تنويه : نشرت هذه القراءة لكتاب بيار بورديو عن التلفزيون في مجلة اتحاد الاذاعات العربية، العدد الأول -2019. ولم يتم تنزّيلها في موقع هذه المجلة في شبكة الانترنت ، لذا ارتأينا وضعها بين يدي القارئ الكريم.
يمكن للقارئ المختص أن يعود إلى كتاب جون ماري بيام الموسوم: “التلفزيون كما نتحدث عنه” ليقرأ كتاب بيار بورديو عن التلفزيون؛ أي التلفزيون كما نمارسه. ليتأكد من التواصل والترابط بين التمثل والممارسة في الفكر النقدي لوسائل الإعلام.
يعدّ المؤلف الذي أصدره بيار بورديو في 1996 من الكتب القليلة جدّا التي تناولت موضوع التلفزيون وحققت نجاحا باهرا . لقد ترجم إلى 26 لغة، منها اللّغة العربية التي قام بها درويش الحلّوجي ، وأصدرتها دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية بسوريا في 2004. وقد اختار المترجم العنوان الموسوم أعلاه بدل عنوانه الأصلي الصادر باللّغة الفرنسيّة : عن التلفزيون ، وقبضة الصحافة.
لقد أصبح الكتاب المذكور مرجعا أساسيّا في علم الاجتماع الإعلامي لأنه لم يعكف على نقد التلفزيون الفرنسي ، بل سعى إلى التنظير إلى إكراهات العمل التلفزيوني وتبيعاته ورهاناته في الصحافة بصفة خاصة، والحقل الثقافي والفني والسياسي بصفة عامة.
يتكوّن الكتاب من الفصول التالية : المسرح والكواليس، و البنية الخفية وتأثيراتها. إضافة إلى ملحقين، الأول خاص بهيمنة التلفزيون على الصحافة المكتوبة وعلى سائر الإنتاج الثقافي والفني والعلمي. والثاني خاص بتأثيره على الحقل السياسيّ.
وتلتقي هذه الفصول كلّها في محورين أساسيين شكلا لب المحاضرتين التي ألقاهما بيار بورديو واستنسخا منهما هذا الكتاب. المحور الأول يتعلق بآليات الرقابة والتلاعب غير المرئية التي تمارس في التلفزيون التي فضحها المؤلف كاشفا عن أسرار صناعة الخطابات التلفزيونية. والمحور الثاني يتناول بالتفسير كيف أفسد التلفزيون إدارة مجالات مختلفة ومتنوعة، مثل الفن والآداب، والسياسة، والقضاء، والعلوم.
يتضمن المحور الأول العديد من الأبعاد.
البعد الأول يتعلق بأسباب الرقابة والتلاعب ويوعزها بيار بورديو إلى جملة من الأسباب السياسية والاقتصادية بدءًا بسياسة تعيين المسؤولين على رأس المؤسسات التلفزيونيّة، والرقابة الذاتية التي يمارسها الصحافيون والمذيعون نظرا لهشاشة وضعهم المهني وصولا إلى الإكراهات الاقتصادية التي تُخْضع التلفزيون إلى منطق السوق فتصيبه بحُمَى قياس مشاهدة برامجه ليؤكّد لشركات الإشهار والتسويق على مدى شعبيته. وهذا هو السبب في نظر الكاتب الذي يجعل القنوات التلفزيونيّة تميل إلى بثّ الأخبار الخفيفة والطريفة والخارجة عن المألوف التي لا تطرح أيّ رهان وتستطيع أن تجمع أكبر عدد من المشاهدين. ويرى بيار بورديو أنّ بثّ هذه الأخبار يستقطع من وقت التلفزيون ، أي أنها تملأ هذا الوقت الثمين بالفراغ. فالفراغ الذي يخصص له وقتا ثمينا يصبح نفيسا بدوره. وتبث هذه الأخبار على حساب الأخبار الجادة والهامة التي تساعد المشاهدين على فهم مشاكلهم المعقدة واستبصار واقعهم. وبهذا يعمّق التلفزيون الهوة الفاصلة بين الفئات التي تملك الإمكانيات والكفاءة لتشكيل ثقافتها السيّاسيّة من الكتب والصحف والمجلات والفئات الشعبيّة التي لا تتغذى سوى بأخبار التلفزيون.
بعد استعراض أسباب الرقابة والتلاعب، ينتقل صاحب هذا الكتاب إلى الكشف عن أشكال هذا التلاعب وأسلوبه. فيؤكّد في هذا الباب أن التلفزيون يقوم بما يقوم به الساحر، يلفت نظر الجمهور إلى شيء ما من أجل إخفاء شيء آخر أهمّ. وقد وسم هذه الطريقة بــ ” الإخفاء عبر الإظهار” ويقصد به إظهار حدث قليل الأهمية وإبرازه وإلهاء المشاهدين به من أجل إخفاء حدث آخر أهمّ وربما أخطر. وتأريخ التلفزيون المعاصر يقدّم لنا الكثير من الأمثلة التي تؤكّد هذا الأمر.
لا يستطيع التلفزيون الذي يسعى بكلّ جهده من أجل الحصول على أكبر حصة من سوق الإشهار، أو الحفاظ على بقائه، أن يظلّ بمنأى عن المنافسة. وشدّة المنافسة تؤدّي في نظر صاحب هذا الكتاب إلى الاستنساخ والتشابه. فالتلفزيون الذي يريد أن يفرض ذاته في المشهد السمعي-البصري يجب أن يقتدي بالتلفزيون الناجح، أي يحذو حذوه . وبهذا تصبح المنافسة قائمة على الاستنساخ والتشابه. ويتجسّد هذا النوع من المنافسة في قيام الصحافيين بانتقاء الأحداث ذاتها تقريبا، والتعبير عنها بأسلوب متقارب إن لم يكن ذاته. والنتيجة أن الأخبار ذاتها تتداول بين القنوات التلفزيونية في النشرات الإخبارية المختلفة. وقد أطلق بيار برديو على هذه الظاهرة المتنامية في القنوات التلفزيونية مسمى ” التدفّق الدائري” للأخبار.
يرى بيار بورديو في كتابه هذا أنّ التلفزيون المعاصر وقع ضحية السرعة والاستعجال. فالتنافس بين القنوات والسباق للحصول على أكبر عدد من المشاهدين، فرض عليه السعي لتحقيق السبق الصحفي فيجعل الصحافيين يعملون تحت ضغط رهيب، ممّا يقلّل فرصهم في للتحرّي في صحّة أخبارهم وواقعيتها، والتروّي في نقلها والتفكير فيها. وقد يدرك المشاهدون أنّ البيانات والمعطيات التي يقدّمها الصحافيون تكون غالبا غير دقيقة ( أسماء خاطئة، أرقام وإحصائيات تجانب الصواب، وتأويل سيء للأحداث المنقولة…(
قد ندرك أنه من الصعب على المرء أن يتحدّث عما لم يراه بنفسه. لكن الصحافيين يتحدثون عن وقائع لم يشاهدوها فيبثّون على أوسع نطاق بيانات وآراء تقريبية. ولعلّ هذا الأمر شجّع البعض على الاعتقاد أنه في متناوله إصدار أحكام على هذا الموضوع أو ذاك، وعلى هذا الشخص أو ذاك وهم في الواقع لا يجترون سوى الأفكار الجاهزة ويعبرون عن الحس المشترك.
لم تفرض السرعة إيقاعها ومنطقها على نشرات الأخبار في التلفزيون، بل امتدّ إلى مختلف البرامج الحوارية أيضا. ففي هذا الإطار يقول: ” إنّ التلفزيون لا يشجّع التعبير عن الفكر. فهناك علاقة بين الفكر والوقت. إنها العلاقة السلبية بين الاستعجال والتفكير. لذا لا يقدّم ضيوف التلفزيون سوى الأفكار الشائعة والمستهلكة والمقبولة من طرف الجميع. وعلى هذا الأساس يفضّل التلفزيون استضافة الأشخاص ذاتهم في برامجه. ” ويسمّيهم بيار بورديو” بالمفكّرون العجولون” fast-thinkers “، أي مثقّفو التلفزيون الذين لا يقدّمون سوى وجبات ثقافية سريعة ” fast-food culturel”. ويستدرك صاحب هذا الكتاب بالقول إنّ الاستعجال ليس وحده المسؤول عن بروز هؤلاء المفكّرين، بل أن الإكراهات التقنية وأساليب الرقابة الخفية تسهم في ذلك بقوّة. فالصحافي أو المذيع هو الذي يحدّد قواعد البرنامج الحواري، وهو الذي يفرض الموضوع على ضيوفه، ويعيّن مكان جلوس كلّ واحد منهم، ويتدخّل في زوايا تصويرهم، و يرتّب المتدخلين ويوزّع عليهم الكلمة ، ويوجّه الحديث ويقاطع المتدخلين بشكل غير عادل مما يتنافى و مبادئ ديمقراطية الحوار. والنتيجة أنّ الأساليب المذكورة هي التي تحدّد ما يجب قوله في البرنامج الحواري ما لا ينبغي قوله.
وعن نفوذ التلفزيون وتأثيره على المجال الصحفي يؤكّد صاحب هذا الكتاب أنّ ميلاده أحدث أزمة في الصحافة بمعنى أنه نزع عن الصحافة احتكار الأخبار وأعاد تشكيل الفضاء الإعلامي. فنشرة الأخبار في التلفزيون الفرنسي التي تبثّ على الساعة الثامنة مساءً، على سبيل المثال، تجمع عددا من المشاهدين يفوق عدد كلّ قرّاء الصحف مجتمعين. فكلّ صحيفة تطمح في الحصول على عدد يساوي عدد مشاهدي هذه النشرة أو يزيد يجب عليها أن تكون ” لطيفة”، في نظر هذا المؤلّف، أي لا تصدم أحدا، وتتطرّق إلى المواضيع العامة التي لا تثير أيّ مشكل. وهكذا تصبح عملية إحداث التجانس، وإنتاج التفاهة، وعدم التسييس من الوظائف التي تناسب الصحافة.
يؤكّد بيار بورديو في هذا الكتاب أنّ علماء الاجتماع رأوا أن التلفزيون عمل منذ ميلاده على تسطيح ثقافة المشاهدين وإحداث التجانس في صفوفهم، لكننا نلاحظ اليوم أنّ للتلفزيون تأثيرا كبيرا على الإنتاج الثقافي والفنيّ والعلمي. فهذا الانتاج لم يعد يخضع للاستقلال الذاتي الذي يعدّ ضروريا وحيويّا، بل أصبح مرهونا بالظروف الاجتماعية التي يتطلّبها بثّه وتوزيعه وتوصيله إلى جميع الناس. وهي الظروف الخاضعة لضغوطات التجارة وقياس الجمهور. وللتأكّد من التحوّل الذي احدثه التلفزيون في الحقل الثقافي يمكن الإشارة إلى أنّ النقاد في المنتصف الأول من القرن الماضي كانوا ينظرون إلى الرّواية التي تحظى بعدد هائل من القراء قد يصل إلى الملايين ، مثل الروايات البوليسيّة، نظرة الريبة ويذمونها. أمّا اليوم فيحتفل بالروايات التي يقترب عدد قرّائها من المليون لأنها توصف بالناجحة. الشيء ذاته ينطبق على الفيلم السينمائي والأغنية. فمعيار النجاح تصنعه التجارة حتى وإن لم يقدّم أيّ قيمة مضافة ثقافيًّا وجماليًّا.
إنّ الخطورة من كلّ ما سبق ذكره أن الإنتاج في الحقل الفني والثقافي يفقد استقلاليته لارتباطه بهذا القدر أو ذاك بالتلفزيون الخاضع بدوره إلى المطلب التجاري.
وإن كان هذا الكتاب لم يصل إلى حدّ القول بأن كاميرا التلفزيون هي التي تصنع الرؤساء، وتصوّت على المنتَخَبين في تحليله لتأثيره التلفزيون على الحقل السياسي إلا أنه أقرّ بأنّ هذا الأخير أصبح فاعلا قويا في مجال الوساطة بين الناخبين ورجال السياسة. وأنّ الحقل السياسي فقد، هو الأخر، استقلاله وأصبح في قبضة استطلاعات الرأي التي تعدّ الوجه الثاني لعملة واحدة، وهي قياس الجمهور. لذا أضحى الخطاب السياسي يتماهي مع الخطاب الإشهاري.
أخيرا، يمكن القول أنّ هذا الكتاب لم يحظ بالمدح والإطراء فقط، فقد نال حقّه من النقد والاعتراض إذ أعتبره البعض نموذجا لرؤية المثقفين الفرنسيين النخبويّة التي تستصغر التلفزيون ومن ورائه الثقافة الشعبيّة، ولا يدرجونه في خانة الثقافة المكرسة والسامية.