“السيلفي” أو عندما تتحول الصورة الداتية إلى تجارة


نصر الدين لعياضي

نشر بمجلة الشروق الإماراتية الصادرة من 15-22 أغسطس.

هل يحق لــ  “جاك أتالي”  الخبير الاقتصادي  ومستشار الرئس الفرنسي الراحل ” فرنسوا متيرون” أن يفرح بعد أن تحقق ما حلم به في 1960 أو يحزن؟ لقد حلِم بميلاد عالم يستطيع  فيه كل شخص أن يصنع موسيقاه الخاصة، ويطبع بنفسه روايته، وينتج فيلمه ويوزعه! فأصبح كل هذا ممكن اليوم، وأضحى باستطاعة كل شخص أن يصور ذاته. ولا بأس إن لم يتجسد ما حلم به في العالم الذي تمناه: العالم الاشتراكي، وتحقق في عالم الليبرالية المتطرفة الذي تحكمه سلطة المال، فأباحت ما لم يكن مباحا. عالم يتسم بالفردانية  والاحتفاء بالذات ، يوثقها فيما أصبح يعرف بالسيلفي ( الصورة الذاتية) ، أي ” الشخصورة”، مثلما عربها بعضهم.

عندما شرع بعض الشباب في 2004 في تصوير ذاتهم في لقاءاتهم ورحالتهم السياحية، وانصرف كل واحد منهم إلى التقاط صور له بواسطة هاتفه النقال  لتخليد بعض تفاصيل يومياته  اعتقد البعض أن “السيلفي” ليس سوى موضة تحمل نرجسية المراهقين، وستختفي بسرعة. لكن هذه الموضة تحولت إلى ظاهرة عمت كل الفئات العمرية في كل المجتمعات تقريبا. فزال الاعتقاد المذكور بعد أن أصبحت سلوكا يوميا مألوفا لدى عامة الناس، وإن أصاب بعض المربين وعلماء النفس بالقلق، وأثار تساؤلات الفلاسفة وعلماء الاجتماع بعد أن اقتحم  بعض المجالات التي كنا نعتقد أنها تملك الخصوصية والحرمة، مثل ” الصلاة والعبادة” و” المرض والموت” و”القتل والإعدامات”، وغيرها! ليس هذا فحسب،  لقد أثار هذا السلوك فضول رجال التسويق والإعلان بعد أن اكتشفوا أن ” الشخصورة” تستطيع أن تجعل المُصَوَر سلعة.

البداية…

ظهرت كلمة سيلفي ( selfie ) الأنجليزية في 2002 بالموقع الإلكتروني الأسترالي ” ميديا أي بي سي ” وانتشر استخدامها في مواقع التواصل الاجتماعي، مثل ” ماي سبيس” ) Myspace” و” فليكر” Flickr” في 2004 ، وأُدرجت في قاموس أسكفورد في 2013 بعد أن شاع تداولها في وسائل الإعلام التقليدية.

لا يمكن اختزال معنى ” السيلفي” بالصورة التلقائية التي نلتقطها، دون تفكير، لذاتنا أو رفقة جماعة. ولا يمكن ترجمته بــ “البروتريه الذاتي”.  فهذه الممارسة تشترط أن يأخذ الشخص صورة لذاته بمفرده أو مع الجماعة وسط خلفية ما تحدد سياق التصوير. وتشي هذه الخلفية  بالعلاقة التي يقيمها المُصَوَر بالعالم. ثم أن صورة ” السيلفي” لا تكتفي بذاتها، بمعنى يجب اقتسام الصورة الذاتية الملتقطة مع الأهل أو الأصدقاء أو المعارف عبر مواقع الشبكات الاجتماعية. ففي غياب هذا الاقتسام، يمكن لصاحب ” السيلفي” أن يكتفي بالنظر لذاته في المرآة أو بصورته الفتوغرافية. فعندما تنشر ” السيلفي” في المواقع المذكورة فإنك تنتظر رد فعل: تعليق ما، علامات إعجاب. ولا يتجاوز “السيلفي في هذه الحالة ” مجرد الصورة ، بل يصبح حزمة من العواطف والمشاعر، مثلما يؤكد ذلك عالم الاجتماع الفرنسي جوسلين لاشونس.

ماذا فعل “السيلفي” بنا؟

يعتقد البعض أن “السيلفي” فعل بالصورة أكثر مما فعلته الصورة الفتوغرافية بــ “البورتريه”. فاختراع ألة التصوير الفتوغرافي هزتّ عرش البورتريه وأبعدته عن الوظيفة الجمالية بعد أن استبدلتها بالوظيفة التطبيقية والعملية، خاصة بعد انتشار ألة التصوير المسماة ” بوني” التي ظلت شركة كوداك تصنعها، منذ 1900 إلى غاية ،1967 فبيعت بسعر زهيد في أخر أيامها. لقد قضت هذه الكاميرا “على فكرة أن لا وجود للبورتريهات، التي كان الرسامون يخصون بها النبلاء والارستقراطيين، إلا في شكلها الفني. لقد أصبحت الصورة أو البورتيه في متناول أي يشخص يرغب فيها. لكن الثورة الرقمية زادت في شعبية التصوير فمنحت كل شخص امكانية أخذ ما يشاء من صور، دون تحميض ولا سحب على الورق، وبثها بيسر في مواقع الانترنت ومواقع الشبكات الاجتماعية.  لقد قدرت بعض المواقع وجود أكثر من 150 مليون صورة يتم تبادلها يوميا عبر العالم!

لعل بعض القراء الكرام يتذكرون كيف كان يتزينون ويرتدون أفضل ما يملكون من ملابس عند مت يتجهون إلى المصور لأخذ صور شخصية أو عائلية. وكانت صور العرسان التي تؤخذ أثناء العرس تشكل حدثا يضاهي العرس ذاته! لقد اقترنت الصورة في ذهن الأجيال السالفة بالفرح والأحداث السارة. ألم يقال:” ابتسم حتى تطلع الصورة حلوة”؟ لكن الصورة اليوم أصبحت تلتقط في كل وقت وفي كل مكان وكل مناسبة وحتى دون مناسبة لتوثق الحضور في مكان ما، أوبرفقة شخص ما، أو للتعبير عن مزاج معين، أو لإشعار الغير بوجودنا.

ديمقراطية التصوير

إنها” ديمقراطية” التصوير التي تختلف النظرة إليها من شخص إلى أخر ومن ثقافة إلى أخرى. فالبعض يعتقد أنها نزعت عن الصورة ” هالة” الاحترام والتقدير التي كانت تحظى بهما. ويرى والبعض الأخر ، وربما بنوع من المبالغة، أنها جردتنا من بعض القيم. إذ يوجد من يستلّ ” هاتفه النقال” لتصوير الشخص المقبل على الانتحار دون أن يفعل شيء لثنيه عن فعل ذلك.أو تصوير حريق دون المساعدة في اخماده. لقد حرم هاجس أخذ ” سيلفي” في كل لحظة البعض من الاستمتاع  بالحياة وصرفهم عنها وجرهم إلى الانشغال بتصويرها!

لا يشاطر الكثير من المختصين في الطب النفسي هذا الرأي وذلك لأنهم يرون أن ” السيلفي” ليس مجرد صورة، أنه طريقة من تبرير الوجود. فأريان غوميز، الطبيبة النفسية الفرنسية، تؤكد أن ” الشخصورة” تمنح الفرصة للشخص لابتكار ارتباطه بالغير. والاهتمام بذاته في ظل  شفافية تامة ليساير معايير الحياة الاجتماعية المعاصرة. فبرامج تلفزيون الواقع، ومواقع الشبكات الاجتماعية ) الفيسبوك، انستغرام…( لا تكشف عن حياتنا الحميمية التي ظلت مكتومة فقط، بل تعمل على تربيتنا على كيفية التعبير عن خصوصيتنا وإبرازها من أجل مراقبة صورتنا لدى الغير. ولعل أبرز دليل على ذلك يقدمه موقع ” سنابشات”  Snapchat ”  الذي ترسل عبره الصور في كل لحظة في اليوم بدءا من غسل الأسنان في الصباخ إلى تناول وجبة العشاء، مرورا بساعات العمل أو الدرس . هذا مع إمكانية تعديلها والرسم عليها، وارفاقها بنص مكتوب، والأكثر من هذا حذفها في بعض الثواني القليلة التي نحددها بعد الإطلاع عليها. قد يرى بعض الفلاسفة أن هذا المحو يندرج في ” ثقافة الزوال” التي بدأت تسيطر على الحياة اليومية، فمحو الصور يعني رميها بعد ” الاستعمال” مثل أي منتج :المناديل الورقية، وشفرات الحلاقة، والأكياس الورقية وغيرها. بيد أن البعض الأخر يعتقد أن مكانة الصورة  في المجتمع قد تغيرت وأصبحت شأنها شأن الكلمة في الدردشة التي تجرى بين الاشخاص في الفضاءات العامة أو عبر الشبكة. ففي هذا الإطار يؤكد أورلين فيفي، نائب مدير القسم الرقمي في صحيفة ” نوفال أوبسرفتور” الفرنسية أن الصورة أصبحت محادثة، بمعنى أن مواقع الشبكات الاجتماعية لا تتيح المناقشة حول الصور فقط، بل جعلت المناقشة بالصور ممكنة. وبهذا لم تعد الصور تقيّم على أسس جمالية، بل لطرافتها ولما تتيحه من نقاش.

رجال السياسة والدين أيضا.

لقد تم تبادل 56 مليون ” سيلفي” عبر موقع “انستغرام” في 2013.  وهو الرقم الذي ما انفك يرتفع ليشمل كل الفئات. لقد اغرى ” السيلفي” حتى رجال السياسة والحكم. لعل بعض القراء الكرام يتذكر صورة ” السيلفي” الذي جمعت الرئيس الأمريكي باراك أوباما ورئيس الحكومة البريطاني دافيد كامرون ، ورئيسة وزراء الدانيمارك “هيل تورنيغ شميدت” بمناسبة تشيع جثمان رئيس جنوب افريقيا: نلسن منديلا  والتي جابت العالم بأسْره. و” سيلفي” البابا الفاتيكان، فرنسوا ، التي أوخذ مع مجموعة من الشباب المراهقين الإيطاليين في زياراتهم للفاتكان يوم 28 أغسطس 2013، وأثار حفيظة بعض رجال الكنسية. فرد عليهم بيب سفرغيني، كاتب الافتتاحيات في صحيفة ” كورير ديلا سيرا” الايطالية، قائلا: ( لا توجد أي نية تسويقية وراء ” سيلفي” البابا مع الشباب. كل ما في الأمر أن البابا يحب أن يكون مع الناس، بينما سلفه كان يحب أن يكون مع الكتب)

السيلفي حيلة أم فلسفة تسويقية؟

إذا من الممكن أن يستغل السيلفي لأغراض تسويقية وتجارية. هذا ما تؤكده الإستراتيجية الاتصالية التي تبنتها العديد من الشركات والمؤسسات.

لقد ظلت شركة سامسونغ منذ 2009 و لمدة خمس سنوات، تنفق أكثر من 24 مليون دولار سنويا على حفل جائزة الأوسكار السينمائي في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل أن تبرز وتشتهر في العالم حسب وكالة ” أي أيج للعلاقات العامة والتسويق”. لكنها أفلحت في ذلك في 2014. لقد صرفت حوالي مليار دولار من أجل إنجاز حدث ترويجي واتصالي ” مطبوخ” لتسويق هاتفها ” غلاكسي 3″، والمتمثل في التقاط صورة سيلفي للممثلة والمذيعة التلفزيونية الأمريكية ” إلان جونجرز” وسط ثلة من الممثلين والفنانين. وقد وصفت ساعتها من قبل وسائل الإعلام بأنها أغلى صورة سيلفي في التاريخ. وقد وصل عدد المطلعين عليها 37 مليون شخص بعد أن غردت به الممثلة المذكورة في حسابها في موقع ” تيوتر”. و نشرت أكاديمية الأوسكار في حسابها في الموقع ذاته العديد من صور ” السيلفي” لمشاهير الفنانين والممثلين في  قاعة  المهرجان “الخضراء” التي تم تجديدها وإعادة ” ديكورها” بأموال شريكة سامسمونغ. وقد حاولت شركة نوكيا أن تنتهج نفس الطريق من خلال استعمال “السيلفي” لتسويق هاتفها الذكي ” لومنيا”. ولم تكن الشركة الوحيدة التي اهتدت إلى إدراج ” السيلفي” في إستراتيجيتها التسويقية. لقد استغلت شركة الخطوط التركية شهرة الرياضيين  للترويج لرحلاتها. فلازال البعض يتذكر صورة  مهاجم فريق برسالون ، ليون ميسي، ولاعب كرة السلة الأمريكي ” كوب بريان” وهما يتلاعبان بالكرة في احدى الرحلات على متن الخطوط الجوية التركية. وتنتهي حركة الكرة الساحرة بصورة سليفي لهما.

تدريب

إن كان الكثير من المعلنين ومخرجي التلفزيون يعانون من صعوبات جمة في توجيه الفريق التقني من أجل إخراج أفضل اللقطات الإعلانية التي تعبر عن الفكرة الأساسية للإعلان، فإن بعض الجهد أصبح يتجه اليوم إلى كيفية تطوير مهارات الفنانين ومشاهير القوم، وحتى الناس البسطاء الذين يتم اختيارهم للترويج لسلعة ما، في التقاط صور السيلفي. لذا لا غرو إذا أنشأت شركة ” دال ” المختصة في صناعة الكمبيوتر والمعلوماتية مركزا للتدريب على أخذ أفضل صور ” السيلفي” لأن هذه الصور تكاد تكون الممر الاجباري للإعلان الذي تقوم به بعض المؤسسات التجارية. فشركة ” ليروي ميلان” الفرنسية المختصة في بيع مواد البستنة والتصليح المنزلي، على سبيل المثال، أصبحت تعلن عن المواد التي تسوقها عبر ” السيلفي”. لقد قدمت سلسة من صور ” السليفي” ليوم في حياة عائلة فرنسية متوسطة قضته في تصليح بيتها وتنظيم حديقته والقضاء على الأعشاب الضارة. وأظهرت شركة ” أتش أم” السويدية المختصة في ملابس الأطفال والنساء عارضة الأزياء الأسترالية، ميراندا كير، وهي مستغرقة في التقاط صورة سيلفي مدموغة بلوغو الشركة المذكورة بينما ظلت زميلاتها ينتظرنها في سيارة الأجرة.

إن الحيل لتمرير الإعلانات عبر السيلفي لا تنتهي أبدا.  فشركة ” مارس” للحلويات أصبحت تستعمل في إعلاناتها شخصيات من أفلام الكارتون  تلتقط صورة ” سيلفي” مع أصبع  شكولاطه ” سنيكرز” !  وحتى صابون ” دوف” خاض حملته الإعلانية عبر ” سيلفي” من أجل جمال طبيعي ضد الصورة الاصطناعية التي يمكن أن يروج لها “السيلفي”.

إذا كان استعمال الفنانين والرياضيين وعارضي الأزياء في الإعلانات شيئا مألوفا ومفهوما، فإن البعض يتسأل لماذا اللجوء إلى “السيلفي” الذي يجمع هؤلاء القوم بالشركات والسلع أو الخدمات التي يريد المعلنون الترويج لها.

إن الإجابة عن هذا السؤال بسيطة جدا. فالمرء يلاحظ اليوم أن المعجبين بالفنانين والرياضيين لا يتدافعون للحصول على توقيعاتهم، بل من أجل أخذ صورة ” سيلفي” معهم.  ففي مهرجان كان السينمائي، على سبيل المثال، كان الفنان يقف وحيدا محاطا بكوكبة من المصورين، لكن الوضع تغير اليوم. لقد أصبح محاطا بالمعجبين الراغبين في أخذ ” سيلفي معه”. فقد ذابت المسافة التي كانت تفصل هؤلاء النجوم عن جمهورهم.

التغيير ؟

إن ذهنية “السيلفي” غيرت نظرة الجمهور للفنانين والمشاهير، وبدلت، أيضا، سلوك هؤلاء؟ لكن كيف حدث هذا؟ لقد جرت العادة أن المعجبين هم الذين يقلدون فنانينهم ولاعبيهم في اللباس، والحديث، وتسريحة الشعر، وغيرها… ومن النادر أن نجد العكس. لكن في ظل استشراء ثقافة السيلفي حدث العكس أو ما يشبهه. ففي هذا الصدد يؤكد نائب مدير القسم الرقمي في صحيفة ” نوفال أوبسرفتور” الفرنسية  بأن النخبة هي التي تخترع مدونة السلوك فيتبعها الناس. فعندما قرر نابليون بونابرت أن يتنزّه في حديقة ” فنتنبولو” شرع أعوان القصر في تقليده، والتحق بهم النبلاء واصحاب المال، ثم عمت الظاهرة وأصبح عامة الناس يتنزهون في الحديقة ذاتها. أما اليوم فإننا نلاحظ أن رجال السياسة في بعض الدول الغربية هم الذين ينزلون إلى ملاعب كرة القدم في الأحياء السكنية بلباسهم الرياضي للقاء الشباب. إنهم يسعون لتقليد الشباب من أجل الاقتراب أكثر منهم. لذا لا غرو إن وجدنا الفنانة ريانا تفعل بصورها ما يفعل معجبوها بصورهم.

 

صدر عن المرصد العربي للصحافة    AOJ  ملخصا لبحثي الموسوم:

أزمة، فوضى، نهاية أو نشأة مستأنفة: محاولة لفهم التحولات التي تعيشها الصحافة وتأويلها

بعنوان: من صحافة النقل إلى صحافة البيانات – بقلم نهى بلعيد

للاطلاع على الرابط التالي:

http://urlz.fr/3Orf

لم يعُدْ أحد يتحمَّل أديبًا يتحدث خمس دقائق

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: