نصر الدين لعياضي
يوجد العديد من المنصات الرقميّة في شبكة الانترنت التي تبث الأفلام والمسلسلات التلفزيونية عبر شبكة الانترنت، تملكها شركات استثمارية من جنسيات مختلفة، مثل ” اليوتيوب” و” الديليمشن” و” ديريمفيديو”، و” هولو” و” روستيوب”، وغيرها من المواقع التي تبث مسلسلات الواب، لكن تظل منصة ” نتفليكس” الأمريكية تشكل الاستثناء تقريبا، لما تثيره من قلق وتخوف لدى أصحاب القرار في الاتحاد الأوربي، وفي صفوف صناع المواد التلفزيونية والأفلام السينمائية الأوربيين. فما هو السر في ذلك؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال من حق القارئ الكريم أن يعرف ما هي “نتفليكس” إن كان لم يسمع بها من قبل.
تأسست شركة “نتفليكس” في 1997 بالولايات المتحدة الأمريكية، واشتهرت بقيامها بتأجير شرائط ” الدي في دي” عبر البريد. وبعد عشر سنوات من هذا التاريخ، وبعد التطور الذي شهدته تطبيقات شبكة الانترنت، تخصصت في تقديم خدمة شرائط الفيديو عند الطلب والتي يمكن مشاهدتها عبر الحوامل المختلفة: الكمبيوتر، الهاتف الذكي، اللوح الإلكتروني. وفي 2012 مدّت نشاطها ليشمل كندا، وبلدان أمريكا اللاتينية وأوربا الغربية . وفي 2017 شرعت في إنتاج الأفلام والمسلسلات وبثها الحي والمتواصل والاستدراكي في الوقت ذاته عبر الانترنت إلى مشتركيها الذين بلغ عددها 125 مليون مشتركا في 190 بلدا في العالم!
إن ما حققته شركة ” نتفليكس” خلال عشرين سنة أصبح لافتا للنظر ومثيرا للغيرة. لكن يوجد العديد من الشريكات التي سارت على خطاها وحققت قدرا من النجاح على الصعيد الأوربي، يمكن أن نذكر ،على سبيل المثال، “سكاي دوتشلاند” الألمانية التي وسعت نشاطها إلى النمسا وسويسرا. أو على صعيد البلد الأوروبي الواحد. إذ أحصى المركز الوطني الفرنسي، في 2015، وجود 90 مؤسسة تقدم خدمة تشبه الخدمات التي تقدمها شركة ” نتفليكس”، نذكر منها ” فيديو فيتشر”، ” وفليموتيفي”، والفرع التابع لشركة اتصالات الفرنسيّة ” أورنج” المختص في بث الأفلام السينمائيّة والذي بلغ عدد مشتركيه مليوني مشتركا، والشركة التابعة لقناة بلاس التلفويونيّة الفرنسيّة ” كنال بلي انفنتي” التي بلغ عدد مشتركيها عشرة ملايين مشتركا.
فلماذا إذا التخوف من شركة ” نتفليكس” في بلد مثل فرنسا، على سبيل المثال، والتي لم يتجاوز عدد مشتركيها 4.5 مليون مشتركا، وأن 11% من الفرنسيين فقط يعلمون بوجود هذه الشركة الأمريكية ؟ يمكن العثور على الاجابة عن هذا السؤال من العناصر التالية:
المخزون السمعي- البصري:
تملك شركة ” نتفليكس” مخزونا رهيبا من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، الكثير منها سقط عنه حقوق المؤلف وأصبح في حكم الملك المشاع ، وبعضها اشترت حقوق بثه، وساهمت في تمويل إنتاج بعضه الآخر. وبهذا أصبحت تبث ما يعادل 140 مليون ساعة من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية يوميا. وهذا الحجم يساوى 5.8 مليون يوم؛ أي ما يعادل 15.891 سنة! بعبارة أخرى ، يقضي المشتركون في خدمات “نتفليكس” مجتمعين كل يوم ما يقارب 160 قرنا في متابعة ما يبثه من أفلام ومسلسلات تلفزيونية ، وما يعرضه من شرائط فيديو وفق طلبهم!
إن هذا الحجم الكبير من المواد السمعية-البصرية التي تبثها شركة ” نتفليكس” بشكل حي ومتواصل أو مستدرك يثني عزيمة كل شركة تطمح إلى منافستها. وقد أدركت شركة نتفليكس” جيّدا هذا الأمر، لذا تراهن على أوربا لأن عدد الأوربيين المستفيدين من شبكة الانترنت ذات التدفق العالي بلغ 134 مليون شخصا مقابل 88 مليون شخص فقط في الولايات الأمريكية.
تؤكد الإحصائيات أن 30% من عرض نطاق البث عبر شبكة الانترنت تحتكره خدمات شركة ” نتفليكس” في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا في زمن ذروة البث! وقد احتجت الشركات المختصة في خدمات الاتصالات اللاسلكية وعبر الكبل (Cable ( لدى المحكمة الفيدراليّة الأمريكيّة على هذا الاحتكار الذي تمارسه هذه الشركة دون أن تدفع درهما في بناء البنيّة القاعدية لشبكة الانترنت. ومن المحتمل أن تمارس الاحتكار ذاته على عرض نطاق بث الانترنت في بلدان أوربا الغربية دون أن تساهم في صناعته.
الإعفاء من الالتزامات:
تعاني القنوات التلفزيونية والشركات الأوربية التي تقدم خدمة الفيديو حسب الطلب من ازدواجية القوانين التي تثقل كاهلها. فهي تخضع لقوانين بلدها الأصلي الذي يفرض عليها بث 40% من الإنتاج الوطني، وقوانين الاتحاد الأوربي التي تكبل نشاطها بجملة من الالتزامات ، مثل عدم تجاوز مدة بث الإعلانات 12 دقيقة في الساعة، وحظر الإعلان عن السجائر والأدوية. وإجبار القنوات التلفزيونية على نقل الأحداث الكبرى، مثل الألعاب الأولمبية ، والبطولات الرياضية الدولية ليستفيد منها جميع المشاهدين الأوربيين وعدم جعلها حكرا على القنوات التلفزيونية غير المجانية. وتخصيص أكثر من نصف مدة البث للأفلام والمسلسلات التلفزيونية الأوربية بما فيها تلك الناطقة بلغة بلدها الأصلي؛ أي بلغة أهل البلد الذي تبث فيه، وغيرها من القوانين الزجريّة ، بينما تعفى شركة ” نتفليكس” من كل هذه الالتزامات بحكم أنها شركة غير أوربية.
لقد اختارت الشركة ” نتفليكس”” لوكسنبورغ” ليكون مقرا لنشاطها. ومنه توجه خدماتها لزبائنها في البلدان الاسكندينافية، بريطانيا، وهولندا، وبلجيكا، وفرنسا. وذلك لتلتف على قوانين هذه البلدان. إذ أنها لا تدفع 20% من ضريبة القيمة المضافة التي تخضع لها الشركات الفرنسية العاملة في القطاع السمعي- البصري، على سبيل المثال، ولا تخصص جزءا من عائد أرباحها لدعم الصندوق الوطني للسينما. ويمكن لها بث الأفلام السينمائية متى تشاء، خلافا للقنوات التلفزيونية والشركات التي تقدم خدمات الفيديو وفق الطلب الفرنسيّة التي يمنع عليها بث الأفلام السينمائيّة قبل ثلاث سنوات من إنتاجها ، أي بعد أن تعرض في قاعات السينما. وهذا المنع فرضته السّياسيّة الوطنيّة لتدعيم الإنتاج السينمائي الفرنسي الذي يعاني من أزمة. فمختلف المصادر تؤكد أن 36 فيلما فرنسيا فقط حظي بأكثر من مليون مشاهد في القاعات السينمائيّة من أصل 210 فيلم سينمائي.
وبالمقابل لا تلتزم شركة “نتفليكس” سوى بدفع حقوق المؤلف عن الأفلام والمسلسلات الأوربيّة التي تبثها. وهذا في متناولها نظرا لضخامة ميزانيتها التي تصل إلى سبعة ملايير دولار.
ونظرا ثقل الأعباء الماليّة التي تفرضها ازدواجية القوانين المذكورة أعلاه، تعجز الشركات الأوربية المنافسة مجاراة شركة ” نتفليكس” في تسعيرة خدماتها، والمحددة بــ 7.99 دولار شهريا لكل مشترك.
إعادة التأهيل
يعيش قطاع السينما والتلفزيون تغييرا جذريا على الصعيدين التقني والاقتصادي. لقد أدى مبدأ المواءمة التقنية إلى إنتاج المادة السمعية-البصرية ليمكن بثها وتوزيعها عبر الحوامل المختلفة المتاحة: التلفزيون، الكمبيوتر، الهاتف الذكي، واللوح الإلكتروني. وهذا يعني الزيادة في عدد مشاهديها، أي مشتركيها، مما يرفع عائدها المالي. فالأفلام التي تنتج لتعرض في قاعات السينما فقط لا تستطيع أن تنافس تلك التي يمكن بثها عبر الحوامل المذكورة أعلاه.
إن مواكبة هذا التغيير التقني يتطلب من العديد من دول العالم إعادة النظر في تكوين اليد العاملة المختصة في إنتاج المواد السمعية- البصرية وبثها، وإعادة تأهيل من التحقوا للعمل في هذا القطاع قبل أن تغمره التكنولوجيا الرقميّة. والتكوين وإعادة التأهيل يحتاج إلى كثير من الأموال قد يفتقدها قطاع السينما والتلفزيون التقليدي الذي يعاني من شح موارده الماليّة.
نشأت السينما والتلفزيون وترعرا في ظل اقتصاد العرض الذي جعل التنافس يخضع إلى منطق القفز في المجهول، أي المغامرة في الإبداع لزيادة الطلب. لكن التكنولوجيا الرقميّة أحدثت انقلابا جذريا في صناعة السينما والتلفزيون و اخضعتها إلى اقتصاد الطلب. وإن كان هذا الاقتصاد ساهم ويساهم في ترشيد الإنتاج السينمائي والتلفزيوني وزاد من أرباح شركاته إلا أن كلفته الثقافيّة لا يمكن تقديرها بأي ثمن نظرا لتبعاتها السلبية على تكوين الهويّة الثقافيّة. فهامش الابداع والابتكار تراجع ليفسح المجال لــ ” لشطحات” التكنولوجيا التي تبهر بمؤثراتها السمعية والبصرية. فاقتصاد الطلب أجبر هذه الصناعة على أن تتغذى مما هو مكرس ثقافيا ومستهلكا.ونقل سلطة القرار في الانتاج السمعي- البصري من المنتج والمخرج ووضعها في يد ” الخوارزميات “.
قوة الخوارزميات
تؤكد نتالي سوناك، أستاذة علوم الإعلام والاتصال بجامعة السربون الفرنسية أن نجاح ” نتفليكس” لا يكمن في استعداده المبكر للتكيّف مع التحوّلات التي طرأت على سلوك مشاهدي المادة السمعية- البصرية فحسب، بل في خوارزمياته التي تغربل وتنتقي وتحلّل بشكل تفصيلي عادات كل مشاهد لهذه المواد عبر شبكة الانترنت: ماذا يشاهد من أفلام ومسلسلات؟ ومتى يشاهدها؟ ومتى يتوقف عن مشاهدتها؟ وما هي مقاطع الأفلام الطويلة التي يعيد مشاهدتها؟ وما هو حجم الصوت الذي يفضله لمتابعة الأفلام؟ وغيرها من التفاصيل التي يجيب عنها 900 مهندس يعمل في هذه الشركة ويتابع بث 300 مليون ساعة من الأفلام والمسلسلات أسبوعيا.
إن تحكم شركة “نتفليكس” في عادات وأذواق المشتركين بهذه الخوارزميات يسمح لها بالتفوق على منافسيها الأوروبيين والأمريكيين، مثل : ” هولو”، و” أمازون برايم فيديو”، ويمنحها قوة تنبؤية لبث المحتويات التي تتناغم مع ما ينتظره زبائنها. والنتيجة أن الجمهور ينتهي في آخر المطاف إلى التنازل عن مبدأ الاختيار ، الذي يعد المبدأ المقدس في قانون المنافسة، ويكتفي بما تقدمه له شركة ” نتفليكس”. وهذا ما دعا الأستاذة الجامعية المذكورة أعلاه إلى القول بأن ” نتفليكس” هو المعول الذي يقبر المطلب الذي ظلت فرنسا تكافح من أجله داخل المنظمات الدولية، خاصة على مستوى منظمة التجارة العالمية. إنه مطلب ” الاستثناء الثقافي” الذي يسهر على الحفاظ على الخصوصية من الذوبان في الثقافة الأمريكية.