كيف نفهم مسلسلا تلفزيونيا ؟


نصر الدين لعياضي

 

منذ خمسينات القرن الماضي، والمسلسلات التلفزيونيّة تستحوذ على قسط وافر من ليالي سهر مشاهدي القنوات التلفزيونيّة. ومع التوجه رؤوس الأموال الخاصة إلى الاستثمار في قطاع التلفزيون  في العديد من الدول الأوربية بدءا من ثمانيات القرن الماضي، أزداد الطلب على المسلسلات التلفزيونية. لقد أدرك مصممو  الشبكات البرامجية في القنوات التلفزيونية التابعة للقطاعين العام والخاص أن المسلسلات تشكل ” العربة ” التي تجر قطار مختلف البرامج التلفزيونية. وتمتّن علاقاتها بالجمهور.

يمكن استخلاص مجموعة من المؤشرات عن التحولات التي شهدتها المسلسلات التلفزيونية خلال العقود الأخيرة، نذكر منها: عدم احتكار القنوات التلفزيونية الكلاسيكية لبث المسلسلات، إذ أصبح الجمهور يتابعها عبر حوامل جديدة ومتعدَدة، منها على وجه التحديد المنصات الرقميّة، و المواقع المتخصصة في بث المسلسلات في شبكة الانترنت، وخدمة الفيديو وفق الطلب.  وهذا ما أدى إلى تحررها من القيود التي كبلتها بها القنوات التلفزيونية الكلاسيكية. أنها القيود المتعلقة  بشكل هذه المسلسلات ومحتوياتها وزمن بثها. ويعود الفضل في ذلك أولا  إلى بروز البث التلفزيوني عبر الكابل ، وتكاثر القنوات المتخصصة غير المجانية – التي تتطلب اشتراكا لمشاهدة برامجها بمقابل مالي.  وهذا يعني تحررها من التبعية للإشهار ونواهي المشهّرين.

 

التحوّل

ما سبق قوله لا ينفي بتاتا بأن المسلسلات نشأت وترعرت في كنف التلفزيون الكلاسيكي. وبلغت درجة أنها أزاحت الأفلام السينمائية من عرشها في الشاشات الصغيرة.  وعملت على تشكيل جمهورها المتنوع طيلة سنوات متواصلة. لقد تنافس المشهّرون على إدراج موادهم الإشهارية في المسلسلات التلفزيونيّة التي امتلكت القدرة على تعويد المشاهدين على متابعتها في أوقات محددة وعبر امتداد حلقاتها التي تدوم أشهر وحتى سنوات! فلا مجال للتعجب إن علمنا أن المسلسلات البرازيلية التي تسمى ” تلي نوفا” التي تبثها القنوات التلفزيونية الناطقة باللغة الإسبانية في الولايات المتحدة الأمريكية تحظى بأكبر نسبة مشاهدة، خاصة في أوساط الأمريكيين المنحدرين من أمريكا اللاتينية. لذا بلغ الإشهار الذي تبثه هذه القنوات 5.3 مليار دولار في 2010، أي 9% من مجمل نفقات الإشهار في الولايات المتحدة الأمريكية بأسرها. هذا ما يؤكده ” أدم جاكوبسن”، مستشار وسائل الإعلام الناطقة باللغة الفرنسية في مدينة ميامي.

لقد استهدف المعلنون عبر إعلاناتهم في المسلسلات التلفزيونية ربات الأسر الماكثات في بيوتهن واللواتي لم يتجاوزن سن الخمسين؛ أي اللواتي أدمن على مشاهدة حلقات المسلسلات ويتمتعن بالقدرة على اتخاذ قرار شراء ما يستلزم البيت والأسرة من مواد استهلاكية. لكننا اليوم نشاهد أصناف من المسلسلات التلفزيونية التي تستهدف شرائح اجتماعية أخرى، منها الشباب والأطفال والكهول.

وفي ظل المنافسة المحمومة بين القنوات التلفزيونية، وأمام تزايد الطلب الشعبي على المسلسلات التلفزيونية تبارى كتاب السيناريو والمخرجون في تطويرها وإتقان صناعتها سواء على صعيد الموضوع أو أسلوب المعالجة. فكتابة سيناريو المسلسلات وصياغة حواره أضحت فنا قائما بذاته يتسم بالجودة والجاذبية. ويصنف كتابه بالمؤلفين والمبدعين. وحظى تصوير المسلسلات التلفزيونية بعناية فائقة تضاهي تصوير الأفلام السينمائية. وشهدت مواضيعها في الولايات المتحدة الأمريكية، البلد الذي يحتل صدارة إنتاج المسلسلات في العالم، منعطفا بارزا، إذ غامرت بالنأي عن الرومانسية العاطفية التي تستند إلى الثنائية التي شكلت اللحمة الدرامية في الثقافة الغربية. الثنائية القائمة على الصراع بين الخير والشر، وانتصار الأول على الثاني مهما كانت الصعوبات والتضحيات . إنها المسلسلات المعاصرة التي هيمن عليها ما يسميهم الناقد الفرنسي “فرانسوا جوست ” بالأشرار الجدد” ، مثل مسلسل بريكينج باد ” Breaking Bad ” اختلال ضال ” “، ودكستر” ” Dexter” و  ” جيم اوف ثرونز ” Game of Thrones” ” صراع العروش”. والتي يرى الباحث الجزائري ذي الصول الفرنسية، فانسن كولونا، المختص في الانتاج التلفزيوني، أنها تقوم بدور صحي في المجتمع، دور الرواية في مجال الأدب. وذلك لأنها تنقد بشدّة المؤسسات والسلوك، وتكشف عن الفجوة القائمة بين ما يتطلبه المجتمع وما يفعله أبناؤه عمليّا. ويعتقد أن هذه المسلسلات، وتلك التي تصاغ على شاكلتها ، تجعل المرء أقل سذاجة ولا يغترّ بالمظاهر الخداعة في الحياة لكونها تميط اللثام على الكثير من عيوب العصر في المجتمع الأمريكي  وتبيّن للمشاهدين  ما هو الواقع  وما هي السلطة، وما بلغه رأسمال من نفوذ.

خلافا للولايات المتحدة الأمريكية، لقد أدار البحث الجامعي في أوربا ظهره للمسلسلات التلفزيونية ردحا من الزمن ولم يهتم بها لأنه انصرف إلى دراسة ما يعتبره إنتاجا ثقافيا راسخا، وليد الثقافة العالمة، مثل الكتاب والرواية والشعر، والسينما، والمسرح. بينما اعتبر المسلسلات التلفزيونية منتجا استهلاكية شعبيا تفتقد دراستها أي قيمة علمية.  فتركت للمتابعات الصحفية في الجرائد والمجلات المتخصصة التي حاولت رصد شعبية بعضها وتفسير سر نجاحها.

لقد أدرجت المسلسلات التلفزيونية في الدرس الجامعي في جل الدول الأوربية في مطلع ثمانيات القرن الماضي. فتعامل معها في البداية مثل الفيلم السينمائي من خلال التركيز على نوعية الإخراج الفني، ودرجة تعقد السيناريو، وسلاسة الحوار وقدرته التعبيرية، والواقعية السيكولوجية، وتنوع الحكاية ، والمنطق السردي، والتوترات السياسية التي تطبع العلاقة بين أبطالها،  وغيرها من الجوانب التي تسمح بالتمييز بين مختلف المسلسلات التلفزيونية.

 

استنطاق المسكوت عنه

وضمن هذا المسعى تم التطرق إلى المسلسلات التلفزيونية بأدوات التحليل السيميائي والتى تروم استنطاق الرموز التي تحملها، والدلالات المبطنة وراء علاقات أبطال المسلسلات وعلاقتها بالمرجعية الواقعية: الحياة اليومية. ففي هذا الإطار نفهم مقولة” إن المسلسلات التلفزيونية هي انعكاس للمجتمع، ومرآة طموحاته”. لقد حاول مخرج الأفلام التلفزيونية الأمريكي  ” ليود كرايمر”، صاحب فيلم الأشخاص الخمسة الذين تلقاهم في الجنة”، تحليل المسلسلات التلفزيونية الأمريكية على ضوء تطور عادات المجتمع الأمريكي وطقوسه. إذ يؤكد أن صورة الأب في المسلسل التلفزيوني ” أبي على حق” الذي بث في خمسينيات القرن الماضي قدمت نموذجيا لرب الأسرة المحترم. بينما تتراجع السلطة الأبوية في المسلسل الموسوم بـ ” الكل داخل العائلة” في سبعينات القرن ذاته. لقد ظهر الأب في هذا المسلسل ضعيف الشخصية سمج نتيجة وقوعه تحت تأثير الثقافة المضادة أمام بروز الحركة النسوية والحقوق المدنية. واستعاد الأب سلطته على أبنائه في المسلسلات التلفزيونية، مثل ” ذا كوسبي شو ” في ثمانينات القرن الماضي التي صادفت   وصول ريغان إلى البيت الأبيض، وسعيه لفرض نزعة التفوق الأمريكي.  وفي تسعينات القرن ذاته يظهر الأب في المسلسل الكرتوني” عائلة سيمبسون”  غير مبال بدوره كرب أسرة ، ولا يتحكم في أفرادها. وتتضح هذه صورة أكثر في المسلسل: ” آل سوبرانو”  الذي تتجلى فيها ملمح الأب وهو يرزح تحت ثقل الأحداث التي تتجاوزه دائما بعد أن فقد السيطرة على أسرته.

هذه القراءة السيميائية للمسلسلات مفيدة جدا للكشف عن البعد الأيديولوجي المتستر في المسلسلات التلفزيونية  واستنطاق المسكوت عنه فيها، لكنها غير كافية لفهمها. وذلك لأنها لا تتحدث باسم الغائب، أي الجمهور فقط، بل تصادر رأيه أيضا. والأكثر من هذا أنها تنقل الجمهور من حالته الملموسة بخصائصه الثقافية والاجتماعية إلى مجرد تصور أو خطاب ينتجه المهنيون والدارسون.

لقد أوخذ على هذه الطريقة في التحليل أنها تتعامل مع المسلسلات التلفزيونية كأنها نص من بين النصوص السردية الأخرى، وبمعزل عن طريقة تلقيه من قبل المشاهدين.

تكاد دراسة المسلسلات التلفزيونية تغيب في الجامعات العربية إن استثنينا البحوث التي تحاول أن تستطلع آراء الجمهور في هذا المسلسل التلفزيوني أو ذاك، وتحاول أن تكشف عن جمهوره. لكنها لا تغامر بالإجابة عن السؤال التالي: ما المعنى الذي استخلصه المشاهدون من متابعتهم لهذا المسلسل التلفزيوني أو ذاك وكيف أولوا أحداثه؟  يندرج هذا السؤال في قلب نظرية التلقي التي تلفت الانتباه إلى الفكرة التي تكاد تصبح بديهية أو تحصيل حاصل مفادها أن الرسالة التي تستخلصها المتلقي- المشاهد- من مشاهدته لمسلسل تلفزيوني قد لا تتطابق تطابقا تاما مع تلك التي أراد مخرج المسلسل أو منتجه توصيلها له.

 

سلطة التأويل

تعيد نظرية التلقّي الاعتبار إلى المشاهد وتبوأه مكانة مركزية لأنها لا تؤمن بتأثير المسلسلات بدون الأخذ بعين الاعتبار كيف فهمها المشاهدون وأولوها في حياتهم اليومية. وعلى هذا الأساس توصل ستورت هول، الباحث الأمريكي إلى وجود ثلاثة أصناف من المشاهدين: المشاهد المستسلم، أي الذي يتقبل البعض مما ورد في المسلسلات التلفزيونية وفق المعنى الذي قصده المنتج أو المخرج، والجمهور المفاوض الذي يعدل ما ورد في المسلسلات ويخضعها لتصوره وحاجاته، والجمهور الرافض، أي مقاوم للمضامين التي تنقلها المسلسلات.

يقدم الباحث البريطاني المختص في التلفزيون، جون فيسك، نموذجا للجمهور المفاوض الذي يستخلص من المادة الدرامية ما يمتعه  ويعزّز هويّته. فيذكر فيلم  رامبو   Ramboالأول ( للمخرج سلفيستر ستالون Sylvester Stallone ( الذي ندّد بالاضطهاد الذي عاني منه أحد قدماء المقاتلين في فيتنام عندما عاد من الحرب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ويستعرض رده الحربي على العنف الذي تعرض له. يقول الباحث ذاته أن  هذا الفيلم كان من الأفلام التي يفضلها الرئيس الأمريكي السابق رولاد ريغان ساعة عرضه في قاعات السينما لتضميناته الرجوليّة ونزعته الوطنية. وأحبه ، أيضا، سكان أستراليا الأصليون غير المبالين بالشأن الأمريكي لكنهم وجدوا ذاتهم في بطل هذا الفيلم. هذا الشخص الأخرق، والناطق باللغة الإسبانية، أي غير المؤهل للتعبير بمصطلحات البروتستانتيين الأنجلوساكسونيين البيض المهيمنة، والمطارد من قبل الشرطة، والعائد إلى وضعه الطبيعي باللجوء إلى العيش في الغابة.  لقد أدرك السكان الأصليون باستراليا السرد الفيلمي المذكور كاستعارة لظروف حياتهم الخَاصَّة: لقد كان على هؤلاء السكان تبني التقاليد اللّسانية البريطانية. لقد شكلوا مجموعة اجتماعيّة تعاني من أعلى نسبة انحراف في أستراليا وتواجه بأقسى عقاب، فكانت علاقتهم قويّة بالطبيعة والأحراش  تحديدا.

توظف نظريات التلقي جملة من المفاهيم التي ترشدها إلى آلية تأويل المشاهدين لما يشاهدونه في المسلسلات التلفزيونية، منها: أفق التلقي واندماج الأفقين.

يستند أفق التلقي إلى التجربة السابقة التي اكتسبها الجمهور عن النوع الذي ينتمي إليه النص الدرامي: فيلم ، مسلسل تلفزيوني، وغيره، وشكل الأعمال السابقة، وموضوعاتها التي من المفترض معرفتها. وأبرز مثال يجسد هذا المفهوم هو توقع/ تكهن المشاهد بخاتمة الفيلم أو المسلسل دون أن يشاهد أخر حلقة منه.

ويعبر مفهوم اندماج الأفقين ، عن لقاء الأفق الذي يرسمه المسلسل التلفزيوني وأفق المشاهد. وأفضل مثال على ذلك تقدمه المسلسلات التلفزيونية التاريخية والتي يقرأها المشاهد بناء على واقعه. فيسقط الكثير من تفاصيل الماضي على حاضره.

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: