عِلّة الأخبار في الحراك الشعبي الجزائري


نصر الدين لعياضي

من يتابع عن كثب التطورات التي تعيشها الجزائر منذ أسابيع يصاب بالذّهول من حجم الأخبار المزيّفة، وسرعة انتشارها وسط مختلف الشرائح الاجتماعيّة. بل يعجز في أحيان كثيرة عن تمييزها عن الأخبار الصادقة. وهذا الأمر أصبح يثير الكثير من القلق الذي يربك الحراك الشعبي ويرهن مستقبله القريب. ومن جملة ما تم تداوله من أخبار مزيّفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بدءًا من 1 مارس/ 2019، نذكر على سبيل المثال، قائمة الأشخاص الممنوعين من مغادرة التراب الوطني، والتي أُضيفت لها اسماء وأسقطت منها أخرى حسب أهواء من وضعوها. ونتيجة لما أحدثه هذا الخبر من قلق في المجتمع لجأت أجهزة الأمن المختصة إلى نفي وجود مثل هذه القائمة . وشاع خبر إقالة نائب وزير الدفاع، ورئيس أركان الجيش الجزائري، ساعات قليلة قبيل استقالة الرئيس بوتقليقة. وعُزّز بصورة لنص مرسوم الإقالة مستندا إلى المادة 72 من الدستور الجزائري لإثبات صحّته. وعند العودة إلى الدستور نجد أن المادة المذكورة تنص حرفيا على ما يلي: ” تحظى الأسرة بحماية الدّولة واﻟﻤﺠتمع”!. وبعد استقالة الرئيس بوتفليقة مباشرة انتشرت أخبار في المنصات الرقميّة عن هروب وزراء حكومة أحمد أويحي المقالة، و القاء القبض على وزير العدل السابق فارا على الحدود المغربية! مما أضطره إلى الظهور أمام الملأ لتفنيد الخبر. هذا إضافة إلى الأخبار التي طالت أعضاء الحكومة الحالية المغضوب عليها و ” قادة” الحراك الشعبي، والتي استعانت بصور تم التلاعب بها بـ ” الفتوشوب”، قصد النيل من شرفهم وسمعتهم.

بصرف النظر عن السياق الذي انتشرت فيه الأخبار المزيّفة، لا تعدّ الجزائر البلد الوحيد الذي أصبح يعاني من وطأتها. لقد وصفها البعض بالحريق الذي يشبّ في الغابة  الرقميّة. فالكثير من البلدان لم تقم بعد بتقييم تكلفة الخسائر التي سببتها لها الأخبار المزيّفة، بدءًا بتلك التي أطرت حملة الانتخابات البريطانيَة للانسحاب من الاتحاد الأوربي، وصولا إلى حملة الانتخابات الأمريكيَة التي أوصلت “دونالد ترامب” إلى البيت الأبيض. ولازال يوظف بعضها ضد خصومه الديمقراطيين لتبرير سياسته ومواقفه، مثل الانسحاب من اتفاق باريس حول المناخ. حقيقة لقد تجندت مؤسسات الدولة، ووسائل الإعلام لمحاربة الأخبار المزيّفة في البلدان التي تضرّرت منها. ولازالت تحاربها. بينما انصرفت بعض الصحف والقنوات التلفزيونيَة الخاصة في الجزائر والعديد من المواقع الإخبارية في شبكة الانترنت ، ناهيك عن الحسابات المشبوهة في موقع الفيسبوك و اليوتيوب، إلى ترويج هذه الأخبار التي أصبحت تثير النّعرات الجهويّة، وتنال من الحياة الخاصة للأشخاص. وتخوّن من تشاء وتحاكمه من أجل التّفرقة بين الشعب وزرع الأحقاد والضغائن وإثارة البلبلة في المجتمع. وهكذا اختلطت الأخبار الحقيقة والصادقة مع الكاذبة والمغشوشة مما يتطلب إعادة تعريف هذه الأخيرة.

يعتقد البعض أن الأخبار المزيّفة، التي زاد الاهتمام بها بعد انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، تعدّ ترجمة عملية للشائعات. والكل يعلم أن الشائعات ظاهرة موغلة في التاريخ وليست حديثة. ويحتمل أن تتضمن أحداث حقيقية أو مغلوطة. وهذا خلافا للأخبار المزيّفة التي تروج أحداث كاذبة. وهذا ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني، ” أكسل جلفيرت”، الذي أكد أن الأخبار المزيّفة هي إدعاء خاطئ أو مخادع ومقصود بوقوع أحداث يزعم أنها حقيقية. أو نقل لأخبار مُحَرَّفة أو مُشًوَّهة وحتّى مُلَفَّقة لغرض التَسلية أو التضليل.

لقد كان للفلاسفة الحظ الأوفر في تعريف ” الأخبار المزيّفة” ، فبعضهم أطلق عليها مسمى ” أخبار ما بعد الحقيقة”. وهي التسمية التي تندرج في منظور ما بعد الحداثة الذي يرى أن الواقع تغير وأضحى يتطلب فكرا مركبا لإدراكه. الفكر الذي يُطَلّق الثنائيات التي كانت تؤطره.  فثنائية الواقعي والخيالي، على سبيل المثال، لم تعد كافية للتعبير عن التطور الذي فرضته التكنولوجيا الراهنة. فأُدْخِل عليها مفهوم ثالث، وهو الافتراضي. كذلك الأمر بالنسبة للحقيقة والكذب اللذين أُدْخِل عليهما مفهوم جديد وهو ” ما بعد الحقيقة”، الذي يتجسد عبر أشكال عديدة، منها ” الواقع الفائق”.

لعل القارئ الكريم لا يريد أن يذهب إلى ما ذهب إليه الفلاسفة ليسأل معهم هل أن ” ما بعد الحقيقة” هى مجرد كلمة عابرة  أو  تعكس” واقعا جديدا، اعتقادا منه أن النقاش الفلسفي يبعده عن الإجابة عن الأسئلة العملية التالية: لماذا وجدت الأخبار المزيّفة؟ ولماذا تلقى رواجا واسعا؟ ولماذا يصدقها جمهور واسع ؟

يؤكد خبير الإعلام، أرنو مرسي، أن سياق تحوّل المجتمعات الراهنة جعل الأحداث الموضوعية أقل تأثيرا على الرأي العام من استثارة العاطفة والأفكار الشخصية.  وهنا تكمن خطورة الأخبار المزيّفة على الأحداث الجارية والتي تجري في الجزائر، وذلك لأن الشارع في حالة تعبئة، ويتقبل بسرعة الكثير من الأخبار وينشرها ، خاصة تلك التي تتماشى مع رغبته التي جاهر بها و الدفينة أو تلك التي تزيد في اندفاعه. ولو جاز لنا تعريف الخبر المزيف  بأنه ” الْإِخْبَارُ عَنْ شَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ فيه”، أي الكذب، فإننا نجد في تراثنا ما يجيز  وصِف الكثير من الأخبار المتداولة في الشارع الجزائري بالكذب الأبيض الذي يقصد به التَّوْرية والمناورة والاحتواء.

قد يتساءل البعض كيف أن الأخبار المزيَفة، التي اجتاحت الجزائر منذ بداية الحراك الشعبي تعدت المنصات الرقميّة لتبلغ  بعض القنوات التلفزيونية الخاصة الجزائرية والصحف والمواقع الإخبارية في شبكة الانترنت؟ للإجابة عن هذا السؤال يمكن القول أن هذه الوسائل الإعلامية أنشئت بإيعاز وتدعيم من المقربين من الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة تحضيرا لعهدته الرابعة ولتحصين الجزائر من تداعيات ” الربيع العربي”. ووُجِّهت  إلى تصفية الحسابات السّياسيّة، والتخويف والابتزاز بمختلف الأشكال: الوشاية والنميمة والتّشهير في ظل صمت، وربما تواطؤ، المؤسسات المكلفة بمحاربة هذه الممارسات في وسائل الإعلام. قد وجدت هذه الوسائل من الجزائريين من يتابعها وحتى يناصرها لأنها شكلت متنفسا لهم بعد أن سحبوا ثقتهم من وسائل الإعلام الرسميّة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يمكن القول أن الصحافة الجزائرية  كانت صحافة ” جالسة”، قبل ظهور شبكة الانترنت وانتشارها. بمعنى أنها كانت تنتظر ما يصلها من بيانات رسميّة من وكالة الأنباء الجزائرية و مؤسسات الدولة لنشرها. وتهاونت في رفع قدراتها على البحث عن الأخبار واستقصاء مصادرها لتتأكد من صحتها. فهذه الصحافة الموروثة عن الصحافة التجنيدية ظلت مولعة بالرأي أكثر من اهتمامها بالأخبار. وهنا يكمن الخطر الفعلي. فعندما تعمّ الأخبار المزيّفة تصبح الوقائع والحقائق الموضوعيّة مجرد وجهة نظر! وبهذا تتساوى مختلف مصادر الأخبار : المؤسسات الرسميّة، ووسائل الإعلام، والشخص الذي لا يفرق بين الحدث والرأي. فيضع مواقع التواصل الاجتماعي على قدم المساواة مع  وسائل إعلام التي تحرص على فحص ومحص ما تنشره. قد يجد الشخص البسيط، الذي يصدق كل ما يصله  من أخبار ، ما يشفع له عندما نعلم أن وسائل الإعلام الكبرى في العالم أصبحت تعاني الكثير من الصعاب في سعيها للتأكد من مصداقيّة الأحداث في عالم أصبح يفيض بالأخبار. وتغيرت فيه مرجعية الحكم على صحّتها. فسرعة تداول الأخبار وانتشارها الواسع أضحيا من المؤشرات الأساسية على صحّتها والوثوق فيها. وفي ظل بيئة إعلامية تبدلّت فيها قواعد العمل الصحفي نتيجة الضغط الذي تعاني منه المؤسسات الإعلاميّة لتحقيق السبق الصحفي. الضغط الذي يتطلب منها، في الكثير من المواقف، نشر الأخبار قبل التأكد من صحّتها ، والتّملّص من مسؤولية التحرّي عن مصدرها ووضعها على كاهل جمهورها.

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: