الذكاء الاصطناعي ووسائل الإعلام: الآمال والمخاوف


 

نصر الدين لعياضي

نشر في مجلة الشروق العدد 1343- الصادر في 1-7 يناير 2018

نشرت  صحيفة “لوموند” الفرنسيّة تقريرا عن استعانتها ببرنامج معلوماتي للإعلان بشكل آلي، في نصوص قصيرة، عن النتائج التفصيلية للجولة الأولى من الانتخابات المحلية الفرنسيّة التي جرت في مارس 2015. وبرّرت ما قامت به بالقول أنه ليس باستطاعة صحافيي هذه الجريدة كتابة نص واحد عن كل بلدية من البلديات الفرنسية التي يبلغ تعدادها 30 ألف بلدية في ليلة واحدة. ولم تنس هيلان بكمزيان،  نائب رئيس تحرير، التي كتبت هذا التقرير أنّ تُوَقّعه باسمها وتُذَيّله بالجملة التالية: إنّني حريصة على نفي أي معلومة تزعم أنّني رجل آلي “ربوت”!

هذه ليست نكتة، بل حقيقة  تلخص حذر القراء من المواد الصحفية التي ينشرها الرجل الآلي بعد أن دخل قاعات التحرير،  وأسندت إليه بعض المهام التي يقوم بها الصحافي إلى درجة أن الصحافيين أصبحوا يخشون على مستقبلهم المهني من هذا الوافد الجديد الذي لا يكلّ ولا يملّ من العمل، ولا يتململ من الخط التحريري للصحيفة ، ولا يطالب برفع راتبه وزيادة علاواته.

بالفعل، لقد شرعت  وسائل الإعلام  في الاستعانة بخدمات الرجل اللآلي منذ مطلع العشرية الحالية،  مثل صحيفة “لاوس أنجلز تايمز” في الولايات المتحدة الأمريكيّة، و”الغاردن” البريطانية،  و” لودفوار” الكندية، و”لوموند” الفرنسيّة، ووكالتي “اسوسيتد برس” و”رويترز”، والقائمة طويلة.

ولم تعتمد وسائل الإعلام على هذا الرجل في تحرير الأخبار فحسب، بل وظفته، أيضا، لإجراء الحوار مع مستخدميها في مواقعها في شبكة الانترنت ناحتة بذلك مصطلح ” الشاتبوت” Chatbots، أي ربوتات الدردشة”  التي يميل إليها النشء الجديد الذي قَلَّل، تدريجيا،  من حضوره في الواب، وكَثَّف تواجده في مواقع الشبكات الاجتماعيّة.

قد يقول البعض أنّ كتابة الأخبار بشكل آلي أو الدردشة الآلية مع المستخدمين تشكلان واجهة الذكاء الاصطناعي، وترسمان الأفق الحتمي لتطور وسائل الإعلام. لكن ما هو هذا الذكاء بالضبط الذي اكتسح العديد من القطاعات: التجارة، والصناعة، والطب، والنقل والاتصالات، والتعليم، والمالية، وغيرها؟

 

ما هو الذكاء الاصطناعي؟

تؤكد القواميس أنّ الذكاء الاصطناعي هو مجمل النظريات والتقنيات التي تستخدم من أجل تصنيع آلات قادرة على تحفيز الذكاء الاصطناعي محققة بذلك حلما ظل يراود البشريّة، والمتمثل ابتكار شبيه الإنسان يقوم بكل الأعباء والأشغال نيابة عنه.  بينما يعتقد البعض بأن صفة الذكاء تنطبق على الأشخاص الذين ابتكروا الآلات ، وليس على الآلات ذاتها. ويؤكد “يان واليفي”، الباحث في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، في هذا الصّدد، على أنه يجب على الذكاء الاصطناعي أن يتفهم الأوضاع الإنسانيّة ، ويتصرف بذكاء أو غباء مثلما يتصرف أي إنسان ، لأن المرء لا يكون ذكيًّا في كل الحالات. ولا يكون كذلك طيلة الوقت.

يحمل الذكاء الاصطناعي الكثير من الآمال في تطور البشريّة وفي تيسير حياتها وتحسين وضعها. ويحمل، أيضا، الكثير من المخاوف، إذ يعتقد أنه يحيل المرء على المعاش المبكر بعد أن يحل محله في كل ما يقوم به تقريبا في مختلف المجالات. وهذا ما عبر عنه “إيلون موسك”، المسؤول عن المؤسسة الأمريكيّة المختصة في الملاحة الفضائيّة، ” سبايس إكس”، بكل تشاؤم، قائلا: ” لن أتوقف عن دق ناقوس الخطر من الرجل الآلي. طالما أن الناس لم يروه بأم أعينهم  في الشارع يقتل الجميع. ساعتها لا يعرفون كيف يتصرفون معه”.

لقد بدأ الجمهور العريض  يكتشف الجانب الأبرز في الذكاء الاصطناعي منذ مطلع العشريّة الحاليّة في ظل التنافس بين الشركات العملاقة في مجال المعلوماتيّة التي جعلته ممرا إجباريا لتطوير خدماتها. فبعد الإعلان عن اختراع ” غوغل ناو” Google Now ، المساعد الشخصي الذكي، الذي يستطيع أن يتعرف على الصوت، ويعالج الأصوات للإجابة عن طلبات المستخدمين، سجل شبيهه المسمى “سيري ” Siri“، الذي ابتكرته شركة ” أبل”، حضوره في السنة ذاته، ثم تلاهما العديد من المساعدين الأذكياء مثل ” كرتونا” الذي ابتكرته شركة ” ميكروسوفت” في 2014 ، و ” ألكسا ، الذي اخترعه مختبر ” أمازون دوت كم” في 2016.  فكل هؤلاء المساعدين الأذكياء يتيحون ، على تفاوت كفاءتهم التقنية، التفاعل الصوتي وقراءة الموسيقى و” البودكاست” والكتب السمعية،  والإعلان عن حالة الطقس وحالة سير المركبات الصناعية في الطرقات.

                                                          

   مجالات التطبيق

غني عن القول أن وسائل الإعلام المختلفة لا تقوم باختراع البرامج والتطبيقات التي تجسد هذا الذكاء، بل توظف ما ابتكرته الشركات المختصة من برامج وتطبيقات رقمية من أجل تطوير أدائها وتنوعه. وقد استفادت من ذلك في إنتاج محتويات مخصوصة ، والكتابة الآلية للنصوص ، والكشف عن الأخبار المزيفة والقيام بحجبها ، مرورا بإعادة تنظيف الإرسال التلفزيوني للمنافسات الرياضيّة من الوقت الضائع من أجل تقديم ملخصات لأهم لقطاتها عبر الحوامل المختلفة ،  وصولا إلى القيام بحوار صوتي ومكتوب مع الجمهور.

وتستفيد وسائل الإعلام من الذكاء الاصطناعي، أيضا، في مجال صياغة استراتيجيا استشرافيّة للمحتويات التي يجب إنتاجها مستندة في ذلك إلى التنبؤ بالمحتويات التي يريدها الجمهور، والتي ضبطتها بناءً على البيانات التي يتم تجميعها عنه. هذا ما تقوم به مؤسسة ” نتفليكس Netflix الأمريكيّة التي تنتج وتبث أفلام ومسلسلات بشكل متواصل عبر شبكة الانترنت. وهذا ما يعمل به أيضا موقع  بزفيد Buzzfeed  في شبكة الانترنت، والذي يستعين بما توصل إليه الذكاء الاصطناعي  في مجال انتقاء الأخبار التي ينشرها.

لا تسمح هذه التكنولوجيا لوسائل الإعلام بمعرفة المحتويات التي يرغب فيها الجمهور فقط، بل تقدم لها إجابات دقيقة عن الأسئلة التالية : ما هي المدة الزمنية المثلي التي يفضلها الجمهور لشرائط الفيديو التي تبثها؟ ما هو القالب أو “الفورما” المطلوبة أكثر من قبل الجمهور؟ ما هي شريحة الجمهور التي لم تستطع الوصول إليها؟  ليس هذا فحسب، بل إنها تساعدها على شخصنة محتوياتها ، بمعنى أنّ هذه التكنولوجيا توجهها لنشر الإنتاج المطلوب من قبل شخص معين في الوقت الذي يفضله. وتمكّنها من البث الآلي للنصوص وملفات الفيديو وفق الطلب انطلاقا من بنك المعلومات المهيكل والمنظم. وأخيرا وليس آخرا ،  إجراء الحوار مع الجمهور. بالفعل إن هذا الحوار محدود ومحصور في جملة من الاجابات المبرمجة للرد عن الأسئلة المدروسة والمصنفة التي يوجهها الجمهور إلى الوسيلة الإعلامية. لذا من المستبعد أن تتحوّل وسيلة الإعلام إلى أداة حوارية تجيب بتلقائية وعفوية عن كل الأسئلة التي يوجها لها الجمهور، والمتعلقة بالأحداث الراهنة المتنوعة والتي لا تكف عن التجدّد.

بالطبع لم يكن بالإمكان تحقيق هذه الخدمات المختلفة دون أن يتدخل هذا الذكاء ذاته في تمكّين الوسيلة الإعلامية من معرفة جمهورها بشكل أفضل وأدق : أماكن تواجده ، وأوقات استخدامها ، ومواقع إبحاره في شبكة الانترنت، والمدة التي قضاها في زيارة كل موقع منها، وأنواع الموسيقى التي يفضل الاستماع إليها، والعديد من البيانات والمعلومات المختلفة التي تزود بها المؤسسات الإعلامية للقيام بالتحقيقات الصحفية حول المواضيع المختارة.

لعل الإعلان كان ولا يزال المحرك الأساسي لاستعانة وسائل الإعلام بالذكاء الاصطناعي. فالمعلنون لم يكفوا عن البحث عن أنجع السبل للترويج للسلع والخدمات. وبفضل ما بتم تجميعه من معلومات ضرورية عن جمهور وسائل الإعلام: سلوكه الاستهلاكي ، وذوقه ، واهتماماته ، وقدرته الشرائيّة حيث أصبحت الإعلانات  تستهدف الأشخاص ذاتهم. لقد منح الذكاء الاصطناعي وسائل الإعلام إمكانية تعديل الإعلانات وتكييفها حسب طبيعة الجمهور. لذا يقال بأن الذكاء الاصطناعي أحدث ثورة في الإعلان وفتح له أفاقا جديدة واعدة، منها احتمال مخاطبة الزبائن وحوارهم!

                                                       

  اختراع صحافة جديدة

يختلف تقييم مكانة هذا الذكاء في تطور وسائل الإعلام، فالبعض يعتقد أنه سيقضي عليها بعد أن حل محل منتجي المادة الإعلاميّة والثقافيّة، مثلما فعل في بعض المجالات الصناعية، كتركيب السيارات، أو يحرفها عن وظائفها التقليديّة، إذ يجعلها مجرد وسيلة توزيع الخدمات وفق الطلب. و يعارض البعض الأخر هذه النظرة، إذ يعتقد أن مصير وسائل الإعلام دون الذكاء الاصطناعي سيكون الموت الحتمي. فالكاتب الفرنسي “إيريك شيرر”، المختص في الميديا الجديدة، يرى أن الذكاء الاصطناعي لا ينقذ مهنة الصحافة الحالية من الهلاك بأدوات جديدة بقدر ما يبتكر الصحافة التي يحتاجها العالم الجديد. والذي يقول عنه أنه عالم متسم بتشبيك جماهيري واسع، تداخلت فيه مواقع الشبكات الاجتماعية بمنظومة الاتصالات، فشكل منظومة إعلامية واتصالية تقودها مجموعة صغيرة من الشركات الكبرى في العالم. ذكر منها، على وجه التحديد، مؤسسة الفيسبوك، وتويتر، واليوتوب، ووكالات الأنباء العالمية وبعض المؤسسات الإعلامية العالمية القليلة جدا ، مثل نيويرك تايمز، والغاردن، والقنوات التلفزيونية، مثل قناة ” سي آن أن، والبي بي سي. ويذكر على سبيل المثال أن محرك ” غوغل نيوز” أصبح المهيكل الأساسي لأخبار العالم، وأن خُمس سكان الكرة الأرضية، أي 1.3 مليار شخصا يستقون الأخبار من موقع شبكة الفيسبوك، وأن حوالي ثلث الأمريكيين يثقون في الأخبار التي يزودهم بها أصدقاؤهم عبر هذا الموقع أكثر من ثقتهم في وسائل الإعلام الكلاسيكيّة.

                                                           

   إمكانيات جديدة

استخلص الباحث ذاته أن طرق الحصول على الأخبار والمعلومات قد تغير في هذا العالم.

وللتأكيد ذلك يذكر أن إنتاج فيديو اليوم أصبح أسهل من مشاهدته. فالكثير من الأخبار تضيع أو يتم يتجاهلها في البيئة الرقمية ، وما يُحْتَفظ به من أخبار ينتشر انتشار النار في الهشيم عبر مواقع الشبكات الاجتماعية المنقولة في الوسائط المتنقلة، مثلا الهاتف الذكي. وهذا يعني أن مواقع هذه الشبكات تمارس رقابة غير مسبوقة على اختيار ملايين الأشخاص. فالإعلان الذي يمول هذه المواقع يضغط عليها بقوة لتركز على الأخبار التي يتم التفاعل معها أكثر. ولعل القليل من القراء الكرام من يعلم أن السوق هي التي كانت وراء ابتكار أيقونة ” أحب” في موقع الفيسبوك قصد الترويج للسلع.

إذا، إن عالم الإعلام الجديد يتسم بوفرة كبرى للأخبار والمعلومات التي تتجدّد كل ثانية أمام ضعف الكفاءة الفردية للإطلاع عليها ومتابعتها. لذا فإنّ الذكاء الاصطناعي يجنح إلى تطبيق الشعار الذي يرفعه  كل مستخدم للواب أو متابع لما يُنشر في المواقع الإخبارية ومواقع وسائل الإعلام الكلاسيكية، وهو: ” ستجدني الأخبار أخيرا “، بدل سأبذل قصارى جهدي لأعثر على الأخبار التي أبحث عنها”.  وهذا نتيجة تطور محركات البحث سواء داخل مواقع الشبكات الاجتماعية والمواقع الإخبارية أو في الحوامل ذاتها، وبفضل الخوارزميات التي تغربل الأخبار، وتصنفها وترتبها، وتخفي بعضها غير المرغوب فيه، ساعية إلى الانتقال من توفير الأخبار والمعلومات التي نريدها إلى تقديم تلك التي نحتاجها.

شكوك   

حقيقة، لقد استطاعت كبريات المجموعات الإعلاميّة أن تأسيس ” إدارة لمنصة البيانات”، وهي عبارة عن قاعدة بيانات مركزية تجمع المعلومات الشخصية عن المستخدمين ، تستغلها من أجل تطوير إعلاناتها التي تستهدف أشخاص بعينهم. لكن معظم المؤسسات الإعلامية  تفتقد الإطار التنظيمي الذي يمكّنها من استغلال البيانات لغاية صحفية. وهذا ما حدا بــ “إروان غوشي”، نائب المدير العام للمحطة الإذاعية ” فرنس بلو”، إلى القول  بأننا اليوم غير قادرين على معالجة البيانات، وتخزينها، وتشخيص أي منها”. وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار في كل استثمار في مجال الذكاء الاصطناعي.

تؤكد مختلف التقديرات أن الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي لازالت في مرحلة التجربة ولم يتضح نموذجها الاقتصادي بعد. وهذا يعني أن هذا الذكاء لم يجلب الكثير من الأموال لوسائل الإعلام التقليدية التي اضطرت إلى الاستعانة به لتواكب التطور الحاصل في عالم الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي. لقد أضحت هذه الأخيرة متفوقة على وسائل الإعلام ” التقليدية” في استقصاء الأخبار وتوزيعها على عدد من مشتركيها الذي يزيد بآلاف المرات عن عدد قراء الصحف أو مستعمي الإذاعة أو مشاهدي التلفزيون. لذا يعدّ استخدام وسائل الإعلام لذكاء الاصطناعي مغامرة اقتصادية كبرى تضاف إلى عدم تمكّنها لحد الآن من العثور على نموذج اقتصادي يلائم انتقالها إلى النشر أو البث عبر الانترنت.

إذا، إنّ التخوّف من استخدام وسائل الإعلام للذكاء الاصطناعي لا مبرّر له. فالقول بأنها ستفرض علينا الأخبار التي نطلع عليها والسلع التي نشتريها لا أساس له من الصحة. كما لا يوجد ما يدفع إلى الخشية على مستقبل الصحافيين مهما استعانت وسائل الإعلام بالذكاء الاصطناعي. وذلك لأن هذا الأخير لا يمكن أن يعوض البشر على الأمدين القريب والمتوسط. فـ” كلود دو لوبي “، المسؤول عن مخبر “سيلاب” المختص في الكتابة الآلية، يرى أن ما تستخدمه وسائل الإعلام حاليا هو ذكاء ضعيف يكتفي بتأدية مهام محدودة جدا. ويؤكد أنه لم يشاهد في المختبرات المختصة ما يدفع إلى الظّنّ بأننا سنتعامل مع ذكاء متطور جدا. ويعتقد  “فراسوا فوريي”، منتج  بإحدى القنوات التلفزيونية الفرنسيّة، أن أي برنامج أو تطبيق ذكي لا يستطيع، مهما بلغ من التطور، أن يعوض ما يقوم به الإنسان في وسائل الإعلام لأنه غير قادر على الإبداع ، وعاجز عن إصدار أحكام قيميّة أو إدارة العواطف التي تحرك بعض الإنتاج الإعلامي وتكسبه خصوصية.

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: