورة إسناد كل فكرة في مذكرة الماستر إلى مرجع. ولما أخبرته بأنها أفكاري نهرني بقوله من تكون أنت حتى تكون لك أفكار؟

لقد دأبت على الإجابة عن هذا السؤال مستعينا بما قاله مونسيكو في رسائله الفارسية التي كتبها في 1721م، والذي أكد في أحد مقاطعها ما يلي: “ليس في المؤلفين  قط أولى بازدرائي  من الجمّاعين الذين يأخذون من هنا وهناك أجزاء من كتب غيرهم ويضمّونها كتبهم كقطع من العشب في روضة، وليسوا في عملهم هذا أفضل من عمال المطبعة يرتبون الحروف ويصفونها. ثم يطبعون كتابا لا يبذلون فيه إلا عملا يديويّا. لهذا أريد ألا يحترم الناس إلا الكتب الأصيلة المبتكرة” .

بالطبع إن هذا المقطع لم يمح أمامي مرارة ما جنيناه بعد 17 سنة من التعليم في مختلف مراحله: تكوين جيل من الشباب مشلول ليس لأنه لا يفكر فحسب، بل لأنه مسلوب التفكير من محاولة التفكير. لكن من باب الإنصاف وحتى لا أتهم بالمزايدة على بعض زملائي الأساتذة يمكن أن التمس لهم العذر في خشيتهم من الغش وانتحال أفكار الغير، وحرصهم على الآمانة العلمية في البحث. أميل إلى الاعتقاد أن الخشية من الانتحال بهذه الطريقة تشبه ما قام به ذاك الوالد الذي خشي على إبنه الصغير من الانحراف وامتهان الجريمة مستقبلا فقام بقتله! فَشَلُّ قدرة الطالب الجامعي على التفكير يعدّ بمثابة الحكم عليه بالإعدام.

لقد سعت الجامعات الأجنبية إلى محاربة الانتحال برقمنة التعليم في أصغر جزئياته أولا، ثم شراء حقوق الملكية الفكرية للبرامج الكمبيوتر الكاشفة عنه، ورفع تقارير فصلية عن حالات الانتحال في كل قسم وعرض الإجراءات المتخذة ضد المُنتَحِلين، وترسيخ مبدأ الاختصاص العلمي، فمن لم يقرأ حتى مقالا صحفيا عن التلفزيون أو مواقع الشبكات الاجتماعية طيلة حياته ناهيك عن البحوث والدراسات لا يستطيع أن يعرف من كتب ماذا عن التلفزيون أو مواقع الشبكات الاجتماعية بلغتين على الأقل، حتى  يستطيع أن يستدل على ما يتم نهبه  من هذا الباحث أو ذاك الكاتب.

ربما يجد البعض مبررا آخر لشل تفكير الطالب، ويربطه بوضع المجتمع ككل الذي يئد التفكير ناهيك عن اختلافه و استقلاليته أو يربطه بوضع المنظومة التعليمية والجامعية على الخصوص التي ” تجتهد” في تكوين جيل لا يتقن سوى الاستماع والحفظ عملا بمقولة ” هذا بضاعتكم ردت إليكم”. لكنني أميل إلى الاعتقاد أن الأمر أدهى وأمر ألتفت إليه الباحث هشام شرابي في مذكراته عن فترة دراسته في جامعة واشنطن في نهاية أربعينات القرن الماضي، إذ يقول: ) بعد أن جمعتني صداقة قوية مع أستاذي أرنولد برجستارسر Arnold Bergstraesser الألماني ( 1896- 1964)، أستاذ مادة ” فلسفة نتشه”، بعث له برسالة ألومه فيها بلباقة ولطف على تعاطيه الفاتر مع هذا الفيلسوف وافتقاده النزعة النتشوية في تدريس نتشه. فجائنى رده كالتالي: لا يمكن للجامعة في هذا العصر أن تسمح لنفسها في أسلوب طرحها للقضايا الفكرية وطرائق معالجتها لهذه القضايا إلا أن تنطلق من موقف نقدي غير متحيز. إنّ معالجة نتشه معالجة الملتزم، كما تقترح في رسالتك، إنما هو أمر يتعارض كليا مع هدف الجامعة ومهمتها. إن اتباع أسلوب كهذا يؤدي حتما إلى اتخاذ موقف متحيز إزاء كل فلسفة أو اتجاه فكري. إذ أنه يفترض من الأستاذ أن يكون من المؤمنين بتلك الفلسفة أو الاتجاه الفكري ويدرسها كعقيدة وإيمان، الأمر الذي يؤدي إلى نسف الأسس الفكرية المستقلة التي تقوم عليها الجامعة. كمؤسسة ثقافية مستقلة، وفي مقدمتها الحفاظ على لغة فكرية مشتركة وقدرة على التفاهم المتبادل الذي يقوم على التحليل الموضوعي والحوار المفتوح(

فماذا لو بعث أرنولد برجستارسر الذي لازال معهد في ألمانيا يحمل إسمه، وهو بالمناسبة أكبر مؤسسة للدراسات السياسية في أوربا، حيا ودلف إلى بعض مدرجاتنا وهو يرى بأم عينه كيف نُسف العلم ويتحوّل إلى عقيدة تفرض على الطلبة فرضا. لعله يرى أن مجرد طرح السؤال أعلاه يعدّ نوعا من الجرأة إن لم يكن استفزازا.

الأخبار التلفزيونية وأفق التغيير المتباعد

نشر بمجلة البحرين الثقافية – أكتوبر 2016

صعوبات التفكير في تلفزيون الجودة في المنطقة العربية

مجلة اتحاد الإذاعات العربية، عدد 3 السنة 2016

النقر للوصول إلى ASBU_03_2016.pdf

“السيلفي” أو عندما تتحول الصورة الداتية إلى تجارة

نصر الدين لعياضي

نشر بمجلة الشروق الإماراتية الصادرة من 15-22 أغسطس.

هل يحق لــ  “جاك أتالي”  الخبير الاقتصادي  ومستشار الرئس الفرنسي الراحل ” فرنسوا متيرون” أن يفرح بعد أن تحقق ما حلم به في 1960 أو يحزن؟ لقد حلِم بميلاد عالم يستطيع  فيه كل شخص أن يصنع موسيقاه الخاصة، ويطبع بنفسه روايته، وينتج فيلمه ويوزعه! فأصبح كل هذا ممكن اليوم، وأضحى باستطاعة كل شخص أن يصور ذاته. ولا بأس إن لم يتجسد ما حلم به في العالم الذي تمناه: العالم الاشتراكي، وتحقق في عالم الليبرالية المتطرفة الذي تحكمه سلطة المال، فأباحت ما لم يكن مباحا. عالم يتسم بالفردانية  والاحتفاء بالذات ، يوثقها فيما أصبح يعرف بالسيلفي ( الصورة الذاتية) ، أي ” الشخصورة”، مثلما عربها بعضهم.

عندما شرع بعض الشباب في 2004 في تصوير ذاتهم في لقاءاتهم ورحالتهم السياحية، وانصرف كل واحد منهم إلى التقاط صور له بواسطة هاتفه النقال  لتخليد بعض تفاصيل يومياته  اعتقد البعض أن “السيلفي” ليس سوى موضة تحمل نرجسية المراهقين، وستختفي بسرعة. لكن هذه الموضة تحولت إلى ظاهرة عمت كل الفئات العمرية في كل المجتمعات تقريبا. فزال الاعتقاد المذكور بعد أن أصبحت سلوكا يوميا مألوفا لدى عامة الناس، وإن أصاب بعض المربين وعلماء النفس بالقلق، وأثار تساؤلات الفلاسفة وعلماء الاجتماع بعد أن اقتحم  بعض المجالات التي كنا نعتقد أنها تملك الخصوصية والحرمة، مثل ” الصلاة والعبادة” و” المرض والموت” و”القتل والإعدامات”، وغيرها! ليس هذا فحسب،  لقد أثار هذا السلوك فضول رجال التسويق والإعلان بعد أن اكتشفوا أن ” الشخصورة” تستطيع أن تجعل المُصَوَر سلعة.

البداية…

ظهرت كلمة سيلفي ( selfie ) الأنجليزية في 2002 بالموقع الإلكتروني الأسترالي ” ميديا أي بي سي ” وانتشر استخدامها في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل ” ماي سبيس” ) Myspace” و” فليكر” Flickr” في 2004 ، وأُدرجت في قاموس أسكفورد في 2013 بعد أن شاع تداولها في وسائل الإعلام التقليدية.

لا يمكن اختزال معنى ” السيلفي” بالصورة التلقائية التي نلتقطها، دون تفكير، لذاتنا أو رفقة جماعة. ولا يمكن ترجمته بــ “البروتريه الذاتي”.  فهذه الممارسة تشترط أن يأخذ الشخص صورة لذاته بمفرده أو مع الجماعة وسط خلفية ما تحدد سياق التصوير. وتشي هذه الخلفية  بالعلاقة التي يقيمها المُصَوَر بالعالم. ثم أن صورة ” السيلفي” لا تكتفي بذاتها، بمعنى يجب اقتسام الصورة الذاتية الملتقطة مع الأهل أو الأصدقاء أو المعارف عبر مواقع الشبكات الاجتماعية. ففي غياب هذا الاقتسام، يمكن لصاحب ” السيلفي” أن يكتفي بالنظر لذاته في المرآة أو بصورته الفتوغرافية. فعندما تنشر ” السيلفي” في المواقع المذكورة فإنك تنتظر رد فعل: تعليق ما، علامات إعجاب. ولا يتجاوز “السيلفي في هذه الحالة ” مجرد الصورة ، بل يصبح حزمة من العواطف والمشاعر، مثلما يؤكد ذلك عالم الاجتماع الفرنسي جوسلين لاشونس.

ماذا فعل “السيلفي” بنا؟

يعتقد البعض أن “السيلفي” فعل بالصورة أكثر مما فعلته الصورة الفتوغرافية بــ “البورتريه”. فاختراع ألة التصوير الفتوغرافي هزتّ عرش البورتريه وأبعدته عن الوظيفة الجمالية بعد أن استبدلتها بالوظيفة التطبيقية والعملية، خاصة بعد انتشار ألة التصوير المسماة ” بوني” التي ظلت شركة كوداك تصنعها، منذ 1900 إلى غاية ،1967 فبيعت بسعر زهيد في أخر أيامها. لقد قضت هذه الكاميرا “على فكرة أن لا وجود للبورتريهات، التي كان الرسامون يخصون بها النبلاء والارستقراطيين، إلا في شكلها الفني. لقد أصبحت الصورة أو البورتيه في متناول أي يشخص يرغب فيها. لكن الثورة الرقمية زادت في شعبية التصوير فمنحت كل شخص امكانية أخذ ما يشاء من صور، دون تحميض ولا سحب على الورق، وبثها بيسر في مواقع الانترنت ومواقع الشبكات الاجتماعية.  لقد قدرت بعض المواقع وجود أكثر من 150 مليون صورة يتم تبادلها يوميا عبر العالم!

لعل بعض القراء الكرام يتذكرون كيف كان يتزينون ويرتدون أفضل ما يملكون من ملابس عند مت يتجهون إلى المصور لأخذ صور شخصية أو عائلية. وكانت صور العرسان التي تؤخذ أثناء العرس تشكل حدثا يضاهي العرس ذاته! لقد اقترنت الصورة في ذهن الأجيال السالفة بالفرح والأحداث السارة. ألم يقال:” ابتسم حتى تطلع الصورة حلوة”؟ لكن الصورة اليوم أصبحت تلتقط في كل وقت وفي كل مكان وكل مناسبة وحتى دون مناسبة لتوثق الحضور في مكان ما، أوبرفقة شخص ما، أو للتعبير عن مزاج معين، أو لإشعار الغير بوجودنا.

ديمقراطية التصوير

إنها” ديمقراطية” التصوير التي تختلف النظرة إليها من شخص إلى أخر ومن ثقافة إلى أخرى. فالبعض يعتقد أنها نزعت عن الصورة ” هالة” الاحترام والتقدير التي كانت تحظى بهما. ويرى والبعض الأخر ، وربما بنوع من المبالغة، أنها جردتنا من بعض القيم. إذ يوجد من يستلّ ” هاتفه النقال” لتصوير الشخص المقبل على الانتحار دون أن يفعل شيء لثنيه عن فعل ذلك.أو تصوير حريق دون المساعدة في اخماده. لقد حرم هاجس أخذ ” سيلفي” في كل لحظة البعض من الاستمتاع  بالحياة وصرفهم عنها وجرهم إلى الانشغال بتصويرها!

لا يشاطر الكثير من المختصين في الطب النفسي هذا الرأي وذلك لأنهم يرون أن ” السيلفي” ليس مجرد صورة، أنه طريقة من تبرير الوجود. فأريان غوميز، الطبيبة النفسية الفرنسية، تؤكد أن ” الشخصورة” تمنح الفرصة للشخص لابتكار ارتباطه بالغير. والاهتمام بذاته في ظل  شفافية تامة ليساير معايير الحياة الاجتماعية المعاصرة. فبرامج تلفزيون الواقع، ومواقع الشبكات الاجتماعية ) الفيسبوك، انستغرام…( لا تكشف عن حياتنا الحميمية التي ظلت مكتومة فقط، بل تعمل على تربيتنا على كيفية التعبير عن خصوصيتنا وإبرازها من أجل مراقبة صورتنا لدى الغير. ولعل أبرز دليل على ذلك يقدمه موقع ” سنابشات”  Snapchat ”  الذي ترسل عبره الصور في كل لحظة في اليوم بدءا من غسل الأسنان في الصباخ إلى تناول وجبة العشاء، مرورا بساعات العمل أو الدرس . هذا مع إمكانية تعديلها والرسم عليها، وارفاقها بنص مكتوب، والأكثر من هذا حذفها في بعض الثواني القليلة التي نحددها بعد الإطلاع عليها. قد يرى بعض الفلاسفة أن هذا المحو يندرج في ” ثقافة الزوال” التي بدأت تسيطر على الحياة اليومية، فمحو الصور يعني رميها بعد ” الاستعمال” مثل أي منتج :المناديل الورقية، وشفرات الحلاقة، والأكياس الورقية وغيرها. بيد أن البعض الأخر يعتقد أن مكانة الصورة  في المجتمع قد تغيرت وأصبحت شأنها شأن الكلمة في الدردشة التي تجرى بين الاشخاص في الفضاءات العامة أو عبر الشبكة. ففي هذا الإطار يؤكد أورلين فيفي، نائب مدير القسم الرقمي في صحيفة ” نوفال أوبسرفتور” الفرنسية أن الصورة أصبحت محادثة، بمعنى أن مواقع الشبكات الاجتماعية لا تتيح المناقشة حول الصور فقط، بل جعلت المناقشة بالصور ممكنة. وبهذا لم تعد الصور تقيّم على أسس جمالية، بل لطرافتها ولما تتيحه من نقاش.

رجال السياسة والدين أيضا.

لقد تم تبادل 56 مليون ” سيلفي” عبر موقع “انستغرام” في 2013.  وهو الرقم الذي ما انفك يرتفع ليشمل كل الفئات. لقد اغرى ” السيلفي” حتى رجال السياسة والحكم. لعل بعض القراء الكرام يتذكر صورة ” السيلفي” الذي جمعت الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الحكومة البريطاني دافيد كامرون ، ورئيسة وزراء الدانيمارك “هيل تورنيغ شميدت” بمناسبة تشيع جثمان رئيس جنوب افريقيا: نلسن منديلا  والتي جابت العالم بأسْره. و” سيلفي” البابا الفاتيكان، فرنسوا ، التي أوخذ مع مجموعة من الشباب المراهقين الإيطاليين في زياراتهم للفاتكان يوم 28 أغسطس 2013، وأثار حفيظة بعض رجال الكنسية. فرد عليهم بيب سفرغيني، كاتب الافتتاحيات في صحيفة ” كورير ديلا سيرا” الايطالية، قائلا: ( لا توجد أي نية تسويقية وراء ” سيلفي” البابا مع الشباب. كل ما في الأمر أن البابا يحب أن يكون مع الناس، بينما سلفه كان يحب أن يكون مع الكتب)

السيلفي حيلة أم فلسفة تسويقية؟

إذا من الممكن أن يستغل السيلفي لأغراض تسويقية وتجارية. هذا ما تؤكده الإستراتيجية الاتصالية التي تبنتها العديد من الشركات والمؤسسات.

لقد ظلت شركة سامسونغ منذ 2009 و لمدة خمس سنوات، تنفق أكثر من 24 مليون دولار سنويا على حفل جائزة الأوسكار السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أن تبرز وتشتهر في العالم حسب وكالة ” أي أيج للعلاقات العامة والتسويق”. لكنها أفلحت في ذلك في 2014. لقد صرفت حوالي مليار دولار من أجل إنجاز حدث ترويجي واتصالي ” مطبوخ” لتسويق هاتفها ” غلاكسي 3″، والمتمثل في التقاط صورة سيلفي للممثلة والمذيعة التلفزيونية الأمريكية ” إلان جونجرز” وسط ثلة من الممثلين والفنانين. وقد وصفت ساعتها من قبل وسائل الإعلام بأنها أغلى صورة سيلفي في التاريخ. وقد وصل عدد المطلعين عليها 37 مليون شخص بعد أن غردت به الممثلة المذكورة في حسابها في موقع ” تيوتر”. و نشرت أكاديمية الأوسكار في حسابها في الموقع ذاته العديد من صور ” السيلفي” لمشاهير الفنانين والممثلين في  قاعة  المهرجان “الخضراء” التي تم تجديدها وإعادة ” ديكورها” بأموال شريكة سامسمونغ. وقد حاولت شركة نوكيا أن تنتهج نفس الطريق من خلال استعمال “السيلفي” لتسويق هاتفها الذكي ” لومنيا”. ولم تكن الشركة الوحيدة التي اهتدت إلى إدراج ” السيلفي” في إستراتيجيتها التسويقية. لقد استغلت شركة الخطوط التركية شهرة الرياضيين  للترويج لرحلاتها. فلازال البعض يتذكر صورة  مهاجم فريق برسالون ، ليون ميسي، ولاعب كرة السلة الأمريكي ” كوب بريان” وهما يتلاعبان بالكرة في احدى الرحلات على متن الخطوط الجوية التركية. وتنتهي حركة الكرة الساحرة بصورة سليفي لهما.

تدريب

إن كان الكثير من المعلنين ومخرجي التلفزيون يعانون من صعوبات جمة في توجيه الفريق التقني من أجل إخراج أفضل اللقطات الإعلانية التي تعبر عن الفكرة الأساسية للإعلان، فإن بعض الجهد أصبح يتجه اليوم إلى كيفية تطوير مهارات الفنانين ومشاهير القوم، وحتى الناس البسطاء الذين يتم اختيارهم للترويج لسلعة ما، في التقاط صور السيلفي. لذا لا غرو إذا أنشأت شركة ” دال ” المختصة في صناعة الكمبيوتر والمعلوماتية مركزا للتدريب على أخذ أفضل صور ” السيلفي” لأن هذه الصور تكاد تكون الممر الاجباري للإعلان الذي تقوم به بعض المؤسسات التجارية. فشركة ” ليروي ميلان” الفرنسية المختصة في بيع مواد البستنة والتصليح المنزلي، على سبيل المثال، أصبحت تعلن عن المواد التي تسوقها عبر ” السيلفي”. لقد قدمت سلسة من صور ” السليفي” ليوم في حياة عائلة فرنسية متوسطة قضته في تصليح بيتها وتنظيم حديقته والقضاء على الأعشاب الضارة. وأظهرت شركة ” أتش أم” السويدية المختصة في ملابس الأطفال والنساء عارضة الأزياء الأسترالية، ميراندا كير، وهي مستغرقة في التقاط صورة سيلفي مدموغة بلوغو الشركة المذكورة بينما ظلت زميلاتها ينتظرنها في سيارة الأجرة.

إن الحيل لتمرير الإعلانات عبر السيلفي لا تنتهي أبدا.  فشركة ” مارس” للحلويات أصبحت تستعمل في إعلاناتها شخصيات من أفلام الكارتون  تلتقط صورة ” سيلفي” مع أصبع  شكولاطه ” سنيكرز” !  وحتى صابون ” دوف” خاض حملته الإعلانية عبر ” سيلفي” من أجل جمال طبيعي ضد الصورة الاصطناعية التي يمكن أن يروج لها “السيلفي”.

إذا كان استعمال الفنانين والرياضيين وعارضي الأزياء في الإعلانات شيئا مألوفا ومفهوما، فإن البعض يتسأل لماذا اللجوء إلى “السيلفي” الذي يجمع هؤلاء القوم بالشركات والسلع أو الخدمات التي يريد المعلنون الترويج لها.

إن الإجابة عن هذا السؤال بسيطة جدا. فالمرء يلاحظ اليوم أن المعجبين بالفنانين والرياضيين لا يتدافعون للحصول على توقيعاتهم، بل من أجل أخذ صورة ” سيلفي” معهم.  ففي مهرجان كان السينمائي، على سبيل المثال، كان الفنان يقف وحيدا محاطا بكوكبة من المصورين، لكن الوضع تغير اليوم. لقد أصبح محاطا بالمعجبين الراغبين في أخذ ” سيلفي معه”. فقد ذابت المسافة التي كانت تفصل هؤلاء النجوم عن جمهورهم.

التغيير ؟

إن ذهنية “السيلفي” غيرت نظرة الجمهور للفنانين والمشاهير، وبدلت، أيضا، سلوك هؤلاء؟ لكن كيف حدث هذا؟ لقد جرت العادة أن المعجبين هم الذين يقلدون فنانينهم ولاعبيهم في اللباس، والحديث، وتسريحة الشعر، وغيرها… ومن النادر أن نجد العكس. لكن في ظل استشراء ثقافة السيلفي حدث العكس أو ما يشبهه. ففي هذا الصدد يؤكد نائب مدير القسم الرقمي في صحيفة ” نوفال أوبسرفتور” الفرنسية  بأن النخبة هي التي تخترع مدونة السلوك فيتبعها الناس. فعندما قرر نابليون بونابرت أن يتنزّه في حديقة ” فنتنبولو” شرع أعوان القصر في تقليده، والتحق بهم النبلاء واصحاب المال، ثم عمت الظاهرة وأصبح عامة الناس يتنزهون في الحديقة ذاتها. أما اليوم فإننا نلاحظ أن رجال السياسة في بعض الدول الغربية هم الذين ينزلون إلى ملاعب كرة القدم في الأحياء السكنية بلباسهم الرياضي للقاء الشباب. إنهم يسعون لتقليد الشباب من أجل الاقتراب أكثر منهم. لذا لا غرو إن وجدنا الفنانة ريانا تفعل بصورها ما يفعل معجبوها بصورهم.

 

صدر عن المرصد العربي للصحافة    AOJ  ملخصا لبحثي الموسوم:

أزمة، فوضى، نهاية أو نشأة مستأنفة: محاولة لفهم التحولات التي تعيشها الصحافة وتأويلها

بعنوان: من صحافة النقل إلى صحافة البيانات – بقلم نهى بلعيد

للاطلاع على الرابط التالي:

http://urlz.fr/3Orf

لم يعُدْ أحد يتحمَّل أديبًا يتحدث خمس دقائق

أين الثقافة في التلفزيون المعاصر؟

 نصر الدين لعياضيباحث وأكاديمي جزائري

 

نشر بمجلة الفيصل،

http://www.alfaisalmag.com/?p=1750

تحسّر الفرنسيون على زمن يصفونه بالجميل؛ زمن البرنامج التلفزيونيّ «أبوستروف» Apostrophe، المتخصص في عالم الكُتَّاب، الذي كان يجمع أكثر من ثلاثة ملايين مشاهد كل أسبوع. لقد كان كثيرون يتلهّفون على متابعة آراء الكُتَّاب والشعراء الفرنسيين والأجانب فيما كتبوا، وتَرهف الأذن للعلاقة الخفية التي كانت تجمع رجال السياسة والحكم بالأدب. ولعل قليلًا منهم يتذكّر الحلقة التي حلّ فيها الرئيس الفرنسي آنذاك، فاليري جيسكار ديستان، ضيفًا على هذاالبرنامج ليتحدث عن الروائي الفرنسي «غي دو موباسان».

لقد مرَّ 26 عامًا على توقُّف هذا البرنامج التلفزيونيّ عن البث إلا أن الحديث عنه لم يتوقف في أوساط المثقفين، والكُتّاب، والناشرين، ولدى ممتهني العمل التلفزيوني. لقد وصفالكاتب والناشر الفرنسيّ «هوبرت نيسن»، في إحدى حواراته الصحفية، هذا البرنامجَ التلفزيونيّ بمفخرة فرنسا، ومحلّ تميّزها من بقية البلدان في المجال الثقافيّ. لكن الحديث عن البرنامج التلفزيونيّ المذكور يفضي، دائمًا، إلى التساؤل عن السر في تراجع مكانة الثقافة في القنوات التلفزيونية المعاصرة عامة، وليس الفرنسية فقط، وإلى النقاش عن الصعوبات التي تعانيها القنوات التلفزيونية الثقافية؛ لتستمر في الوجود، فكثير من المثقفين والفنانين يتساءلون عن مصير القناة الرابعة في تلفزيون «بي بي سي» البريطانيّ، التي توصف بأنها متخصصة في الثقافة.

زمن الحنين

لم يكن طموح البرامج الثقافية في التلفزيون في الماضي لِتكتفي بإعلام الجمهور الجديدَ في مجال الموسيقا والسينما والمسرح والفنون والرواية والشعر، إنما كانت تعمل على تأسيسنقاش ثقافيّ وفكريّ متواصل ليشكّل محركًا لعجلة الصناعات الثقافية. فالناشر الفرنسيّ «جون كلود غواسويتش»، يتذكر جيدًا أنهم كانوا ينتظرون بفارغ الصبر، كل أسبوع، ساعة الإعلان عن الكُتّاب والشعراء والمفكرين الذين يستضيفهم صاحب البرنامج التلفزيونيّ الفرنسيّ المذكور؛ ليسرعوا إلى استخراج مؤلفاتهم من أَقْبِيَة المطابع وتوزيعها على المكتبات! كيف لا والكِتَاب الذي يحظى بالنقاش في هذا البرنامج التلفزيونيّ تقفز مبيعاته من ثلاثة آلاف نسخة إلى أكثر من ثلاثين ألف نسخة. فبعد أسبوع من استضافة الروائية الفرنسية «مارغريت دوراس» في هذا البرنامج قفزت مبيعات روايتها «العشيق الصيني» من 80 ألف نسخة إلى 240 ألف نسخة! ليس هذا فحسب، إنما اعترف الشاعر والكاتب الفرنسيّ «فيليب دلرم» أن لا أحد من محيطه العائليّ وأصدقائه كان يعُدّه كاتبًا، ويأخذ ما يكتبه مأخذ الجدّ حتى حلّ ضيفًا في البرنامج التلفزيونيّ المذكور. حتى الموسيقيّ الروسيّ الشاب راشمنوف المغمور، نال نصيبه من الشهرة بعد أن جرى اقتباس مقطع من موسيقاه في «تيتل» Title البرنامج المذكور.

لقد أصبحتْ مثل هذه البرامج في حكم الماضي لا تثير سوى الحنين إلى ما فات، والخوف مما هو آتٍ، أي: مِن مستقبل الثقافة في القنوات التلفزيونية، ليس في فرنسا فحسب، إنما في كثير من بلدان العالم. فإضافة إلى تقليص البرامج الثقافية في شبكة البرامج التلفزيونية لتصل إلى نحو 5% من جُلّ القنوات التلفزيونية العامة، جرى تأخير موعد بثّها إلى ساعات متأخرة من الليل؛ لاعتقاد راسخ في أنها برامج نخبوية، ولا توجّه إلى جميع المشاهدين. وغُيِّرت طبيعتها، فأصبحت تسمّى برامج «المنوعات»؛ للتأكيد على خفّتها وذوبانها في الترفيه؛ مثل: المسابقات التلفزيونية، والبرامج الغنائية التي تسعى للرفع من شأن الضيوف والنجوم والترويج لهم على حساب الموضوعات والمضامين.

إن غاية البرامج الثقافية في التلفزيون ليس الإمتاع فحسب، إنما إثارة الفضول، والتزود بالمعرفة، وإرهاف الإحساس، والدفع إلى التفكير والتأمل. إنها تتطلب قدرًا من الانتباه والتركيز، بينما تسعى كثير من القنوات التلفزيونية المعاصرة للاستحواذ على أكبر نسبة مشاهدة؛ لِجَنْي أكبر حصة من سوق الإعلانات؛ لذلك تَستبعد البرامجَ الثقافيةَ؛ لاعتقادها أنها عسيرة الهضم، وتنفّر قطاعًا واسعًا من الجمهور الذي لا يملك المستوى التعليميّ والمعرفيّ الذي يؤهّله لفهمها، وتُقصي بعضًا ممن يَملك هذا المستوى لجمودها. وتنصرف القنوات التلفزيونية إلى بث البرامج الجماهيرية والتوافقية التي تحظى بإجماع، فتجمع المشاهدين ولا تفرّقهم، وهذا ما يفسّر تزايد مدة البثّ التلفزيونيّ المخصّص للرياضة والألعاب والمسلسلات التلفزيونية؛ أي أنها تساير المنطق الاستهلاكيّ في المجتمع.

وهكذا اختفت مواعيد المسرح من الشاشة الصغيرة في كثير من القنوات التلفزيونية، وزالت نوادي السينما من خارطة البرامج التلفزيونية. لقد طبعت هذه النوادي البرامج التلفزيونية، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فكانت تبثّ الأفلام السينمائية الرائدة، وتستضيف مخرجيها أو بعض ممثليها في أستوديو التلفزيون؛ لمناقشة طريقة إخراجها وقيمتها الفنية، وإن أبقت على بعض البرامج الثقافية فقد غيَّرت بنيتها، وأسلوب تقديمها، وغايتها. فالبرامج التلفزيونية القليلة الخاصة بالكتاب، التي لا تزال صامدة ومستمرة في شبكة البرامج التلفزيونية؛ أصبحت تروم الترويج المحض للكتاب، وانزاحت عن مناقشة موضوعه، وتحليل مضمونه وأسلوبه؛ الانزياح الذي لا يشترط من المذيع قراءة معمّقة للكُتب التي يروجها.

كائن يتطور بتطور المجتمع

يعتقد بعض المتخصصين أن التلفزيون كائن حيّ يتطور بتطور المجتمع. فمُعِدّ البرنامج التلفزيونيّ ومقدمه الفرنسيّ المذكور أعلاه يؤكد أن العمل التلفزيونيّ فقد الصبر، ولم يعد يتحمل منح الكلمةِ الأديبَ أو المفكرَ؛ للحديث مدة خمس دقائق متواصلة؛ ليشرح في هدوء آراءه من دون أن يقاطعه المذيع، أو تغيير لقطة التصوير.

بالفعل لم يتغير البرنامج التلفزيونيّ على صعيد التصوير فحسب، ولا في الإيقاع الذي أصبح سريعًا ليواكب سرعة العصر، إنما تغيَّر في نوعية الديكور.

لقد كان ديكور البرامج الثقافية في السابق بسيطًا ومتقشفًا كثيرًا، ويقتصر على كراسِيَّ وطاولة، وحُزْمة من الكُتب أو الصور لأفلام أو مسرحيات؛ لأن هاجس هذه البرامج كان النقاش، ودَفْع المشاهِد إلى التركيز فيه. أما اليوم فالنقاش ذاته تغيّر إن لم يكن فقد مضمونه. لقد كفّ كثير من القنوات التلفزيونية في كثير من بلدان العالم عن استضافة الأدباءوالمفكرين في ساعة ذروة المشاهدة، وفتح أذرعه لاستضافة نجوم الفن والطرب والأزياء والرياضة والطبخ الذين يتوددون للجمهور ويمازحونه في ديكور فاخر كثير البذخ، ومبهر إلى حد السحر.

وهناك من يعتقد أن الأمر يتجاوز التلفزيون؛ لأن النظام الإعلاميّ أصبح مكونًا أساسيًّا من مكونات الصناعات الثقافية التي تخضع لمنطق السلعة، وليس الخدمة. فلم يكن للقنوات التلفزيونية أن تنجرف إلى «تسليع» الثقافة إن لم تحظَ برضا الجمهور. وهذا الجمهور هو ابن المجتمع الذي تغيَّر هو الآخر، فتناقص فيه تعداد المكتبات في الأحياء السكنية والمدارس، وقلَّت دُور النشر فأصبحت تطبع نُسخًا أقل من الكتب، وتبيع كميات قليلة جدًّا مما تطبعه. واختفت النوادي الثقافية أو جفّ نشاطها، وتقلّص تعداد رُواد المحاضرات والندوات الثقافية أمام تزايد جمهور الحفلات الغنائية، ورواد ملاعب كرة القدم.

لقد تكاثرت وفرة البرامج التلفزيونية، وتعدّدت حوامل الثقافة وقنوات توزيعها، وتشذّر الجمهور، وتراجعت المشاهدة الجماعية لبرامج التلفزيون في ظلّ استشراء «المشاهدةالتلفزيونية المؤجلة» الفردية سواء في مواقع القنوات التلفزيونية في شبكة الإنترنت أم في بعض منصّات التواصل الاجتماعيّ.

حقيقة لقد انتشرت شرائط الفيديو وحوامله، في نهاية السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فحرّرت المشاهد من إكراهات توقيت البث التلفزيونيّ. أما اليوم فقد اتسع هامش الحرية كثيرًا في ظل انفصال المحمول الثقافيّ والاتصاليّ عن الحامل، وفي زمن التلفزيون الاستدراكيّ Catch up TV أو الفيديو تحت الطلب (video on demand (VOD.

كل هذه العناصر تفسّر جزئيًّا تراجع البرامج الثقافية في التلفزيون المعاصر. لكن لماذا جزئيًّا فقط؟ لأنها تحمّل الجمهور مسؤولية انصرافه عن متابعة البرامج الثقافية، وتبرئ ساحة التلفزيون والمسؤولين عن إدارته من تراجع هذه البرامج، وتتستّر على العقل المدبّر الذي ضاعف البحوث المتعلقة بالإعلان التلفزيونيّ، وأشكال تسويق برامج (الفُرْجة) والترفيه، واستطلاعات الجمهور لإعادة توجيه رغباته وصقلها، ورسم إستراتيجيات البرمجة التلفزيونية في ظلّ المنافسة الضارية بين القنوات التلفزيونية.

زمن المراجعة

يعتقد كثير من المفكرين والمثقفين أن ما سبق قوله لا يشخّص بكل دقّة العلاقة الملتبسة بين الثقافة والتلفزيون؛ إذ يرون أن التلفزيون يتعارض جوهريًّا مع الثقافة؛ لأنه يميل ميلًاكبيرًا إلى الاستعراض و(الفرجة)، ويروم التسلية والمتعة، ويشجّع الآني، ووليد اللحظة، بينما الثقافة وليدة فكر يستثمر في الزمن، ونتيجة صبر وعناد. وتعتقد الفيلسوفة الأميركية المنحدرة من أصول ألمانية حنا أرنت في كتابها الموسوم بـــ«أزمة الثقافة» أن الثقافة المعاصرة تعيش أزمة حقيقية ترجعها إلى عملية إضفاء الطابع الجماهيريّ عليها. فجمهرتها تَعْني بالضرورة «إعادة إنتاجها، وتسطيحها، وتكيّفها في الصور حتى تصبح مادة قابلة للتسويق؛ أي سلعة ذات استهلاك واسع».

ولا يمكن تناسي دَوْر التلفزيون في جمهرة الثقافة. والنتيجة، كما تقول الفيلسوفة في الكتاب ذاته، لم تعُدْ هناك ثقافة بالمعنى الدقيق للكلمة، إنما يوجد ترفيه جماهيريّ يتغذّى من المواد الثقافية. فالشعر -حسب الصحافيّ الفرنسيّ توماس يادان- تحوّل في بعض الأحيان إلى شعار إعلانيّ، والموسيقا أصبحت موضوعًا للتنافس ومادةً للتدافع، وأضحى الفنان تاجرًا يتاجر بفنّه في التلفزيون. ربما يمكن تصنيف هذا الأمر بأنه حكم، وليس توصيفًا لواقع يتضمن نوعًا من المبالغة، ولا ينطبق على كثير من القنواتالتلفزيونية، وبخاصة في المنطقة العربية، إلا أنه يعبّر عن حالة من خيبة الأمل فيما آل إليه التلفزيون في نظر كثير من المثقّفين والفنانين. لقد احتفوا به في الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي، واعتقدوا أنه سيكون أداة فعّالة في خدمة المعرفة والتربية، ووسيلة لنشر الثقافة وتحرير البشر، لكنه سقط في مخالب التجارة والترفيه الذي يسطّح الوعي ويبلّد الإحساس، وسقط معه الأمل.

إنها الخيبة ذاتها التي جعلت بعض الفلاسفة والمفكرين، بل الكُتّاب يرون أن الثقافة لا تجني كثيرًا من التلفزيون؛ لذلك نلاحظ أنريجست دو بري، وجيل دولوز، وفيليب موراي، على سبيل التمثيل، شنُّوا هجومًا كبيرًا على برنامج «أبوستروف» . فالروائي الفرنسيّ موراي يعتقد أن هذا البرنامج أضرَّ بالأدب أكثر مما نفعه، وخرَّبه لأنه خدم منطق «النجومية»، ودفع بالكاتب إلى الشهرة عوضًا من أن يركّز في الكتاب، وحاول أن يتطرّق إلى الإنتاج الأدبيّ انطلاقًا من موضوعات عامة تبدو أنها بعيدة من الأدب؛ مثل: الشوكولاتة، وآلام المسيح عليه السلام، والأحذية، ومنظمة الدول الناطقة باللغة الفرنسية، والموت، والطفولة، وغيرها من الموضوعات. بالطبع، إن هذا النقد يعجز عن إخفاء النوايا في محاكمة التلفزيون، وتجريم الترفيه، والتزام التصور النخبويّ للثقافة، وحصر البرامج الثقافية في التلفزيون فيما يسمّيه المختصون بالثقافة الراسخة والمؤسسة؛ أي الثقافة العالِمة؛ مثل: الكتاب والمسرح والسينما. ويربط انحطاط التلفزيون بغياب هذه الثقافة في برامجه، وهذا ما يفضي إلى النقاش العميق الذي عمر طويلًا، وحاول الإجابة عن السؤالين التاليين: ما معنى تلفزيون ذي نوعية جيدة؟ ومن يملك شرعية الحكم على جودة التلفزيون؟ وهو النقاش الذي أشار إليه الكاتب الفرنسيّ جون أرسي عام 1959م، عندما أكَّد أنه «من الخطأ أن نطلب من التلفزيون أن يقدّم لنا برنامجًا ترفيهيًّا خالصًا، وبرنامجًا إعلاميًّا جافًّا، وبرنامجًا تربويًّا صارمًا وأبويًّا، بالعكس أعتقد أن البرنامج الجيّد هو الذي يمزج الفئات الثلاث؛ أي البرنامج الترفيهيّ والإعلاميّ في الوقت ذاته، والتربويّ والترفيهيّ في آنٍ واحد». من المحتمل جدًّا أن يكون هذا الرأي مقبولًا، ويحظى بإجماع في الخمسينيات من القرن الماضي، لكن اليوم تداخلت هذه الفئات الثلاث، وأضحى من الصعوبة بمكان فصل الترفيه والإعلام والتربية عن التسلية.

ثقافة تلفزيونية أم برامج ثقافية؟

بين اليأس من مساهمة التلفزيون في خدمة الثقافة؛ لسماته التي تتعارض مع مفهوم الثقافة حسبما ذهب إليه أنصار الثقافة العالِمة، والتعامل مع كل ما يبثّه على أساس أنه ثقافة مثلما يؤكّد الأنثربولوجيون؛ اتّجه كثير من الدول إلى إنشاء قنوات تلفزيونية متخصصة في الثقافة، ومن المحتمل أن تكون آخرها قناة روسيا الثقافية، التي قال عنها رئيس تحرير مجلة «فن السينما» دانيل دوندوري: إنها بمنزلة مطعم رفيع يقدم وجبات غذائية جيّدة خلافًا للقنوات التلفزيونية العامة الأخرى، التي تعدّ شبيهة بمطاعم «ماكدونالدز» التي تتميز بأكلاتها الاصطناعية غير اللذيذة والمضرّة بالصحة. لكن هناك من يأخذ على القنوات التلفزيونية الثقافية أنها لا تستقطب جمهورًا عريضًا، وأن متابعي برامجها محدود جدًّا. فمجمل مشاهدي القناة المذكورة لا يتجاوز 5 % من مجمل مشاهدي التلفزيون في روسيا.

تنخفض هذه النسبة لدى جمهور القناة الفرنسية – الألمانية «آرتي» الثقافية ليصل إلى 3 % فقط. إنه المأخذ الذي حدا الباحثَ الفرنسيَّ «دومنيك ولتن» على القول: إن هذه القنوات التلفزيونية الثقافية لا تخدم الثقافة! لقد أكّد أن غاية وجود قناة تلفزيونية متخصّصة في الثقافة ليس محض سدّ حاجة أقلية متميزة من الناس إلى الثقافة، بل يجب أن تعمل على تقريب قطاع واسع من الجمهور من الأعمال الثقافية التي لا يصلها بسُبُل أخرى، وجعلها في متناوله. إذًا إن هذه القنوات التلفزيونية تُبعِد، في نظر هذا الباحث، الثقافةَ من أغلبية مشاهدي التلفزيون؛ لأن قليلًا منهم فقط يتابعها.

وتُبعِد، في الوقت ذاته، متابعيها من بقية المشاهدين؛ أي تحرمهم اقتسام ما يشاهده القسم الأكبر من المشاهدين في القنوات التلفزيونية غير المتخصصة.

إبداع وابتكار وليس بثًّا وتوزيعًا

ربما النظرة إلى علاقة التلفزيون بالثقافة تتغير عما سبق عرضه إذا استخدمنا مفهوم «الثقافة التلفزيونية»، الذي يجعل من التلفزيون أداتَيْ إبداع وابتكار ثقافيين، وليس قناة بث وتوزيع فحسب. في هذا الإطار سعت دول الاتحاد الأوربيّ لفرض مجموعة من القيود القانونية على البثّ التلفزيونيّ، ضمن سياساتها الثقافية. بدأتها بفك الارتباط بين التلفزيون التجاريّ -التابع للقطاع الخاص- والتلفزيون التابع للقطاع العامّ أو الدولة؛ إذ ترى أنه من غير المعقول أن يقدم التلفزيون الذي تموّله خزينة الدولة المضامينَ ذاتها التي يقدمهاالتلفزيونُ التجاريّ، الذي يعتمد على عائدات الإعلان في تمويله. وإلزام التلفزيون التابع للدولة بتخصيص وقت من بثّ نشرات أخباره للأحداث والتظاهرات الثقافية، وفرض نسبة من الإنتاج التلفزيونيّ الثقافيّ المحليّ المتنوع، ونسبة من بث البرامج الثقافية الأوربية؛ للتخفيف من لجوء القنوات التلفزيونية الأوربية إلى البرامج المستوردة من الدول الأجنبية، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية، مع تنويع مواعيد بثها؛ وعدم إدراجها في الساعات المتأخرة من الليل. وتحديد المدة الزمنية المخصصة لبث الإعلانات؛ سواء أكانت المدة مخصصة للقنوات التجارية أم مخصصة للقنوات التابعة للدولة؛لتحرير القنوات التلفزيونية من قبضة الإعلان، وما يمارسه من ضغوط على نوعية البرامج التلفزيونية وبخاصة الثقافية. وتعتقد دول الاتحاد الأوربيّ أن هذه الإجراءات تشكل الحدّ الأدنى الذي يمكّن التلفزيون من تطوير «الثقافة التلفزيونية».

الثقافة التلفزيونية والفهم المغاير

تختلف نظرة الأنثربولوجيين إلى علاقة التلفزيون بالثقافة عن نظرة الكُتَّاب والمثقفين النقديين؛ إذ يرون أن هذه العلاقة تتوقف على تعريفنا الثقافةَ، فالعالِم البريطانيُّ دين إدوارد تايلور عرّفها عام 1870م بالقول: «إنها الحضارة بمعناها الإنسانيّ الأوسع؛ أي ذلك المُركّب الكُلِّيّ الذي يشمل المعرفة والمعتقدات والفن والأخلاق والقانون والأعراف والقدرات والعادات الأخرى، التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا في المجتمع». فلو اعتمدنا على هذا التعريف، فالتلفزيون ذاته يتحوّل إلى مؤسسة ثقافية، وكل ما ينتجه أو يُقدّمه يندرج تحت الثقافة: برامج الطبخ،والأزياء، والرياضة، والمسابقات، والأفلام، والمسلسلات التلفزيونية، وغيرها؛ لذلك نلحظ أن كثيرًا من الدارسين والباحثين سعَوْا للكشف عن مساهمة المسلسلات التلفزيونية في إعادة بناء الهوية الوطنية، فالباحثة إميلي سياسكا تعاملت مع المسلسلات الأرجنتينية بوصفها مادة ثقافية تسعى لإعادة صياغة هُوِيّة الأرجنتين. والباحث بتراكيم لويس كارلوس بيّن في كتابه الموسوم بـ«وسائل الإعلام والسلطات والهويات» كيفية مساهمة المسلسلات في تشكيل الهوية البرازيلية.

ويمكن النظر إلى تجربة التلفزيون الأستراليّ من هذه الزاوية. لقد تبنّى هذا البلد نظامين للتلفزيون: النظام الأميركيّ، وهو نظام تجاريّ، والنظام البريطانيّ الذي يستند إلى تجربة قناة «بي بي سي» التي تتميّز من غيرها بخضوعها لشروط الخدمة العامة. فقناة إيه بي سي ABC الأسترالية وجّهت مسلسلاتها التلفزيونية في الثمانينيات من القرن الماضي إلى خدمة الذاكرة الشعبية، وتعزيز الشعور الوطنيّ بتاريخ أستراليا. ونعتقد أن بعض المسلسلات العربية التي بثّت في أكثر من فضائية عربية تصبّ في اتجاه تعزيز الذاكرة الجماعية، وتعضيد الهوية الوطنية.

النظرة إلى التلفزيون: متى نتحرر من سلطة اليقين؟

د. نصر الدين لعياضي

مجلة إذاعة وتلفزيون الخليج عدد 103 الصادر في يناير 2015

ما انفكت التحذيرات من أضرار التلفزيون على صحة العقل تتزايد من يوم إلى أخر، ويزداد معها الإقبال الواسع على برامجه المختلفة! فماذا تشي العلاقة الترابطية بين تزايد التحذيرات من التلفزيون وارتفاع عدد متابعي برامجه؟ قد يقول البعض أن السبب في ذلك يعود إلى أن قطاعا واسعا من الجمهور في العالم لا يملك من وسائل الترفيه سوى التلفزيون. إنه مضطر لمتابعة برامجه عملا بالقول المأثور: مرغم أخوك وليس بطلا. والبعض يرى في  كل تحذير ترغيب! وهناك من يفسر العلاقة الترابطية المذكورة أعلاه بأن مستوى وعي الجمهور تطور ويستطيع أن يميز بمفرده أضرار التلفزيون من منافعه. ولم يعد بحاجة إلى أي تحذير لأنه أمسى ينتقى ما يشاهد في زمن وفرة العرض التلفزيوني الذي يختلف كثيرا عن زمن ندرته. الندرة التي كانت تُجبر المشاهد على مشاهدة ما هو متاح ومتوفر فقط، وتحرمه من حرية الاختيار. والقليل من يعتقد أن هذه التحذيرات لم تكن مقنعة، وتجنح نحو التعميم الذي ينزاح بسرعة إلى المبالغة والتهويل. بمعنى أن هذه التحذيرات لم تستند كلها إلى معطيات علمية، خاصة في تركيزها على دور التلفزيون في استشراء العنف في المجتمعات المعاصرة. ومن هذا القليل نذكر الباحث الفرنسي “أريك ميغري” المختص في علم الاجتماع الإعلامي.

لاحظ هذا الكاتب أن البحث في موضوع وسائل الإعلام والعنف فتح باب الاستثمار المربح. فعلى سبيل المثال، أُنجز في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها 2500 بحثا ومقالا عن هذا الموضوع في مطلع الثمانيات من القرن الماضي، لم تفض إلى أي نتائج علمية ملموسة وحاسمة سوى التأكيد على عدم وجود نتائج. ويعتقد البعض أن ما توصلت إليه هذه البحوث لا يصب سوى في الدعوة إلى القيام بمزيد من البحث في هذا الموضوع! خاصة وأن الطلب الاجتماعي عليه يتزايد من سنة إلى أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية. فبالإضافة إلى الحكومات، والمحاكم، انضمت الهيئات المشرفة على ضبط البث التلفزيوني، والجمعيات العائلية إلى تمويل البحوث التي تروم استجلاء تأثير العنف التلفزيوني على المرأة والطفل، والأسرة بصفة عامة.

إننا نجانب الحقيقة لو اعتقدنا أن سعي مراكز البحث إلى جني المزيد من الأموال حال دون وصول البحوث في موضوع التلفزيون والعنف إلى نتائج علمية واضحة ومؤكدة . فالإيمان المطلق بالقدرة التفسيرية لنظرية تأثير وسائل الإعلام على الجمهور دور في ذلك. إذ أنها تتعامل، في الغالب، مع الجمهور ككتلة واحدة متجانسة، بصرف النظرعن مستواه التعليمي، وخلفيته الثقافية، ومعتقداته الدينية، ومستواه الاجتماعي، ودرجة تماسك روابطه الاجتماعية في حياته اليومية في مختلف الأطر الاجتماعية: الأسرة، والمدرسة، وأماكن العمل والعبادة، والأندية الرياضية، والنوادى الثقافية، وغيرها. فلعل البعض يتناسى أن وسائل الإعلام السوفيتية التي حشت أدمغة جمهورها بالدعاية لم تمنع الاتحاد السوفيتي من التفكك. ولم تحم وسائل إعلام ألمانيا الديمقراطية، سابقا، جدار برلين من الانهيار. ولم تقف سدا منيعا ضد تدفق سكانها إلى ألمانيا الغربية.

لقد ظلت الكثير من البحوث تسعى جاهدة إلى إثبات وجود علاقات سببية ومباشرة وآلية بين عنف الشاشة والعنف المستشري في الحياة اليومية. وهو الاقتناع الذي ظل راسخا حتى في الدول الليبرالية المتقدمة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ويستحضر الباحث المذكور أعلاه في هذا الصدد ما قامت به لجنة “جوزيف مكارثي”، في الخمسينات من القرن الماضي ضد ناشري الشرائط المرسومة  ومنتجي موسيقى الروك، حيث اتهمتهم بإفساد الشباب وتشجيعهم على الانحراف. وقد غضت الطرف عن العوامل الأساسية الكامنة وراء انحراف بعضهم، والسياق الجديد الذي طرأ على التربية داخل المجتمع وقلص من سلطة الآباء داخل الأسرة وغيّر طبيعة العلاقة التي كانت تربط الأبناء بأولياء أمورهم. فلا يمكن تحييد انتشار التعليم وتحسن مستوى المعيشة وتمتع الشباب بالاستقلال المالي الذي مدّد هامش حريتهم، فتجلى في سلوكهم اليومي.

إن الوقوع أسرى سلطة اليقين قد يجر الكثير من الآباء والمربيين، وحتى الباحثين إلى استنتاجات متسرعة عن دور التلفزيون في استشراء العنف. فحسب الباحث المذكور، إن الإنتاج التلفزيوني الياباني يتضمن أكبر قدر من مشاهد العنف، وأكثرها قسوة، من أي إنتاج تلفزيوني أخر في العالم، بدءا بأفلام الكارتون المسماة ” منغا”، التي يتابعها اليابانيون، بنهم إلى المسلسلات التلفزيونية. لكن اليابان يسجل أقل عدد من الاغتيالات والاغتصاب من بقية دول العالم. وقد سنت الولايات المتحدة ترسانة من القوانين للتصدى للعنف في شاشة التلفزيون أكثر من الدول الأوربية،  فلا تتضمن البرامج التلفزيونية الأمريكية الموجهة للأطفال أي مشهد للعنف. لكن هذا الإجراء لم يبعد الولايات المتحدة الأمريكية من أن تكون على رأس قائمة الدول في العالم التي يترتكب فيها أعلى معدل يومي من الجرائم.

لا يجب أن يفهم مما سبق ذكره أننا ندعو الهيئات المكلفة بتنظيم البث التلفزيوني إلى التخلى عن الإجراءات المتخذة لمحاربة العنف في برامج التلفزيون، سواء تلك التي تبث في وقت ذروة المشاهدة أو الموجهة للأطفال. فغاية الحجج المقدمة أعلاه لا تكمن في إقناع الآباء والمربين بالكف عن المطالبة بتقنين البث التلفزيوني على الصعيد المحلي أو الاقليمي لمنع استشراء العنف في الشاشة الصغيرة بحجة أن العنف الممارس في الحياة اليومية لا علاقته مطلقا بما يبث في الشاشة. لقد تناهت إلى مسامعنا قصة ذاك الطفل التي رمى نفسه من نافذة بيته في عمارة ليرى هل يستطيع أن يحلق مثل بطل مسلسل ” الرجل العنكبوت” سبيدرمان”! وقد اطلعنا على العديد من الدراسات التي أنجزها علماء النفس، وذهبت إلى ما ذهب إليه الفريق العلمي الذي قاده روال هيسمان، والذي أجرى بحثه عن العنف في التلفزيون، في 1982، في كل من أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وهولاندا، وإسرائيل، وفيلاندا، وبولندا، و أكد فيه أن الأطفال والشباب الذين من الممكن أن يسلكوا سلوكا عدوانيا وعنيفا هم الذين يشاهدون أفلام العنف أكثر من بقية زملائهم الذين يتجنبون  مشاهدتها.

إذا سلمنا بصحة هذه النتيجة التي توصلت إليها العديد من البحوث، فهذا يعني ضرورة الالتزام بغض البصر عن الوسط الاجتماعي للأطفال والشباب، ووضعهم الأسري، وتجربتهم العاطفية، وخلفياتهم النفسية، والسياق الذي يعيشون فيه وما يفرزه من تصور لماهية العنف. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى ما ذكره الناقد السينمائي إبراهيم العريس في كتابه الموسوم بـ ” الكتابة في الزمن المتغير، الصادر عن دار الطليعة ببيروت في 1979. لقد أكد أنه شاهد فيلم ” البرتقالة الميكانيكية” للمخرج السينمائي ستاليني كوبيرك، المقتبس عن الرواية التي تحمل المسمى ذاته للروائي البريطاني أنطوني برجيس، في لندن، في منتصف السبعينات من القرن الماضي. ولاحظ أن الجمهور اللندني غادر القاعة، قبل نهاية الفيلم، باكيا ومرعوبا مما تضمنه من عنف.  وشاهد الفيلم ذاته في بيروت في أوج الحرب الأهلية اللبنانية، لكن الجمهور البيروتي تابع الفيلم دون أن يقشعر له بدن أو يرف له جفن. فالعنف الذي عانى منه المواطن اللبناني، في تلك السنوات، في شارعه، وحيه السكني كان أشد من عنف الفيلم المذكور وأقسى.

هل يتحول الجمهور إلى شريك وسائل الإعلام؟
د. نصر الدين لعياضي

مجلة الشروق الإماراتية الصادرة في 28 ديسمبر 2015- 3 يناير 2016

هل يوجد من يشكك في ما صرح به بيز ستون، أحد مخترعي موقع شبكة “تويتر”، في 2010؟ لقد أكد على أن ” تويتر” ليست شبكة اجتماعية، بل شبكة إخبارية، وبفضلها لم يُعدّ الواب أنبوبا تتدفق عبره الأخبار فقط، بل تحول إلى مصدر إخباري. لا أحد يعتقد أن الفرنسيين هم الذين يشككون في صحة هذا التصريح لأنهم شاهدوا يوم 19 مايو 2011 مذيع نشرة أخبار قناة ” بي أف أم” التلفزيونية وهو يقرأ على شاشة الكمبيوتر نصوص “التغريدات” عبر موقع شبكة “تويتر” عن إحالة دومنيك ستروسكان، المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، إلى العدالة وهو يدلي بشهادته أمام القضاة في محكمة نيويورك، على إثر الدعوة القضائية التي رفعتها عليه ” نفيستو دليالو” عاملة التنظيف بفندق سوفيتال، واتهمته فيها بالتحرش. هذا في وقت لم تسمح فيه المحكمة للصحافيين من إدخال آلات التصوير إلى قاعة المحكمة.
تغريدات التغيير
لقد كشفت ” التغريدات” المذكورة عن شكل من تفاعل وسائل الإعلام المعاصرة مع الأحداث والتزامها الشديد، وغير مسبوق، بالآنية ، والسعي إلى إثراء مصادر أخبارها والاستعانة بالجمهور لتغطية بعض الأحداث. بالفعل، لقد أصبحت الكثير من وسائل الإعلام تتجه إلى جمهورها لتقديم شهادته المكتوبة أو المصورة أو المسموعة عن الأحداث التي عاشها أو كان شاهدا على وقوعها، وذلك عبر الوسائل المختلفة: الهاتف، ومواقع الشبكات الاجتماعية والمدونات الإلكترونية. لعل القارئ الكريم يتذكر الكثير من الكوارث الطبيعية والأحداث الجسام التي استعانت فيها وسائل الإعلام المختلفة بالصور والشهادات التي تزاحمت في مواقع الشبكات الاجتماعية: تويتر، وفيسبوك، ويوتيب. ولن تكون أخرها المظاهرات التي عاشتها مدينة ” فرغيسون” في ولاية ميسوري بالولايات المتحدة الأمريكية يوم 9 أغسطس 2014 على إثر قيام شرطي أبيض بإطلاق النار على شاب أمريكي أسود أعزل ومسالم فأرداه قتيل. لقد جعلت بعض الصحف من قرائها الأوفياء مراسلين محليين لما يجري من أحداث في حيهم السكني أو قريتهم أو مدينتهم يزودونها بالأخبار والصور. ليس هذا فحسب، بل أن بعض الصحف دعت قرائها إلى المساهمة في إنجاز تحقيقاتها الصحافية. إذ يمكن أن نذكر، على سبيل المثال، ما قامت به صحيفة “الجارديان” البريطانية في يونيو 2009، على إثر تسريب شائعات تتعلق بخروقات وتجاوزات في نفقات ممثلي مجلس العموم البريطاني. فسعت إلى امتلاك 458000 صفحة من فواتير مصاريفهم، وأدخلتها في موقعها في شبكة الانترنت، وطلبت من قرائها ومستخدمي شبكة الانترنت مراجعتها والتدقيق فيها. وقد ساهم في هذه العملية 28 ألف شخص! وقد تبنت صحيفة ” دوفيني ليبري”، وهي صحيفة محلية تصدر في مدينة غرونبول الفرنسية، الأسلوب ذاته في التحقيق الصحفي الذي نشرته عن انتقال البث التلفزيوني إلى النمط الرقمي الأرضي. لقد حددت السلطات الفرنسية نهاية 2009 كآخر أجل لهذه العملية لوضع حد لاستقبال برامج البث التلفزيوني التناظري لكنها تأخرت إلى غاية 2011 ورافقتها حركة احتجاج المواطنين على الاضطرابات التي حدثت في استقبال برامج القنوات التلفزيونية الفرنسية الرقمية. ولمتابعة هذه العملية وجهت الصحيفة المذكورة نداءً إلى قرائها في المنطقة التي توزع فيها ليقدموا شهادتهم عن معايشتهم هذا الانتقال في البث. فاستجاب لها 1200 قارئ خلال شهري نوفمبر وديسمبر2011. وهكذا استطاعت هذه الصحيفة أن تقدم مادة دسمة وموثقة استفادت منها السلطات في تجاوز بعض المشاكل وتصحيح بعض أوضاع البث.
من قال أن الجمهور سلبي؟
لقد أصبح مالكو القنوات التلفزيونية وصحافيوها يعوون أن قسما من جمهورها يعلق عبر شبكة تويتر أو الفيسبوك أو اليوتيوب على برامجها بشكل متزامن مع بثها. واقتنعوا بالفكرة التي مفادها أن جمهور وسائل الإعلام سلبي وساكن قد عفا عنها الزمن، وتوارت في الماضي البعيد مع التخيلات الناجمة عن نظريات التأثير المطلق التي ازدهرت في منتصف المنتصف الأول من القرن العشرين، واحتفت بها الأيديولوجية الشمولية أيّما احتفاء. فالكثير من الشواهد تثبت بشكل قاطع أن الجمهور لم يعد يبلع ما يقدم له من ” وجبات إعلامية” دون امتعاض أو معارضة أو عزوف، إنه جمهور متفاعل وفعال. وقد طورت وسائل الإعلام استراتيجيتها من أجل استثمار طاقته التفاعلية بمختلف الأساليب، لعل أقدمها هي المنتديات لإلكترونية التي فتحتها الصحف في مواقعها في شبكة الانترنت بدءا من 1995. يليها نشر التدوينات الإلكترونية لبعض المدونين، وفتح المجال للتعقيب والتعليق على المقالات الصحفية التي تنشرها، وعلى البرامج المسموعة والمرئية في مواقع القنوات التلفزيونية والإذاعية التي أنشأتها في شبكة الانترنت، بل أن وسائل الإعلام أصبحت ترصد ما يدور في منصات الدردشة الإلكترونية من مواضيع، وما يدرج من” توسيمات” في موقع تويتر لتطبخ منه وجبات إعلامية، وتغذي به مواقعها الإلكترونية.
حدود التفاعل:
اقتنعت وسائل الإعلام المعاصرة بضرورة تغيير نظرتها لذاتها. فالكثير منها لم يعد تعتقد أنها مدرسة موازية، وأن صحافييها معلمون يلقنون دروسا للجمهور الذي يعتبرون تلميذا. لقد أصبحت النظرة إلى الجمهور تتأرجح بين كونه زبونا أو مواطنا. ومهما كان موقع هذا الجمهور فهو عنصر فاعل. والسؤال المطروح يتمثل في حدود فاعليته في المستقبل؟ فهل يمكن التسليم بما أصبح يشاع بأنه تحول إلى منتج للإعلام، وأمسى كل شخص يملك أداة تكنولوجية بسيطة ” كاميرا رقمية” ووسيلة اتصال بشبكة الانترنت “وسيلة إعلامية”، على حد تعبير الصحافي الأمريكي ” دان غلمار”، في زمن ما انفك عدد الذين يطلعون على الأخبار في شاشة هاتفهم الذكي يتزايد باضطراد من سنة إلى أخرى؟
إن وسائل الإعلام المعاصرة تتجه بقوة إلى المزيد من الانفتاح على جمهورها بتوسيع مصادرها الإخبارية وتنويعها في إطار ما أصبح يعرف بمصادر الحشد أو المصادر الشعبية crowd sourcing. و تجتهد في تفعيل حضورها في مواقع الشبكات الاجتماعية. كل هذا لا يمكن أن يخفي الرغبة الجامعة في الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور حيثما يوجد وفي مختلف المستويات. الرغبة التي تشحذها المنافسة الشرسة وتحركها دوافع تجارية لا تفرض على مختلف وسائل التقرب من الجمهور فحسب، بل تتطلب منها الالتصاق به، وإرهاف السمع إلى ما يرضيه، وما يريد أن يقرأ أو يستمع أو يشاهد، لكن ليس على حساب مشاريعها التجارية وأهدافها السياسية والإيديولوجية. وهذا ما يؤكده المستقبل القريب الذي بدأ يكشف عن حدود تفاعل الجمهور. فبعد وكالة رويترز للأنباء، ومجلة ” بوبيلر ساينس”، وصحيفة “شيكاغو سن تايمز”، جاء دور صحيفة الإلكترونية ” ذو ديلي دوت” التي أنشئت قبل خمس سنوات فقط، وصحيفة “تورنتو سن” لتعلق، يوم 24 سبتمبر الماضي، تعليقات القراء على المواد التي تنشرها، وتحرمهم من التعقيب عليها. وقد بررت هذه الصحف ما أقدمت عليه بأن بعض التعاليق التي تصلها مجهولة الهوية وسلبية وماكرة. وأن نظام التعليقات الذي تتبعه الآن لا يخدم كل القراء. لكن ما لم يقال عن هذه التجربة أن الصحف أصبحت توجد صعوبات كبرى في إحداث التناغم والانسجام بين خطابها وخطاب قرائها والمعلقين على ما تنشره في مواقعها في شبكة الانترنت. لذا لم تعد ترى جدوى من هذه التعليقات. هذا ما عبر عنه أحد الصحافيين في صحيفة ” النوفل أبسرفتور” الفرنسية، نقلا عن مدونة ” جيف جرفيس”، إذ أكد قائلا: عندما ننتهي من عملنا، نأذن للجمهور بالتعليق على ما نكتبه. إننا نرمي به إلى الجهة الأخرى من الجدار، ونترك الناس يعبرون عن ردود أفعالهم تجاهه. وننسحب إلى قصرنا حتى لا نسمعهم. إنهم يعرفون أنهم لا يتحدثون سوى إلى الطوب. وفجأة يبدأون بالصراخ، فيملؤون الجدار بالخربشات. إننا ببساطة نملك سلطة تنظيف الجدار من هذه الفوضى التي عمته. لقد هاجرنا الساحة فغطت الخربشات، بسرعة، جدران القصر.(
الخوف من الخضوع.
لن يكن حظ المنتديات الإلكترونية أفضل من التعليقات على ما تنشره وسائل الإعلام في مواقعها في شبكة الانترنت. فغاية هذه المنتديات التي أنشأتها الصحف تروم، بالأساس، إنشاء جماعات، وإقامة علاقات دائمة مع الجمهور. فتُعَين منشط النقاش بين المشتركين في هذه المنتديات لا دور له سوى ضبط النغمة وتأطير النقاش حول المحاور المحددة سلفا. ومن يتابع ما يجرى في هذه المنتديات يشعر بانفصالها عن الصحف الورقية أو الإلكترونية التي أنشأتها. والسبب في ذلك، كما يعتقد البعض، يعود إلى أن هيئات تحرير هذه الصحف تستصغر الانتقادات التي يعبر عنها مستخدمو الانترنت في هذه المنتديات بحجة عدم تمثيلهم لمجمل قراء الصحيفة أو لضعف تعليقاتهم. لكن الباحث الفرنسي “رمي ريفل” يوعز هذه القطيعة إلى أن هذه المنتديات التي تسمح لوسائل الإعلام بمعرفة أكثر لجمهورها تدري تبعات هذه المعرفة. إنها خطيرة ويمكن أن تنتهي بالخضوع المتزايد لهذا الجمهور!

%d مدونون معجبون بهذه: