عندما يُدار قطاع الإعلام بالحيلة في الجزائر


نصر الدين لعياضي

في قراءته لكتاب كليلة ودمنة يقول الناقد المغربي، عبد الفتاح كيلوطو، أن الحيلة تعمل حين تعوُز القوّة. فلا حاجة للأسد إلى الحيلة فقوّته ترفعه عنها”. وهذا خلافا للثعلب الذي يلجأ إلى الحيلة لأنه يفتقد قوّة الأسد.

تنطبق هذه القراءة على السلطات الجزائرية في تعاملها مع قطاع الإعلام. لكن هل خانتها القوة حتّى لجأت إلى الحيلة؟  بَلَى، لقد افتقدت قوّة الحُجّة وليس حُجّة القوّة.

عندما اقبلت السلطات على فتح المجال لإنشاء صحف خاصة، في مطلع تسعينات القرن الماضي، كانت تطمح، من جملة ما تطمح، إلى منح “واجهة ديمقراطية” للنظام السياسي. فساعدت المهنيين على إنشاء صحفهم الخاصة. ثم التحق بهم رجال المال عديمي الصلة بالمهنة. واستخدمت أسلوب ” الجزرة والعصا” لترويض الصحف الخاصة الناشئة. فمَوَّلت الكثير منها بريع الإشهار الذي لازالت تحتكر سوقه. ومسحت ديون العديد من الصحف لدى مطابع الدولة وغضت البصر عن تراكم ديون بعضها الأخر. وعندما ترى ضعف ولاء هذه الصحيفة لها أو تلك تلجأ إلى العصا، فتهددّها بالغلق إن لم تدفع ديونها للمطابع، وتخيفها بإدارة الضرائب! وبالملاحقة القضائية، والإيعاز بتقليص سحب نسخها! وأخر الأمثلة على ذلك صحيفة “الفجر” و”الجزائر نيوز”. لقد فهم مالكا هاتين الصحيفتين ان حرمانهما من الطبع لا علاقة له بعدم تسديد ثمن طباعتهما. واعتبراه عقابا سياسيّا سلط عليهما لموقفهما المعارض لترشح بوتفليقة لعهدة رئاسيّة رابعة!

توقفت 60 صحفية عن الصدور في الجزائر منذ 2014 بسبب تراجع سوق الإعلان، كما تزعم السلطة. لكن هذا التراجع لم يمنعها من رفع حصة بعض الصحف من الإشهار حتىّ تلك التي لا يقرأها أحد ، بينما حرمت منه صحفا أخرى أكثر مقروئية!

كلّلت سياسة العصا والجزر بتكوين فئة من “الصحافيين” و”أشباه الصحافيين” اغتنوا من الصحافة، فامتلكوا عقارات وشريكات تجارية دون أن يسدّدوا ديونهم لدى مطابع الدولة! هكذا تقاطعت مصالح “أثرياء الصحافة” ومصالح الكثير من السياسيين ورجال المال. فحوّلوا صحفهم إلى ساحة للصراع بين عُصَب السلطة وأداته. هذا ما يقوله الهجوم الشرس الذي شنّته بعض الصحف على مستشار الرئيس زروال في صيف 1998 لإجباره على الاستقالة من رئاسة الجمهوريّة  وتحقق لهم ذلك. والهجوم الذي تعرض له وزير الداخلية السابق نور الدين زرهوني للضغط على الرئيس بوتفليقة، الذي انتهى بالاستغناء عن خدمات هذا الوزير. و قبلها التهجم على الشخصيات الخمس الذين انسحبوا من الترشح للانتخابات الرئاسية في  أبريل 1999 لاعتقادهم بأن نتائج الانتخابات محسومة مسبقا لصالح بوتفليقة. ووظف هذا الصراع التصور التاريخي لما هو الصحافي. فلازال الاعتقاد سائدا في قاعات التحرير  بأن الصحافي مناضل وأن الوسيلة الإعلامية أداة نضالية.

هذا لا ينفي الاعتراف بوجود صحافيين أكفاء أمنوا بالصحافة الحرة ، ومنهم من دفع حياته ثمنا لها. ولا يبخس قيمة بعض الكتابات الصحفيّة الجريئة والناقدة في الصحف الجزائريّة. لكن نقد الصحف وتعليقاتها لا يزعج السلطات كثيرا في حالة خُلوُّها من الأخبار المُوَثَّقة التي تدين النظام السياسي.

يذكر أنبرتو إيكو أن الوظيفة الحقيقية الصحافة الايطالية في ستينات القرن الماضي وسبعيناته، ليت إخبار الناس، بل بعث رسائل مسننة إلى لوبيات السلطة، ولم يكن قراؤها سوى وسيلة. المصيبة أن الرسائل التي كانت تبعثها الصحف الجزائرية، وربما لازالت، ليست مسننة بل صريحة ومجاهرة بنواياها.

والحيلة في إدارة قطاع السمعي البصري في الجزائر لم تكن أقل في إدارة الصحف. فأمام الخوف من امتداد حراك الربيع العربي إلى الجزائر، ورغبة بوتفليقة في الترشح لعهدة رئاسية رابعة، فتحت السلطات الجزائريّة المجال للاستثمار الخاص في قطاع التلفزيون في 2012. واشترطت أن يكون بَثّه من خارج التراب الجزائري! فأزداد عدد هذه القنوات ذات الوضع القانوني الهجين عن 40 قناة تلفزيونية في ظرف قصير جدا. ولكن لم يُرَخّص سوى لخمس قنوات تلفزيونية بصفتها مكاتب لقنوات تلفزيونيّة أجنبيّة لمدة سنة قابلة للتجديد! بالطبع إن المحظوظين الذين استفادوا من الترخّيص هم رجال الأعمال المقربين من دائرة الرئاسة، والذين جعلتهم رجال مال بين عشية وضحاها. واختيارهم لا يَنُمّ عن عبقرية جزائرية بقدر ما يفصح عن تقليد ممسوخ لما قام به نظام بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر.

ينص القانون الجزائري الخاص بالسمعي- البصري، الصادر في 2014،  على أن حرية إنشاء قنوات تلفزيونية يقتصر على القنوات المتخصصة، وعلى ضرورة أن يكون مالكوها من الصحافيين المحترفين وأشخاص مهنيين، ولا يجوز لأي شخص المساهمة في إنشاء أكثر من قناة تلفزيونية. لكن النظام السياسي لم يُفَعِّل هذا القانون، وتركه للاستعمال كسيف دموقليس على رقاب القنوات التلفزيونية. لقد شُمّع مقر القناتين التلفزيونيتين: الأطلس والوطن بقرار إداري بحجة عدم حصولهما على ترخّيص لممارسة نشاطهما!

كانت نِيّة السلطات الجزائرية عفوا حيلتها، من هذا ” الانفتاح” في مجال البث التلفزيوني تحوّيل المشاهدين الجزائريين عن متابعة القنوات التلفزيونيّة الأجنبيّة: الجزيرة والعربيّة، وفرانس 24، و تي أف 1 الفرنسية، وغيرها من خلال الترخيص لقنوات تلفزيونيّة خاصة بالنشاط. وتلهيتهم بلغو الصور والكلام عن استحضار الجن والشعوذة والزنا، عملا بمقولة “”إنّ السياسة فنُّ منع البشر من الاهتمام بما يَعْنيهم”. وتوجيهها إلى تصفيّة الحساب بين عصب السلطة. وهكذا تحوّلت  بعض القنوات التلفزيونية إلى لسان ناطق باسم “القوى غير الدستورية” التي استأثرت بالحكم. ففضلتها عن وكالة الأنباء الجزائرية والتلفزيون الحكومي في مجال الأخبار. ليس هذا فحسب بل كبلت نشاط وسائل الإعلام العمومي بعد أن جعلتها مجرد نشرات داخلية لنشاط السلطة التنفيذية أو بالأحرى صدى لصوتها. فأدارت ظهرها للمجتمع، بل غيبّته في منتجاتها. وأبرز دليل على ذلك هو افتتاح نشرة الأخبار في الإذاعة الوطنية بالانتخابات الرئاسية في نيجيريا يوم 22 فيفري الفائت الذي شهد بداية المسيرات الشعبية الرافضة لترشح بوتفليقة لعهدة خامسة! والأدهى أن   القوى التي أممت الدولة لصالحها اتخذت من بعض القنوات التلفزيونية الخاصة سوطا لجلد كل معارضيها. والتندّيد بالذين اختلفوا مع سياسة بوتفليقة وحتّى مع مزاجه. فلم ينجو من تشهيرها وقذفها والنهش في الأعراض رؤساء أحزاب معارضة، ومستثمرين، ومثقفين وفنانين، وشخصيات تاريخيّة، وحتّى وزراء وهم على رأس وزاراتهم أمام صمت مؤسسات الدولة وربما تواطؤها! هذا لا ينفي قيام بعض القنوات التلفزيونية ببثّ برامج متميزة. لكن طائر السنونو الوحيد لا يصنع الربيع! كما يُقول المثل الفرنسي.

هل يدرك النظام السياسي معنى المثل العربي الذي يقول “على أهلها جنت براقش” بعد أن أوصل  وسائل الإعلام الجزائرية إلى الانفلات المهني والأخلاقي الذي تعيشه الجزائر اليوم إلى درجة لم يعد المرء يصدق أي خبر، ويشكك في نوايا ناشره؟  انفلات لم يترك لرئيس هيئة ضبط السمعي البصري ما يقوله سوى التأسف على ما ألت إليه الممارسة الإعلامية والتأكيد على :”إن سلطة المال تُضبّب الرؤية للحقل الإعلامي، وأن هناك إرادة لإنشاء مؤسسات، ثم تكبيلها”! هذا قول غريب حقا، ألم يقرأ صاحبه النص القانوني لإنشاء الهيئة التي يترأسها؟ ألم يدرك بأنها ليست سوى امتدادا لديوان وزارة الاتصال؟

قد يتّهمني البعض بالسذاجة لأنني أتوهم وجود إعلام في العالم دون صراع المصالح ولا حيل. فالقانون هو إجماع على تشريع الحيل. بينما نص القانون المتضمن إنشاء الهيئة المذكورة أعلاه ليس سوى اقتباسا بدون روح للقانون الفرنسي الذي أسس المجلس الأعلى للسمعي البصري! ويبدو أن هذا الاقتباس أصبح عاجزا عن تحقيق غايات “القوى غير الدستورية” المذكورة آنفا فداست عليه!

الأمر ليس سذاجة، بل إشارة إلى محاولة فهم ما يجري في قطاع الإعلام، ودعوة إلى عدم الاندهاش من  واقعه، أو النظرة إليه نظرة تغريبية:

فــ ( التغريب هو فقدان الحادثة  أو الشخصية لكل ما هو بديهي ومألوف وواضح، وإثارة الدهشة والفضول تعويضا عن ذلك… أي أن اثر التغريب للشيء المراد فهمه أو لفت النظر إليه يتحقّق حين يتحوّل من أمر عادي جد ماثل مباشرة إلى أمر مدهش غير متوقع. ففي معنى من المعاني يصير الوضوح في حد ذاته غير مفهوم، على حين أن هذا لم يحدث إلا لكي يجعله مفهوما كل الفهم.) (1)

ما اخشاه هو أن ينطبق ما جاء في الفيلم المصري “الكيف” على وضع الإعلام التلفزيوني في الجزائر. يقول الممثل في هذا الفيلم: ( كنت أبيع الشّاي مغشوشا بنشارة الخشب في أكواب جميلة مدموغة بجملة “شاي أبو الأصول”. فكسبت مالا وفيرا. ثم استغنيت عن النشارة عندما ارتفع سعرها، فانصرف عني الزبائن قائلين: إني أبيع شايا مغشوشًا. إنهم مُغفّلون. فيرد عليه ممثل أخر: لا ، الزبائن ليسوا مُغفّلين، بل أمثالكم أفسدوا ذوقهم. هل يدير الجمهور الجزائري ظهره للإعلام عندما تتوفر الإرادة السياسية لدى النظام السياسي القادم ويُخْضِع النشاط الإعلامي إلى معايير مهنيّة وأخلاقيّة، لأنه تعوّد على إعلام مغشوش، فأفسد ذوقه؟

1- محمد غنيم هلال : في النقد المسرحي ، دار العودة بيروت 1975، ص 68

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: