ما العمل إن هاجر الأطفال شاشة التلفزيون؟


نشر بمجلة إذاعة وتلفزيون الخليج- العدد 108 أبريل 2017

في أثناء المؤتمر  الذي نظمه مخبر استخدامات المنتجات الإعلامية وتلقيها بجامعة الجزائر بعنوان : سؤال العلاقة بين “الميديا والثقافة”،  وقفت أستاذة سائلة: ما بوسعي فعله، لقد أدار أطفالي ظهرهم للتلفزيون؟ و عندما لاحظت أن بعض الحضور استغرب سؤالها استطردت قائلة: لقد انصرف ابنائي إلى لوحاتهم الإلكترونية، وهواتفهم الذكية، وانزوى كل واحد منهم في ركنه. وتركوني مع والدهم أمام شاشة التلفزيون. لقد كنا نلتقي معا في قاعة المجلس فتعج بالحركة والضجيج. وكان التنافس على أشده على من يستولي على أداة التحكم عن بعد في جهاز التلفزيون ليشاهد ما يريد ويفرضه على بقية أفراد الأسرة. وتطول مدة المنافسة لأن رغبات المشاهدة مختلفة ومتنوعة: فالابن البكر يريد مشاهدة مباراة كرة القدم، ووالده يريد متابعة نشرة الأخبار، والإبن الصغير يريد مشاهدة أفلام الكارتون، والبنات ينتظرن مسلسلهن التلفزيوني المفضل، وكنت اترقب دوري لمشاهدة برنامج الطبخ وبعض البرامج الثقافية. واليوم اختفى هذا الجو ولم نعد نشعر بوجود الأطفال في البيت. فحتّى تناول وجبة العشاء أصبح يتم في صمت تام والعيون زائغة بين الشاشات الموضوعة بجانب الصحون!

قد يكون أحد القراء الكرام، قد عاش، بهذا القدر أو ذاك، هذا الجو التنافسي الذي شكل موضوع بحث الكثير من علماء الاجتماع، أمثال دافيد مورلي الذي راح يستجلي أشكال التفاوض بين أفراد الأسرة حول البرامج التي تجمعهم وتلك التي تفرقهم، ويستكشف العلاقات بينهم عبر من يملك سلطة تغيير القناة التلفزيونية، وأشكال استنباط المعنى مما يشاهد. والقليل من يشعر اليوم بحنين  إلى هذا الجو أمام شاشة التلفزيون.

لم يكن أحد ينتظر أن يغير السؤال مجرى النقاش في المؤتمر المذكور لينتقل من الحديث عن موقع الثقافة في وسائل الإعلام ” التقليدية” إلى مخاطر الميديا الجديدة على الثقافة.

لقد أثار هذا السؤال رغبتي في قياس التحوّل الذي طرأ على نظرتنا إلى وسائل الإعلام. لقد بخسنا الوسائل السمعية البصرية حقها قبل بضع سنوات. وحكمنا على أن ما تبثه أنه ثقافة سطحية، بل مبتذلة. وقدّسنا الثقافة المكتوبة: ثقافة مجرة غتنبرغ مخترع المطبعة. وكنا، وربما مازلنا، لم نفهم لماذا نميل إلى تثمين قراءة رواية مطبوعة في كتاب ونستصغر مشاهدتها عبر شاشة التلفزيون. وها نحن اليوم نتباكي على تراجع مكانة شاشة التلفزيون في حياتنا اليومية. ونخشى عواقب العزوف عن مشاهدة برامجها على مستقبل الترابط الأسري وتماسكه بتفكك ما كان يشكل المتن الثقافي المشترك الذي يجمع كل أفراد الأسرة.

هل يؤكد السؤال الذي طرحته السيدة أعلاه  أننا لا نعرف قيمة الشيء إلا إذا فقدناه. ربما، لكن الأرجح أنه يشير إلى التغيير الحاصل في طرائق “استهلاك” الثقافة والانتقال من المشاهدة الجماعية للتفلزيون إلى الاستخدام الفردي للميديا الجديدة، وإلى الصعوبات التي أصبحت الأسرة الحديثة تواجهها من أجل التحكم في تعدّدية الشاشات وما تفرضه من ” انعزال” الاطفال وغياب التبادل اللفظي مع ذويهم. لقد أدرك الآباء اليوم أن التلفزيون وألعاب الفيديو كانت تحظى بثقتهم لأنهم كانوا يملكون القدرة على مراقبتها. أما اليوم فالأمر تغير مع تعدد الشاشات الطافحة بالمحتويات الثقافية والإخبارية والعلمية واللهوية المختلفة فأزداد قلقهم على أبنائهم.

يؤكد علماء النفس أن خطر شاشة التلفزيون على الطفل لا يكمن فيما يشاهده بل في انفراده بالمشاهدة في غياب شخص راشد يتوسط بينه وبين ما يشاهده. الوسيط الذي يساعده على تأويل ما يعرض على الشاشة وفي امتصاص مشاهد العنف التي تبثها.

هل يمكن أن نساعد الأستاذة الكريمة بالاجابة عن سؤالها: ما العمل؟

قد يعتقد البعض أن الحل بسيط، ويمكن في حرمان الأطفال من الوسائط التي تمكنهم من تحقيق استقلالهم ” الثقافي والإعلامي” بعيدا عن سلطة الآباء. وهذا ما قام به بعضهم إلا أننا نعتقد أن أضرار هذا الحرمان أكثر من منافعه لأنه ببساطة يجرد الأطفال من وسائل إندماجهم في العالم المعاصر وتكيّفهم معه، ويجعلهم يعيشون غرباء عن أترابهم وبيئتهم. هذا إضافة إلى أن الميديا الجديدة والمنصات الرقمية أصبحت حاملا للمعرفة وأداة تعليمية معتمدة في العديد من المؤسسات التعليمية التي استغنت عن الكتاب والورقة والقلم.

لا يخفى على عاقل أن القنوات التلفزيونية أصبحت تبث الكثير من برامجها وموادها في مواقعها في شبكة الانترنت أو في بعض مواقع الشبكات الاجتماعية، مثل “يوتيوب” و”دلي موشن”، ومن الأجدى أن نشارك أطفالنا ما يفضلون مشاهدته من هذه المواد عبر المواقع المذكورة ليكون مادة لتجديد الحوار والنقاش معهم تعزز اللحمة الثقافية التي تشكل القاسم المشترك بين أفراد الأسرة.

أتذكر أن الصحافي الفرنسي “فرانسيس بزاني” المهتم بالتكنولوجيا الحديثة، الذي فتحت له صحيفة لوموند الفرنسية منبرها لنشر مدونته الإلكترونية،  حاول أن يجيب عن تساؤلات الآباء وحيرتهم من البروز الاستعراضي للميديا الجديدة في حياتنا اليومية وفي ممارسات أطفالنا الثقافية في شكل وصايا. وأعتقد أن الكثير منها مازال صالحا.

أول وصية أوصى بها أولياء الأطفال هو الجلوس مع الأطفال وتدريبهم على استخدام شبكة الانترنت ومختلف المنصات الرقمية. ويعتقد أن هذا التدريب لا يقل أهمية عن تعليمهم أبجديات القراءة والكتابة التي كانوا يقومون بها منذ أزيد من قرن ونصف. بالطبع إن تجسيد هذه الوصية يتطلب من الآباء بذل الجهد للتحكم التقني في العُدة التكنولوجية الحديثة.

ويجب تطوير قدرات الأطفال النقدية، ورفع منسوب الشك والحذر مما يطلعون عليه، فليس كل ما ينشر في مواقع شبكة الانترنت والمنصات الرقمية، وكل ما يتم تداوله في مواقع الشبكات الاجتماعية صادقا وصحيحا ونزيها.

إن الواب أرضية رائعة لإبداع والابتكار، وعلى الأولياء تشجيع الأطفال على التعبير على قدراتهم وتفجير مواهبهم في شبكة الانترنت والمنصات الرقمية، وإخراجهم من حالة المستهلكين السلبين إلى المنتجين المبتكرين.

إن تنبيه الأطفال إلى الخدع والحيل المستعملة في مواقع شبكة النت والمنصات الرقمية لأغراض تجارية أو أخرى تضاهي تعليمهم كيفية المرور في الطريق المكتظ بحركة السيارات على حد قول “فرانسيس بزاني”.

وأخيرا يمكن أن نضيف إلى هذه الوصايا محاولة التقرب أكثر من الأبناء من خلال الاشتراك معهم في المجموعات التي ينشئونها في مواقع التواصل الاجتماعي ليس بغض التجسس على اتصالاتهم ومعارفهم. لأن أفضل طريقة لحمايتهم من أضرار استخدام هذه المواقع هو تزويدهم بمقومات حماية أنفسهم وليس التجسس عليهم. إن أهمية هذا التقرب تكمن في اقتسام المعلومات والمواد الثقافية وتبادل الأجود من السرديات التي تساهم في صقل شخصية الطفل وتمكينه من خوض تجاربه.

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: