نصر الدين لعياضي
نشر بصحيفة الخبر يوم 29/ديسمبر 2016
ظل السؤال ذاته يتردّد علي منذ أول لقاء لي مع طلبة الدكتوراه طيلة السنوات الثلاث الأخيرة. والسؤال هو كالتالي: هل يمكن لي أن أعرض أفكاري في بحثي؟ لقد اندهشت من هذا السؤال حد الذهول. وحاولت أن أتبين سبب طرحه. فكان الجواب واحدا ووحيدأ عبر عنه كل مرة أحد الطلبة بالقول: لقد نبهني أستاذي إلى ضرورة إسناد كل فكرة في مذكرة الماستر إلى مرجع. ولما أخبرته بأنها أفكاري نهرني بقوله من تكون أنت حتى تكون لك أفكار؟
لقد دأبت على الإجابة عن هذا السؤال مستعينا بما قاله مونسيكو في رسائله الفارسية التي كتبها في 1721م، والذي أكد في أحد مقاطعها ما يلي: “ليس في المؤلفين قط أولى بازدرائي من الجمّاعين الذين يأخذون من هنا وهناك أجزاء من كتب غيرهم ويضمّونها كتبهم كقطع من العشب في روضة، وليسوا في عملهم هذا أفضل من عمال المطبعة يرتبون الحروف ويصفونها. ثم يطبعون كتابا لا يبذلون فيه إلا عملا يديويّا. لهذا أريد ألا يحترم الناس إلا الكتب الأصيلة المبتكرة” .
بالطبع إن هذا المقطع لم يمح أمامي مرارة ما جنيناه بعد 17 سنة من التعليم في مختلف مراحله: تكوين جيل من الشباب مشلول ليس لأنه لا يفكر فحسب، بل لأنه مسلوب التفكير في محاولة التفكير. لكن من باب الإنصاف وحتى لا أتهم بالمزايدة على بعض زملائي الأساتذة يمكن أن التمس لهم العذر في خشيتهم من الغش وانتحال أفكار الغير، وحرصهم على الآمانة العلمية في البحث. أميل إلى الاعتقاد أن الخشية من الانتحال بهذه الطريقة تشبه ما قام به ذاك الوالد الذي خشي على إبنه الصغير من الانحراف وامتهان الجريمة مستقبلا فقام بقتله! فَشَلُّ قدرة الطالب الجامعي على التفكير يعدّ بمثابة الحكم عليه بالإعدام.
لقد سعت الجامعات الأجنبية إلى محاربة الانتحال برقمنة التعليم في أصغر جزئياته أولا، ثم شراء حقوق الملكية الفكرية للبرامج الكمبيوتر الكاشفة عنه، ورفع تقارير فصلية عن حالات الانتحال في كل قسم وعرض الإجراءات المتخذة ضد المُنتَحِلين، وترسيخ مبدأ الاختصاص العلمي، فمن لم يقرأ حتى مقالا صحفيا عن التلفزيون أو مواقع الشبكات الاجتماعية طيلة حياته ناهيك عن البحوث والدراسات لا يستطيع أن يعرف من كتب ماذا عن التلفزيون أو مواقع الشبكات الاجتماعية بلغتين على الأقل، حتى يستطيع أن يستدل على ما يتم نهبه من هذا الباحث أو ذاك الكاتب.
ربما يجد البعض مبررا آخر لشل تفكير الطالب، ويربطه بوضع المجتمع ككل الذي يئد التفكير ناهيك عن اختلافه و استقلاليته أو يربطه بوضع المنظومة التعليمية والجامعية على الخصوص التي ” تجتهد” في تكوين جيل لا يتقن سوى الاستماع والحفظ عملا بمقولة ” هذا بضاعتكم ردت إليكم”. لكنني أميل إلى الاعتقاد أن الأمر أدهى وأمر ألتفت إليه الباحث هشام شرابي في مذكراته عن فترة دراسته في جامعة واشنطن في نهاية أربعينات القرن الماضي، إذ يقول: ) بعد أن جمعتني صداقة قوية مع أستاذي أرنولد برجستارسر Arnold Bergstraesser الألماني ( 1896- 1964)، أستاذ مادة ” فلسفة نتشه”، بعث له برسالة ألومه فيها بلباقة ولطف على تعاطيه الفاتر مع هذا الفيلسوف وافتقاده النزعة النتشوية في تدريس نتشه. فجائنى رده كالتالي: لا يمكن للجامعة في هذا العصر أن تسمح لنفسها في أسلوب طرحها للقضايا الفكرية وطرائق معالجتها لهذه القضايا إلا أن تنطلق من موقف نقدي غير متحيز. إنّ معالجة نتشه معالجة الملتزم، كما تقترح في رسالتك، إنما هو أمر يتعارض كليا مع هدف الجامعة ومهمتها. إن اتباع أسلوب كهذا يؤدي حتما إلى اتخاذ موقف متحيز إزاء كل فلسفة أو اتجاه فكري. إذ أنه يفترض من الأستاذ أن يكون من المؤمنين بتلك الفلسفة أو الاتجاه الفكري ويدرسها كعقيدة وإيمان، الأمر الذي يؤدي إلى نسف الأسس الفكرية المستقلة التي تقوم عليها الجامعة. كمؤسسة ثقافية مستقلة، وفي مقدمتها الحفاظ على لغة فكرية مشتركة وقدرة على التفاهم المتبادل الذي يقوم على التحليل الموضوعي والحوار المفتوح(
فماذا لو بعث أرنولد برجستارسر الذي لازال معهد في ألمانيا يحمل إسمه، وهو بالمناسبة أكبر مؤسسة للدراسات السياسية في أوربا، حيا ودلف إلى بعض مدرجاتنا وهو يرى بأم عينه كيف نُسف العلم ويتحوّل إلى عقيدة تفرض على الطلبة فرضا. لعله يرى أن مجرد طرح السؤال أعلاه يعدّ نوعا من الجرأة إن لم يكن استفزازا.