الصحفيون ضحايا الإرهاب وأنظمة الاستبداد


نشر بصحيفة الخليج يوم  16-11-2017

نزل آلاف الأشخاص يوم الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول إلى شوارع مدينة «فاليتا»، بمالطا، للتنديد باغتيال الصحفية والمدوّنة «دافنه كاروانا غاليزيا»، في انفجار سيارة مفخخة. وهتفوا بالشعارات التالية: «العدالة لدافنه» و«الفساد يقتل الديمقراطية»، و«لا يمكن إخراس الصحفيين».
لقد أصبحت هذه الصحفية، التي اختصت في التقصي عن مختلف أشكال الفساد، مشهورة جداً. إذ بدأت تهدد مصالح الكثيرين بعد أن شرعت في نشر ملفات ما أصبح يعرف ب «بنما بيبرز» (أوراق بنما) التي أماطت اللثام عن حالات من التهرب الضريبي والعمولات والرشاوى. فتزايد عدد قرائها ومتابعيها ليصل إلى 400 ألف متابع من مجمل سكان هذا البلد الأوروبي الصغير البالغ تعداده 430.000 شخص، حسب مجلة «الأكسبرس» الفرنسية الصادرة يوم 18 أكتوبر 2017.

لقد أعاد اغتيال «دافنه كاروانا غاليزيا» إلى الأذهان موجة اغتيالات الصحفيين التي قامت بها عصابات تهريب المخدرات والمافيا في بعض بلدان أمريكا اللاتينية في مطلع تسعينات القرن الماضي. وراح البعض يبحث عن صلة الوصل بها. فوجدوها لا تكمن في طريقة تنفيذ الجريمة فحسب، بل في أسبابها ورسائلها المشفرة. فإذا كان البعض يحبذ إسقاط الماضي على الحاضر، ويرى أن اغتيالات الصحفيين اليوم تشبه، إلى حد ما، ما كان يقدم عليه الملوك في غابر الأزمنة، إذ كانوا يحكمون بإعدام من يأتيهم بأنباء غير سارة. بيد أن صحفي اليوم لا يُقْتل على يد رجال المافيا والعصابات المسلحة وأباطرة الفساد لما ينشره من أخبار لا تسرّهم، بل من أجل الوقوف ضد سطوع الحقيقة، والحيلولة دون فضح أنشطتهم المشبوهة. وأيضا من أجل التخويف وإرهاب كل من يريد النبش في ملفاتهم المريبة وأنشطتهم غير الشرعية.
لقد قيل إن بعض بلدان أمريكا اللاتينية تفتقر إلى حرية التعبير، ويستشري فيها الفساد والعنف، ويعاني صحفيوها من انعدام الأمن ما جعل مهنتهم أخطر مهنة في العالم. لكن بِمَ يوحي مقتل الصحفية «دافنه كاروانا غاليزيا» في بلد عضو في الاتحاد الأوروبي؟
إن ما يتكبده الصحفيون اليوم يتناقض والقول المأثور: «إنّ المصيبة إذا عمّت خفّت». هذا ما أدركته المديرة العامة لمنظمة اليونيسكو، إيرينا بوكوفا، التي وجدت نفسها تدين مقتل ثلاثة صحفيين في ثلاث قارات خلال أسبوع واحد من شهر أكتوبر الماضي! كان أولهم الصحفية، إفجينا فاسكويز أستوديلو» العاملة بالمحطة الإذاعية «ريبورن كوكونوكو» بشمال كولومبيا، وتلاها مدير قناة تلفزيونية بأفغانستان، شير محمد جحيش، ثم الصحفية والمدوّنة دافنه كاروانا غاليزيا. لقد اعتبرت اغتيالهم جريمة لم ترتكب في حق شخص واحد فحسب، بل في حق حرية التعبير والإعلام التي تعدّ من الحقوق الأساسية في دول العالم.
الهاجس
لقد تحول مقتل الصحفيين إلى هاجس كوني، ومصدر انشغال المنظمات والهيئات الدولية إلى درجة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قرّرت، في 2013، أن تجعل من 2 نوفمبر/تشرين الثاني يوما عالميا من أجل وضع حد لانفلات الجناة من العقاب على جرائمهم التي أودت بحياة الصحفيين. لقد تبنى مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عشر توصيات للحفاظ على أمن الصحفيين وسلامتهم، منذ 2012. ولم تكفّ هذه الهيئات عن دعوة الدول الأعضاء إلى المساهمة في اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تضمن مثول مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين أمام المحاكم لينالوا جزاءهم.
واضطرت الأمم المتحدة إلى عقد اجتماع متعدد الأطراف يجمع الدول الأعضاء والمنظمات الإقليمية ما بين الحكومات، وهيئات المجتمع المدني، وناشطين في قطاع الإعلام والاتصال، وبعض الجامعات، في يونيو/حزيران من السنة الحالية بجنيف، وذلك من أجل صياغة استراتيجية واضحة وفاعلة لضمان سلامة الصحفيين.
واعتبر التقرير الذي أعدّته منظمة اليونيسكو بعنوان: «اتجاهات في مجال أمن الصحفيين»، أن هذه الاستراتيجية تعدّ أكثر من ضرورية لأن تجسيد برنامج التنمية المستدامة في أفق 2030 يستند إلى مصادر الإعلام والمعلومات والمعارف التي تنشرها وسائل الإعلام الحرة والمستقلة وذات الطابع التعدّدي. ويرتكز على حماية الصحفيين لتمكينهم من تقديم المعلومات والأخبار التي تحتاجها المجتمعات.
قد يشعر بعض الصحفيين ومنظماتهم المهنية ببعض الإحباط نتيجة تزايد عدد زملائهم الذين اغتيلوا خلال الفترة الممتدة من 2012 إلى 2016، إذ بلغ 530 صحفياً، أي ما يعادل مقتل صحفيّين في كل أسبوع تقريبا، حسب الإحصائيات الرسمية التي أعدتها منظمة اليونيسكو. وتعزو العديد من المصادر ارتفاع هذا العدد إلى الحروب في أكثر من منطقة في العالم. إن الصحفيين يستهدفون في النزاعات المسلحة من أجل صرف وسائل الإعلام عن تغطية ما يجري من مجازر وإبادة أو من أجل إظهار القوة وتخويف السكان العزل، مثلما تفعل الجماعات الإرهابية. وإن كان هذا التفسير لا يجانب الصواب فإن الإحصائيات تبيّن، أيضا، أن عدد الصحفيين الذين اغتيلوا في المكسيك، البلد الذي لا يعاني من ويلات الحرب، بلغ 13 صحفياً في السنة الماضية، وهو العدد ذاته من الصحفيين الذين قُتلوا في أفغانستان! لكن ما يلفت الانتباه أكثر في هذه الإحصائيات أن عدد الصحفيات اللواتي تمت تصفيتهن قد تضاعف خلال هذه الفترة، إذ قفز من خمس صحفيات في 2012 إلى عشر صحفيات في 2016. وأن المراسلين المحليين يشكلون أكبر نسبة من الصحفيين المغتالين، إذ قدرت ب 92% !
تحسن
يعتقد البعض أن اغتيال صحفي في أثناء أداء مهمته يعدّ من المخاطر التي تميّز مهنة الصحافة. وقد يتفهم الكثير من الصحفيين هذا الأمر ويحتاطون لتجنبه لكن ما يدعو إلى جزع الصحفيين وحتى سخطهم هو انفلات قتلة زملائهم من العقاب.
وعن هذه القضية بالذات تسجل منظمة اليونيسكو تطورا إيجابيا، إذ تذكر في تقريرها، الذي أشرنا إليه أعلاه، أن 46 بلداً استجاب لدعوتها، التي تطالبهم فيها بتسليط الأضواء كاملة على وفاة كل صحفي، من أصل 62 بلدا اغتيل فوق ترابه الصحفيون في السنة الحالية؛ أي أن نسبة 74% من البلدان قدمت تقارير عما آلت إليه التحقيقات القضائية في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين؛ وهي نسبة مشجعة جدا، لأنه لم يستجب في السنة الماضية سوى 68% من البلدان المعنية، ولم يرد على طلب اليونيسكو سوى 47% من البلدان المعنية في 2015، و لم تزد نسبة البلدان المستجيبة لهذا الطلب عن 27% في 2014.
واعتبرت منظمة اليونيسكو أن تطور هذه النسب يترجم استعداد الدول لاقتسام ما تملك من معلومات عن قتلة الصحفيين فوق ترابها مع المنظمات الدولية من أجل وضع حد لانفلات الجناة من العقاب. لكنها تعترف في الوقت ذاته بأن كل الجهود المبذولة لم تصل إلى تجسيد الأهداف التي سُطرت للاحتفال بيوم 2 نوفمبر في السنة الحالية.

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: