ترجمة د. نصر الدين لعياضي
نشرت بمجلة الرافد- الشارقة عدد 200، أبريل 2014
أدلى العالم الفرنسي “جورج بالوندي” بهذا الحديث إلى مجلة ” ميديا” الفرنسية في 2008. عبر فيه عن رؤيته الفلسفية لوسائل الإعلام وتطورها، وشخص رهاناتها في مجال الإعلام والثقافة والفعل السياسي.
و”جورج بالوندي”، أستاذ علم الاجتماع والأنتروبولوجيا، ينتمي إلى جيل أساطين الفكر ومن مجايلي شريكه ألفريد سوفي في نحت مصطلح ” العالم الثالث” في 1957، الذي عمم استخدامه في العلوم الاجتماعية ووسائل الإعلام. وقد عاصر العديد من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين وزاملهم، مثل: ألبير كامي، ورولان بارث، وميشال فوكو، جون بول سارتر، وغيرهم. ويُعّد من أفضل من ناضل من أجل إسماع صوت دول العالم الثالث، خاصة الدول الإفريقية، وأبرع من دعا إلى فهم ” خصوصيتها” بشكل علمي، وهذا يتجلى في كتابه المرجعي: انتروبولوجية سياسية: ( 1967).
ويشرف على إصدار :” دفاتر دولية في علم الاجتماع”. و( الإزعاج الكبير) هو أخر مؤلف أصدره في دار المنشورات الجامعية بفرنسا في 2005.
ما هي أول ذكرياتك مع الصحافة؟
لقد كانت علاقتي بوسائل الإعلام عميقة وعاطفية دائما. أحب ضجيج العالم حتى استعلم وأعرف ما يجري ، وأوثق معلوماتي. فعندما كنت طفلا وُصفت بأنني قارض الورق. كنت أحب أن اقضي وقتي في قبو بيت جدتي الذي تتكدس فيه أعداد هائلة من المجلات القديمة، مثل : l’illustration، وLe monde illustré. ففي هذا المكان تشكلت رغبتي واستطعت أن ألبيها. ومازلت لحد الآن احمل الشغف ذاته. لذا أعتبر أن الصعوبات الحالية التي تعاني منها الصحف جرحا شخصيا بقدر ما هي مشكل سياسي وثقافي.
لقد شاهدت تطور الإذاعة، فكيف استقبلت هذا المولود الجديد؟
لقد اضفت، بسرعة، الإذاعة، هذه الأداة الغامضة، إلى علاقتي المتميزة بالصحف. لقد عرفت جهاز الرديو عندما كان مصنوعا من مادة الرصاص. وقد أذهلني الجيل الأول من أجهزة الراديو. لقد كانت عبارة عن قطعة من أثاث البيوت في ذلك الزمان. إن الأصوات تسحرني الأصوات دائما. وكان يبدو لي أنه من الصعوبة الكذب في الإذاعة أكثر من التلفزيون، ومازالت كذلك. وكأن الصوت يخون المتحدث أقل من وجهه. يوجد نوع من النزاهة في الصوت تؤثر في. وقد ظللت مستمعا للكلمات. أحب متابعة المناقشات والاستماع إلى الأخبار في الراديو. وعندما امتطي السيارة ابحث عن الموسيقى الكلاسيكية أو المناقشات الجادة. فمن المستحيل أن استغنى عن ” إذاعة فرنسا” الثقافية، أو محطة إذاعة الأخبار بفرنسا. فبالحديث والنقاش تستطيع الإذاعة عرض الأفكار والرغبات والعواطف للتداول.
إنكم تمنحون لوسائل الإعلام مكانة مرموقة في تكوينكم الفكري؟
أجل، وهي كذلك إلى غاية اليوم. أعتقد أن الإبقاء على علاقتي بالصحف والاستماع إلى الإذاعة سمح لي بعدم الاستلام إلى وهن السن. أحب الاستماع إلى ضجيج الأحداث المحلية والدولية والشعور بتناقضاتها. إنني بحاجة إليها. إنها حرب دائمة من أجل البقاء يقظا وتحليل حركات العالم.
ما هي الصحيفة أو الصحف التي أثرت فيك أكثر؟
الصحيفة التي أثرت في أكثر هي صحيفة ” Combat“. فعندما رجعت إلى باريس بعد مشاركتي في المقاومة ضد النازية كانت هذه الصحيفة بالنسبة لي مثل الوحي. فلم يكن لها نظيرا في الصحافة الفرنسية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. إنكم لا تدرون ماذا كانت تمثل صحيفة ” كومبا” وألبير كامي! لا يوجد اليوم ما يمكن أن نقارنه بهما. لقد كانت هذه الصحيفة حيث يجب أن تكون. فامتلكت الشرعية الثقافية والأخلاقية لمواجهتنا بحقائق ذاك الزمان. لقد اتصلت مبكرا بالطاقم المشرف عليها، خاصة موريس نادو وميشال ليرينس اللذان كانا من العناصر الأساسية في ذاك الطاقم. فلقائي بميشال كان أعظم لقاء في حياتي. لقد تعارفنا في ” متحف الإنسان”، وهو المسمى الذي أطلق على أول شبكات المقاومة ضد النازية. وقد أوصلني هذا الأخير إلى ألبير كامي. لقد تأثرت بأفكاره وبصحيفته خلال فترة قصيرة. وبعدها ابتعدت عنهما بسبب انتقالي إلى افريقيا. لقد فاجأ قرار انتقالي هذا اصدقائي لأنني بدأت اكتسب قليلا من الشهرة. ويبدو أنه كان لي مستقبلا في عالم الكتابة في باريس، خاصة وأنني قدمت مخطوطي الأول المعنون بـ: ” إذا أخذنا بعين الاعتبار” إلى “موريس نادو” ليصدره ضمن السلسلة التي كان يشرف عليها والموسومة ” دروب الحياة”. وبعدها أصبحت صحيفة مرفئي ومرجعي. والسبب في ذلك يعود تقديري الكبير إلى “هربرت بروف ميري الذي أسس هذه الصحيفة التي تحظى بالاحترام. وإذا استعرنا مقولة الفيلسوف كانط فإن قراءة هذه الصحيفة كانت صلاتي الصباحية منذ خمسين سنة. وإن تطورت هذه الصحيفة عما كانت عليه قبل خمسين سنة فإنها تظل بالنسبة لي مثالا للصرامة.
لكنك ساهمت في تحريرها؟
نعم، لقد نشرت فيها العديد من ” الروبرتاجات” منذ الخمسينات من القرن الماضي. وتوليت كتابة مقال، بانتظام، في ملحقها الخاص بالكتب لعقد من الزمن تقريبا. لقد كانت تجربة مثيرة سمحت لي بتعريف القراء بأعمال متميزة وجادة في بعض الأحيان. لقد أحببت هذا النشاط الذي اعتبره ” مُمَرر” الأفكار. وقد أدركت خلالها المعركة التي يجب أن نخوضها لنشر مقال. وأدركت كم كانت مساحة التحرير المتاحة في الجريدة تشكل رهانا، وتحدد، في الغالب، محتواها. وكانت معركة التأثير من نصيب هيئة التحرير.
وساهمت، أيضا، في مجلة ” النوفال أبوسرفاتور” Nouvel Observateur. أعتقد أنني بدأت الكتابة في العدد الثالث من هذه المجلة عن الوضع في الكونغو . لقد وصلت إلى هذه المجلة عن طريق مجلة ” فرنسا ابسرفتور” France Observateur التي كانت تنافح عن مبادئ السياسي البارز” مندس فرنس”. وقد ساهمت كثيرا في النقاش عن القضايا الأفريقية، وعن تصفية الاستعمار بهذه القارة، على وجه التحديد. فمن خلال مجلة نوفال أوبسرفتور أطلقت بمعية المفكر ألفريد سوفي مصطلح ” العالم الثالث”. لقد حاولنا أن نساعد الدول المستعمرة على إسماع صوتها. أعتقد ان المجلات هي التي أغرتني أكثر على وجه الخصوص. لقد اصبت بداء حاد يمكن تسميته مجازا ” المجالاتي”! فبفضل ميشال ليريس، الذي سمح لي أكثر من مرة بالخروج من عالمي الخاص، تعرفت في البداية إلى الفيلسوف جون بول سارتر، وفريق المجلة التي كان يشرف عليها: ” Temps Modernes” التي تعد، بدون شك، منارةً في ذلك الوقت. ففي تلك الأثناء بالذات أدركت القوة الفكرية التي يمكن أن تمثلها مجلة وفريق تحريرها. وبعدها شاركت في نوع أخر من الغليان الفكري والثقافي والذي كانت تمثله مجلة ” Critique ” والتي كان ينشطها المفكر الرائع ” جورج بطاي”. لقد تلقيت على يده ويد ميشال ليريس دروسا لا تنسى في الكتابة. لقد كانا يتسمان بقدر كبير من الصرامة لم أجده قط بعدهما.
بالنسبة لكم هل للمجلة دورا تضطلع به لتطوير الأفكار؟
لقد كان ينظر للمجلة كوسيلة لإقامة منابر للتعبير وتبادل الأفكار. فتوجد علاقة قوية بين الذين يساهمون في هذه المنابر والقراء. إنها طريقة لجعل الأفكار والمعارف تتقدم ،خاصة أفضلها. بالنسبة لي إن المجلات تقوم بدور الجسر، وتساعد على هيكلة الفكر وعلى فيدرالية وجهات النظر. لقد كنت أعتبر نفسي دائما كنقطة تقاطع الاتصال موجهة إلى تفضيل العلاقات وتداول المعاني. ومن هنا، على ما يبدو، جاء اختياري في أن أكون عالما إثنوغرافيا. إني أحب العيش في عدة حضارات. إن المشكل الأكبر في عصرنا يعود إلى كوننا مضطرين إلى تحمل الآخرين. والآخرون المختلفون عنا كثيرا. إننا عاجزون في اتصالنا، بمعنى أنه يجب علينا أن نواجه لغات الاختلاف.
لقد كنت وراء تأسيس مجلة ” Présence Africaine” وتوليت رئاسة تحريرها مع أستاذ جامعي إيفواري – أي من كوديفوار- وهو برنارد دادي الذي أصبح وزير الثقافة في بلده لاحقا. لقد كان من المهم في ذاك الوقت أن نشكل فريقا قويا ومختلطا يجمع البيض والسود. وبموازاة ذلك شاركت آلان رسنيس في الفيلم الموسوم ” التماثيل تموت أيضا” والذي كان معاديا للاستعمار. واقتصر توزيعه على منتديات السينما فقط. لقد شاركت في انطلاقة العديد من المجلات الأخرى. وأتولى، منذ أربعين سنة، الإشراف على المجلة الدولية لعلم الاجتماع.
ألا يفسر اهتمامكم بوسائل الإعلام ، جزئيا، توجه أبحاثكم في مجال الأنتروبولوجيا إلى تبيّان العلاقة بين السياسة، التي ترونها في كتابكم الموسوم ” الآنتربولوجية السياسية” كمنتجة للرموز، وعالم الإعلام؟
نعم إن السياسة في نظري تشتغل على الصعيد الرمزي. أنا متشبث بالفكرة التي تنص على أن كل سلطة هي سلطة درامية ) بمعنى ممسرحة- المترجم( حتى في مجتمعاتنا العلمانية وذات الطابع التقني المتطور. لقد أصدرت في 1982 لدى دار ” أندري بالوند للنشر” كتابا أسميته ” السلطة في الركح”. وهو كتاب غير متوفر اليوم نظرا لإفلاس دار النشر المذكورة. لكن بطلب أخوي من كلود ديرون، سأعيد نشره في “دار فيار” بطبعة جديدة منقحة ومكملة. سأشير فيه إلى خسارة السلطة السياسية في مجتمع متداول إعلاميا بإفراط، ويحظى فيه الاضطرار إلى نقل الأحداث اليومية الجارية بالأولوية. أعتقد أنه يمكن القول أن الديمقراطية الكاثودية ) نسبة إلى الأنبوب الكاثودي في أجهزة التلفزيون( هي ديمقراطية اضعفت كثيرا، حيث أصبح فيها مفعول الإعلان والمظهر يحظيان بالاهتمام أكثر، والأولوية.
لماذا؟
هذه النظرة التحليلية تعود إلى أعمالي الأولى حول السلطة السياسية التي توجت بنشر كتاب: الأنتروبولوجيا السياسية” في 1967. فوسائل الإعلام، والتلفزيون تحديدا، تمتعت خلال بعض العقود بأهمية بالغة. فالصورة طغت وأصبحت دائمة الحضور، ووسائل الإعلام تشابكت فيما بينها. وهذا يغير، بطبيعة الحال، السلطة السياسية، ونمط سيرها، وعلاقتها بالمحكومين. في البداية نلاحظ القضاء شبه التام عن الأمور المخفية والمتسترة، وعلى البعد الذي كان يفصل المتحكمين في السلطة عن مجموع المواطنين. فالقدرة على الحكم، التي كانت تشترط توافق المحكومين، وهنت بفعل نشاط وسائل الإعلام واللجوء الدائم إليها. إن وضع المتحكمين في السلطة يتسم بنوع من المفارقة: إن حضورهم في وسائل الإعلام أصبح شرطا وجوديا ملحا أكثر فأكثر. فالصورة هي التي تحافظ على علاقتهم الحية بالمحكومين. ومن جهة أخرى فإن ظهورهم المتكرر في الإعلام يجعل الصورة روتينية ومبتذلة. ويضعف المكانة الاستثنائية لرجل السلطة، ويسلب قوته ويقلل من شأنه بفعل السخط أو الرفض لحضوره الإعلامي الطاغي. فالشخص يُقَيَّم من خلال الصورة، ويُحْكم على أدائه بعيون وسائل الإعلام. فالقدرات على التعبير عن العواطف، ومعنى المظهر المرئي تحظيان بالقدر ذاته من الأهمية التي تولى للاتصال السياسي، ولمعنى الرسالة وتلقيها. إن نوعية حضور الصورة يشترط الحفاظ على الفاعلية الإعلامية التي يمكن أن تخدم مالك السلطة السياسية أو لا تخدمه. نحن هنا بصدد إجابة تقنية تستدعي تزايد تدخل أخصائيي الاتصال ليحللوا، بشكل دائم، الصورة التي يظهر به السياسي في وسائل الإعلام. إن خبراء الصور والرسائل يتمتعون بجانب كبير من السلطة.
هل بدا لكم التلفزيون بهذه الصيغة منذ بدايته؟ وكيف تنظرون إليه اليوم؟
كنت أعتقد أن التلفزيون،يقوم، في بدايته، بوظيفة تعليمية. لقد اعتقدت أنه مؤهل لجعل الجمهور الواسع يقتسم البرامج ذات النوعية الجيدة، ويقيم، بفضل برامجه، منبرا يشرح مسيرة العالم ويسمح بالحوار المتعارض. لكن تغيرت الأشياء بسرعة، وتموقع التلفزيون كسلطة. يوجد، بشكل ما، نوع من التنافس القوي بين السلطتين السياسية والإعلامية. لكن السلطة الثانية انتصرت. إنني مندهش من طول عمر الصحافيين المكلفين بإدارة البرامج الحوارية في التلفزيون. إنهم يملكون قدرات حقيقية للتأثير على الحوار وتوجيهه.
هل تعتقدون أن الساسة قدروا سلطة التلفزيون حق قدرها؟
لقد كانت الأجهزة السياسية في البداية حذرة من سلطة الصورة. فقامت بما يجب من أجل احتوائها ومراقبتها. فالنقاش السياسي كان يخضع لمعايير محددة. وظهور رجال السياسة كان مؤطرا جدا وخاضعا لسيناريو مسبق. بصفة عامة ، يمكن أن نعتبر أن هذه المرحلة واكبت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الفرنسية في بدايتها. وبعدها، غير تزايد عدد القنوات التلفزيونية والتسابق من اجل الحصول على أكبر عدد من المشاهدين وتطور العلاقة بالسلطة، ميزان القوى. فغدا من المستحيل مراقبة الرسالة السياسية التلفزيونية، والإبقاء على مركز وحيد لبث الخطاب والصور.
إن كثرة القنوات التلفزيونية أفرز فيضا متواصلا من الصور التي تبث الواحدة تلو الأخرى. فالقنوات التلفزيونية تبحث دائم عن الصور، والإثارة، والعواطف التي تعد وقودها. والسياسيون مجبرون على تلبية ما يبحث عنه التلفزيون من أجل تمرير خطابهم.
إننا شهود على الإخراج الفني الدائم للسلطة السياسية. فرغم قلة تحكم هذه الأخيرة في الأشياء تزداد محاولتها لرفع تأثير الصور. فهذه هي حالة الحوار الذي يجريه بعض الصحافيين مع رئيس الجمهورية الفرنسية أمام التلفزيون عشية العيد الوطني الفرنسي يوم 14 يوليو، على سبيل المثال. إننا نتقلى، بالمناسبة، خطابا مؤسساتيا جدا دون محتوى حقيقي، أي ضربا من مسرح الظل. فهناك حاجة من أجل تدريم ( مسرحة) الخطاب السياسي حتى يمنحه مظهر السلطة.
إنكم تربطون موضوع طقوسية السلطة، الذي يتكرر في بعض كتاباتكم بحركة تجريد المجتمع من الإيديولوجية
لقد رافق تزايد سلطة وسائل الإعلام الطلب على تليين المعارضات المختلفة لأن مكينة التلفزيون تحتاج العاطفة والتوافق. فلضمان الاستعراض التلفزيوني يجب أن ينطلق الحوار والنقاش من حد أدنى من الاتفاق بين مختلف الأطراف المتحاورة. فالتلفزيون يفضل الترفيه على التحليلات المعقدة وتبادل الآراء المتعارضة لأنه يسعى إلى جمع أكبر عدد من المشاهدين. إنه بحاجة إلى يقينيات وليس إلى تعقيدات. وهذا يؤدي إلى إضعاف الجدل السياسي وتقليص مكانة كل ما له علاقة بالشأن العام. هذا التطور الذي يشهده التلفزيون يجري، ويا للمفارقة، في وقت جعلت العولمة والتغيرات الاجتماعية العالم أكثر تعقيدا، وعسيرا على الفهم. فكلمات السياسة ابتذلت وأصبحت، شيئا فشيئا، غير مسموعة. ليس هذا فحسب، بل أعطت الانطباع، بأنها تريد إخفاء عجزها عن مواجهة الحداثة الفائقة، أو التصدي إلى التطور الرهيب في القدرة الاقتصادية- التقنية. فالإخراج المرئي للسلطة السياسية يحاول أن يعالج تجريدها من كل قدسية ويعوض فقدانها للسلطة الرمزية. وبالموازاة لفقدان المعارضات الايديولوجية لقيمتها، نمت سلطة في الكواليس يشكلها الخبراء. إنهم الأخصائيون أو الذين يعرفون بهذا المسمى، والذين يشاركون في اللجان، وتركض وراءهم وسائل الإعلام بانتظام لمعرفة أرائهم. وحتى رجال السياسة ذاتهم يدركون أنهم بحاجة إلى هؤلاء الخبراء من أجل إضفاء الشرعية على قراراتهم. فالخبراء يبررون، بأسباب تقنية، الاختيارات التي يتبناها السياسيون والتي لا مكان لها في الأفق الإيديولوجي. وسيزداد تأثير الخبراء بانتشار قوة الانترنت.
ما هي العلاقة؟
لقد دخلنا عوالم جديدة تشمل أقاليم الكائن الحي، واستخدام الذكاء، وشبكات الإعلام والتواصل للصورة ” وللافنراضي- الواقعي”. أقاليم افتراضية وتتجاوز إلى أبعد حد التنقل والسرعة. إن الفيض الذي تعاني منه مختلف الأشكال: فيض شبكات الشبكات، أي الانترنت، والحوامل المتنقلة، تشكل دورة من الإعلام لا مثيل لها، وتجرنا إلى متطلب التنقل الذي يدافع عنه الخبراء المرتاحين في هذا المجال. ومن جهة أخرى، فإن كلمات السلطة ضاعت في دوامة من التنازل عن المعانى.إن الرسائل والصور تحولت إلى مادة طقوسية وفقدت قيمتها بفضل مضاعفة آلات بثها، وسهولة استخدام هذه الآلات أو النفاذ إليها، واستمرارها في بث مختلف الرسائل. فدورة فيض الرسائل لا تتوقف إلا لما يطرأ حدث غير منتظر واستثنائي، أو حدث درامي أو كارثة، أو عندما يتعرض المجتمع أو الدولة أو الأشخاص إلى خطر. ساعتها يحدث الانكسار في العادات مما يتطلب بناءً جديدًا قبل أن تنطلق الآلة من جديد. إن العديد من المتدخلين أصبحوا ينافسون المتحكم في زمام السلطة الرمزية، ويستطيعون اليوم الحديث، وتقديم الأخبار والمعلومات، والتعريف بوجهات نظرهم… فلا أحد اليوم يمتلك شرعية أكبر من الآخرين لأن كل واحد يستطيع أن يتدخل عبر وسيلته الإعلامية الخاصة: مدونته الإلكترونية، على سبيل المثال.
إنكم تشيرون ، أيضا، إلى أننا نعيش أكثرا فأكثر في مجتمع هجين. فماذا تريدون قوله بالضبط؟
إن الأزمنة الجديدة تدفعنا إلى اللحظة التي تمتزج فيها كل الأشياء، فالواقعي والافتراضي يحاولا الاقتران دون أن تكون هناك إمكانية لفرز الغث من السمين. فهذا المجتمع الهجين جعل العالم صعبا على الفهم، أكثر فأكثر، ويسعى إلى إنتاج نسبية معممة تعَّد مصدر ضياع المعالم ونقص القيم الجديدة.
والعلاقات المتكنجة – التي تنتجها التكنولوجيا- تشكل ضربا من التدين الجديد الذي يبعدنا عن أصولنا الفيزيائية، والمكانية والزمنية وينتهي إلى سلخنا عن تاريخ البشرية.