المؤتمرات الاستعجالية وعابورها


وصلت إلى مكان انعقاد المؤتمر العلمي الدولي الثاني عشر الذي عقدته الجمعية العربية- الأمريكية لأساتذة علوم الإعلام  في أكتوبر 2007 بدبي قبل موعد افتتاحه. فانتظرت في البهو وصول الباحثين والمشاركين متصفحا الصحف. وتدريجيا اكتظ المكان بالحضور. قرأت بتمعن جدول أشغال المؤتمر وشعرت أن تعدّد الجلسات الموازية يحرم المشاركين من الاستفادة من المداخلات. لكن منظمو المؤتمر برّروا ذلك بكثرة عدد المشاركين

أخبرني رئيس الجلسة التي أشارك فيها أنه لا يمنح لكل متدخل سوى خمسة دقائق، بحجة ضرورة إخلاء القاعة لجلسة أخرى! وبعد أن أخذ كل واحد منا مكانه في المنصة، دخل القاعة فريق تلفزيوني، فشرع في تنصيب الكاميرات وتجريب الصوت لقد جاء خصيصا لتغطية مداخلة الأستاذة التي جلست على يساري في المنصة وكانت ترتدي حجابا دكن اللون، والتي اختارت الحديث عن  وسائل الإعلام والجنس! إنه موضوع مستفز ومغر.  يغري وسائل الإعلام التجارية المهتمة بالإثارة. وبعد أن هدأت حركة الفريق التلفزيوني في القاعة افتتحت الجلسة وذكّرنا رئيسها أن الوقت الممنوح لكل متدخل نقلص إلى ثلاثة دقائق لأن بعض الوقت ضاع في انتظار ترتيب عُدّة التلفزيون!

بعد أن بسملت وحييت الحضور الذي قل عدده عن فنيي التلفزيون والجالسين في المنصة، وقرأت عنوان مداخلتي، دُفعت وريقة أمام نظري لتخبرني أن الوقت المخصص لي قد انتهى! وهكذا نجح رئيس الجلسة ، مرغما، في رفعها بعد عشرين دقيقة من افتتاحها. تدخل خلالها أربعة متدخلين، و شخصان من الحاضرين في القاعة. الأول أشاد بالموضوع الذي اثأر القناة التلفزيونية المذكورة. والثاني تساءل عن دواعي اختياره  باختصار، انتهت الجلسة وكان ورئيسها سعيدا لأنه التزم بالوقت. فدعانا إلى الكفيتاريا التي ضاقت بالحضور!

بالطبع، هذه الصورة لا تنطبق على كل المؤتمرات العلمية التي تعقد هنا وهناك، لأنني لست في موقع يسمح بالحكم عليها. وتجربتي في هذا الشأن محدودة ومتواضعة جدا. لكن بعض المؤتمرات التي شاركت فيها، وليس كلّها من حسن الحظ، يدعو إلى التساؤل عن جدواها، ليس بالنظر إلى جوانبها التنظيمية والوقت المخصص للمداخلات فحسب، بل بالنظر إلى محتوى المداخلات، ونوعية البحوث ومستوى النقاش.

لقد أجبرت على الاستماع إلى أحد المتدخلين في ” مؤتمر علمي دولي”  شنّف أذاننا بتعريف الانترنت وتاريخها! هل أخطأ هذا المتدخل، الذي قطع آلاف الكيلومترات للوصول إلينا، جمهوره ؟ ربما، فحتّى الطلبة الذين حضروا أشغال هذا المؤتمر أدركوا أن المتدخل اكتفى بقراءة ما دوّنته موسوعة ” وكيبيديا” عن شبكة الانترنت! العقوبة ذاتها تعرضت لها، بمعية بعض الزملاء في مؤتمر أخر عن الإعلام ونحن نستمع إلى إحدى المتدخلات عن التجارة الإلكترونية ! لقد عرضت معلومات أدهشت الحاضرين استقتها من الاستبانة  التي وزعتها في عجالة على طلبتها في الجامعة، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر، ما يلي: إنّ التجارة الإلكترونية لا تتم بدون بطاقة ائتمان بنكية ( فيزا كارد)! وأن المتاجر الإلكترونية تظل مفتوحة ولا تغلق أبوابها! أما نتائج البحث، فلا تقل روعة ولا إبداعا، مثل: يوجد من يشترى بعض ما يحتاجه عن طريق شبكة الانترنت. وهناك من لا يشترى لأنه لا يملك بطاقة ائتمان أو لكونه لا يثق في أطراف عملية التسوق الإلكتروني، إذ يتوجس التجسس على رقم بطاقته الائتمانية، أو يتخوف من نوعية السلعة المقدمة، أو من عدم الحصول على السلعة أصلا بعد دفع قيمتها المالية!

تخلو الكثير من البحوث التي تقدم للمؤتمرات من إشكالية، ولا تحمل أي هاجس معرفي، ولا تقترح زاوية جديدة للنظر للموضوع المطروح. ولا تقدم جديدا، ولا تسهم في إحداث القطيعة مع الحس المشترك عن موضوع  المؤتمر. ولا يفرق أصحابها بين مقال صحفي، ومحاضرة تعليمية للطلبة، وورقة بحثية، فيستعرضون معلومات بعضها مغلوط أو أكل عليه الدهر وشرب معتقدين أن ركام المعلومات هو البحث.  وتنتهي بعض المؤتمرات دون أن تطبع المداخلات، بل يذهب غثها وسمينها إلى غياهب النسيان.

قد يسأل البعض عن اللجان العلميّة التي من المفروض أن تنخل المداخلات والبحوث. وهو سؤال وجيه حقا. إنّ عدد المؤتمرات التي تُفَعّل لجانها العلمية بغية رفع مستوى التفكير في الموضوع المطروح قليل جدّا. وبعضها الأخر يُزّين لجانه العلمية ببعض الاسماء اللامعة دون أن يخبرها بذلك ناهيك عن استشارتها لأن المشاركة في المؤتمر تخضع لمنطق الشللية. لذا نلاحظ محترفي المؤتمرات ينتقلون من بلد إلى أخر متأبطين البحث اليتيم الذي لا يغيرون فيه سوى العنوان. فيصبح جاهزا لعبور المؤتمرات. ويصلح، على وجه الخصوص، للمؤتمرات التي تطرح موضوعا فضفضا لا يحدّه حدّ ولا طائل من ورائه سواء جلب أكبر عدد من المشاركين لرفع محصول إتاوات المشاركة.

أتابع في بعض الأحيان الإعلان عن انعقاد بعض المؤتمرات فلا أعثر على أي تفصيل عنها سوى عناوينها  التي تفقد توازنها، وتاريخ انعقادها ورسوم الاشتراك فيها! يبدو أنها مهتمة فقط بما تجمعه من مُكُوس من الطلبة والباحثين المرغمين على المشاركة فيها طلبا للترقية أو التوظيف.

حتىّ لا نُتهم بالتعالي أو تثبيط العزائم، أو بخس جهود الشباب العامل على تقديم الأفضل،  يمكن التنويه ببعض المنظمين للمؤتمرات والمشاركين فيها الذي ضحوا بوقتهم ومالهم وجهدهم سعيا إلى تأسيس منابر للتفكير العلمي. هؤلاء الأشخاص يعانون من متاعب أصحاب ” المداخلات” العابرة للمؤتمرات ومحترفي جمع المكوس منها.

 

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: