د. نصر الدين لعياضي
مجلة إذاعة وتلفزيون الخليج عدد 103 الصادر في يناير 2015
ما انفكت التحذيرات من أضرار التلفزيون على صحة العقل تتزايد من يوم إلى أخر، ويزداد معها الإقبال الواسع على برامجه المختلفة! فماذا تشي العلاقة الترابطية بين تزايد التحذيرات من التلفزيون وارتفاع عدد متابعي برامجه؟ قد يقول البعض أن السبب في ذلك يعود إلى أن قطاعا واسعا من الجمهور في العالم لا يملك من وسائل الترفيه سوى التلفزيون. إنه مضطر لمتابعة برامجه عملا بالقول المأثور: مرغم أخوك وليس بطلا. والبعض يرى في كل تحذير ترغيب! وهناك من يفسر العلاقة الترابطية المذكورة أعلاه بأن مستوى وعي الجمهور تطور ويستطيع أن يميز بمفرده أضرار التلفزيون من منافعه. ولم يعد بحاجة إلى أي تحذير لأنه أمسى ينتقى ما يشاهد في زمن وفرة العرض التلفزيوني الذي يختلف كثيرا عن زمن ندرته. الندرة التي كانت تُجبر المشاهد على مشاهدة ما هو متاح ومتوفر فقط، وتحرمه من حرية الاختيار. والقليل من يعتقد أن هذه التحذيرات لم تكن مقنعة، وتجنح نحو التعميم الذي ينزاح بسرعة إلى المبالغة والتهويل. بمعنى أن هذه التحذيرات لم تستند كلها إلى معطيات علمية، خاصة في تركيزها على دور التلفزيون في استشراء العنف في المجتمعات المعاصرة. ومن هذا القليل نذكر الباحث الفرنسي “أريك ميغري” المختص في علم الاجتماع الإعلامي.
لاحظ هذا الكاتب أن البحث في موضوع وسائل الإعلام والعنف فتح باب الاستثمار المربح. فعلى سبيل المثال، أُنجز في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها 2500 بحثا ومقالا عن هذا الموضوع في مطلع الثمانيات من القرن الماضي، لم تفض إلى أي نتائج علمية ملموسة وحاسمة سوى التأكيد على عدم وجود نتائج. ويعتقد البعض أن ما توصلت إليه هذه البحوث لا يصب سوى في الدعوة إلى القيام بمزيد من البحث في هذا الموضوع! خاصة وأن الطلب الاجتماعي عليه يتزايد من سنة إلى أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية. فبالإضافة إلى الحكومات، والمحاكم، انضمت الهيئات المشرفة على ضبط البث التلفزيوني، والجمعيات العائلية إلى تمويل البحوث التي تروم استجلاء تأثير العنف التلفزيوني على المرأة والطفل، والأسرة بصفة عامة.
إننا نجانب الحقيقة لو اعتقدنا أن سعي مراكز البحث إلى جني المزيد من الأموال حال دون وصول البحوث في موضوع التلفزيون والعنف إلى نتائج علمية واضحة ومؤكدة . فالإيمان المطلق بالقدرة التفسيرية لنظرية تأثير وسائل الإعلام على الجمهور دور في ذلك. إذ أنها تتعامل، في الغالب، مع الجمهور ككتلة واحدة متجانسة، بصرف النظرعن مستواه التعليمي، وخلفيته الثقافية، ومعتقداته الدينية، ومستواه الاجتماعي، ودرجة تماسك روابطه الاجتماعية في حياته اليومية في مختلف الأطر الاجتماعية: الأسرة، والمدرسة، وأماكن العمل والعبادة، والأندية الرياضية، والنوادى الثقافية، وغيرها. فلعل البعض يتناسى أن وسائل الإعلام السوفيتية التي حشت أدمغة جمهورها بالدعاية لم تمنع الاتحاد السوفيتي من التفكك. ولم تحم وسائل إعلام ألمانيا الديمقراطية، سابقا، جدار برلين من الانهيار. ولم تقف سدا منيعا ضد تدفق سكانها إلى ألمانيا الغربية.
لقد ظلت الكثير من البحوث تسعى جاهدة إلى إثبات وجود علاقات سببية ومباشرة وآلية بين عنف الشاشة والعنف المستشري في الحياة اليومية. وهو الاقتناع الذي ظل راسخا حتى في الدول الليبرالية المتقدمة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية. ويستحضر الباحث المذكور أعلاه في هذا الصدد ما قامت به لجنة “جوزيف مكارثي”، في الخمسينات من القرن الماضي ضد ناشري الشرائط المرسومة ومنتجي موسيقى الروك، حيث اتهمتهم بإفساد الشباب وتشجيعهم على الانحراف. وقد غضت الطرف عن العوامل الأساسية الكامنة وراء انحراف بعضهم، والسياق الجديد الذي طرأ على التربية داخل المجتمع وقلص من سلطة الآباء داخل الأسرة وغيّر طبيعة العلاقة التي كانت تربط الأبناء بأولياء أمورهم. فلا يمكن تحييد انتشار التعليم وتحسن مستوى المعيشة وتمتع الشباب بالاستقلال المالي الذي مدّد هامش حريتهم، فتجلى في سلوكهم اليومي.
إن الوقوع أسرى سلطة اليقين قد يجر الكثير من الآباء والمربيين، وحتى الباحثين إلى استنتاجات متسرعة عن دور التلفزيون في استشراء العنف. فحسب الباحث المذكور، إن الإنتاج التلفزيوني الياباني يتضمن أكبر قدر من مشاهد العنف، وأكثرها قسوة، من أي إنتاج تلفزيوني أخر في العالم، بدءا بأفلام الكارتون المسماة ” منغا”، التي يتابعها اليابانيون، بنهم إلى المسلسلات التلفزيونية. لكن اليابان يسجل أقل عدد من الاغتيالات والاغتصاب من بقية دول العالم. وقد سنت الولايات المتحدة ترسانة من القوانين للتصدى للعنف في شاشة التلفزيون أكثر من الدول الأوربية، فلا تتضمن البرامج التلفزيونية الأمريكية الموجهة للأطفال أي مشهد للعنف. لكن هذا الإجراء لم يبعد الولايات المتحدة الأمريكية من أن تكون على رأس قائمة الدول في العالم التي يترتكب فيها أعلى معدل يومي من الجرائم.
لا يجب أن يفهم مما سبق ذكره أننا ندعو الهيئات المكلفة بتنظيم البث التلفزيوني إلى التخلى عن الإجراءات المتخذة لمحاربة العنف في برامج التلفزيون، سواء تلك التي تبث في وقت ذروة المشاهدة أو الموجهة للأطفال. فغاية الحجج المقدمة أعلاه لا تكمن في إقناع الآباء والمربين بالكف عن المطالبة بتقنين البث التلفزيوني على الصعيد المحلي أو الاقليمي لمنع استشراء العنف في الشاشة الصغيرة بحجة أن العنف الممارس في الحياة اليومية لا علاقته مطلقا بما يبث في الشاشة. لقد تناهت إلى مسامعنا قصة ذاك الطفل التي رمى نفسه من نافذة بيته في عمارة ليرى هل يستطيع أن يحلق مثل بطل مسلسل ” الرجل العنكبوت” سبيدرمان”! وقد اطلعنا على العديد من الدراسات التي أنجزها علماء النفس، وذهبت إلى ما ذهب إليه الفريق العلمي الذي قاده روال هيسمان، والذي أجرى بحثه عن العنف في التلفزيون، في 1982، في كل من أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وهولاندا، وإسرائيل، وفيلاندا، وبولندا، و أكد فيه أن الأطفال والشباب الذين من الممكن أن يسلكوا سلوكا عدوانيا وعنيفا هم الذين يشاهدون أفلام العنف أكثر من بقية زملائهم الذين يتجنبون مشاهدتها.
إذا سلمنا بصحة هذه النتيجة التي توصلت إليها العديد من البحوث، فهذا يعني ضرورة الالتزام بغض البصر عن الوسط الاجتماعي للأطفال والشباب، ووضعهم الأسري، وتجربتهم العاطفية، وخلفياتهم النفسية، والسياق الذي يعيشون فيه وما يفرزه من تصور لماهية العنف. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى ما ذكره الناقد السينمائي إبراهيم العريس في كتابه الموسوم بـ ” الكتابة في الزمن المتغير، الصادر عن دار الطليعة ببيروت في 1979. لقد أكد أنه شاهد فيلم ” البرتقالة الميكانيكية” للمخرج السينمائي ستاليني كوبيرك، المقتبس عن الرواية التي تحمل المسمى ذاته للروائي البريطاني أنطوني برجيس، في لندن، في منتصف السبعينات من القرن الماضي. ولاحظ أن الجمهور اللندني غادر القاعة، قبل نهاية الفيلم، باكيا ومرعوبا مما تضمنه من عنف. وشاهد الفيلم ذاته في بيروت في أوج الحرب الأهلية اللبنانية، لكن الجمهور البيروتي تابع الفيلم دون أن يقشعر له بدن أو يرف له جفن. فالعنف الذي عانى منه المواطن اللبناني، في تلك السنوات، في شارعه، وحيه السكني كان أشد من عنف الفيلم المذكور وأقسى.