مسلسلات المؤلف وسر الولع بالأشرار


نشر في إذاعة وتلفزيون الخليج عدد 100 أكتوبر 2017

 

بدأ عدد من علماء الاجتماع والسيمائيين والفلاسفة في بعض الدول الغربية يهتمون بالموجة الجديدة من المسلسلات التلفزيونيّة الأمريكيّة التي برزت في العقد الأخير من القرن الماضي، و”غزت” تلفزيونات العالم التي بثتها بمختلف اللّغات. فتزايد إقبال الشباب على مشاهدتها عبر الوسائط الرقميّة الجديدة، مثل مسلسل ” سوبرانوس” The Sopranos” الأمريكي الذي بثّه التلفزيون الأمريكي في86 حلقة طيلة الفترة الممتدة من 1999 إلى 2007، ويحكي قصّة رجل عصابة يعاني من صعوبة التوفيق بين متطلبات أسرته ومشاكلها ومهتنه الإجراميّة! ومسلسل ” لعبة أو صراع العروش”  “Game of Thrones” المقتبس من رّواية ”  أغنية من ثلج ونار” للكاتب  جورج آر. آر مارتن.  والذي يصور الصراع الذي تخوضه سبع عائلات للسيطرة على العرش في قارّتين خياليتين. ويطرح في ثنايا هذا الصراع العديد من القضايا ذات الصلة بالحياة اليوميّة للبشر في الواقع، مثل الجريمة، والعدالة، والدين والحرب والولاء وغيرها. ويعري سلوك أبطاله الذين لا يتردّدون في القيام بأي فعل مشين من أجل تحقيق مآربهم. ومسلسل “دكستر” “ Dexter الذي  اقْتُبس من الرّواية الموسومة بـ “حلم دكستر الأسود”  للكاتب “جيف ليندساي” والذي يروى قصة  شخص اسمه “ديكستر مورغان”  يشتغل في قسم الشرطة الجنائية بمدينة “ميامي” الأمريكيّة كفني محلّل للدم ، ويقتل مع سابق الإصرار والترصد في السر تلبية لميولاته المَرَضِيّة.

وزاد الاهتمام بمثل هذه المسلسلات الأمريكية بعد أن تحوّلت إلى نموذج تلفزيونيّ استنسخته العديد من تلفزيونات العالم.

لقد تسأل العلماء المذكورين أعلاه عن سبب توجه الشباب إلى هذه المسلسلات، وهم المعروفين بعزوفهم عن متابعة برامج القنوات التلفزيونية؟  وأكدوا في معرض إجابتهم عن هذا السؤال على أن الأمر أكبر من متابعة. إنه ولع بأبطالها الذي حثهم على تفهم ضعفهم وقوتهم والتعاطف معهم في الصراعات التي يخوضونها!

لقد كان الجيل السالف من مشاهدي التلفزيون يعادي اللصوص، ويمقت المجرمين الذين مثلوا دور الأبطال في أفلام رعاة البقر” الكابوي” الأمريكية. وكان الناطقون باللغة الإسبانيّة والبرتغاليّة وحتّى الأنجليزيّة والفرنسيّة من ذاك الجيل يتابع بتأثر بالغ، وبعيون دامعة، مأساة الفقراء والمظلومين والزنوج في المسلسلات البرازليّة والمكسيكيّة المسماة” تيلي نوفا” Telenova”. تلك المسلسلات التي تحرّر الفقراء من الافتتان بالأغنياء، وتعزّز روح التضامن والتأزر والمحبة. وترسخ حقوق وواجبات كل فرد في المجتمع، وتشجع كل شخص على الإيمان بمستقبله الذي يتوقف على إخلاصه لعمله وإصراره على النجاح.

لكن يبدو أن السؤال المذكور أعلاه لم يشكل سوى معبرا للانتقال إلى التفكير في الإجابة عن سؤال محوري أعمق صاغة الفيلسوف والسيميائي “فانسان كولونا” كالتالي: ألا تكشف هذه المسلسلات التلفزيونيّة الجديدة عن تطور الثقافة الغربيّة الخفي؟

يستعجل البعض الإجابة عن هذا السؤال بالقول أن إنتاج أي مسلسل تلفزيوني هو فعل ثقافي. وصفة الجديدة التي لحقت بهذه المسلسلات تتفصح عن اختلافها الكبير عن تلك التي سبقتها في الوجود، بدليل أن الكثير من النقاد وصفوها بــ “مسلسلات المؤلف” على غرار ” فيلم المؤلف”. وهي الصّفة التي أطلقها النقاد الفرنسيون في خمسينات القرن الماضي على مجمل أفلام مخرج سينمائي ما، والتي تعكس شخصيته الفنيّة وفلسفته المرتبطة بمواضيع ذات قيمة عالية والمتناغمة فنيا بشكل فريد.

نعتقد أن سر الولع بهذه المسلسلات لا يكمن في قوة السرد وحبك عقدة قصّتها رغم أهميتها الكبيرة، ولا في” بهارات” الاخراج الساحرة، بل يعود إلى ما يرمز إليه أبطالها الذين وصفهم الباحث الفرنسي، “فرنسوا جوست”، بالأشرار “الجدد” لتمييزهم عن قطاع الطرق واللصوص في أفلام رعاة البقر الأمريكيين. ونعتهم الفيلسوف ” فانسان كولونا” بالأبطال “السلبيين” كنقيض للأبطال الايجابيين الذين كان تيار الواقعية الاشتراكية في الأدب والسينما يروج لهم. وبالمختصر المفيد إنهم أبطال عديمي الأخلاق يخترقون الأعراف والقوانين ويمارسون الجريمة دون رحمة أو شفقة. والغريب في أمرهم أنهم يفلتون من العقاب، بل ينتصرون دائما في الصراعات التي يخوضونها! ويتحكمون في خاتمة المسلسلات التلفزيونية فيجعلون نهايتها غير سعيدة  خلافا للإرث السنيمائي الهوليودي والهندي وحتّى المصري.

يرى “فرنسوا جوست” أن الأشرار لا يولدون أشرار، بل يصبحون كذلك تأكيدا لما تضمنه كتاب فيلادمير بروب الموسوم ” مرفولوجيا الحكاية” والذي يثبت فيه أن التطور الكبير الذي حدث في الحكايات المعاصرة يكمن في أنه أصبح لكل شرير دوافعه ليكون شريرا.

ويرى بعض النقاد ، على غرار الصحافية “مارتين دو لاهاي” أن المسلسلات الجديدة التي اسهمت في القضاء على الهوة الفاصلة بين الثقافة العليا والثقافة الشعبية، تعدّ فنًّا قائمًا بذاته مثل فنّ الرّواية. وصنفها إلى الأصناف التالية: “مسلسلات العالم”، وهي تلك التي تجري في وسط ما يربط أفرادها نشاط معين أو يعيشون في مكان محدد من أجل تسليط الضوء على القوى التي تتعدى قدرات الفرد مثل، مسلسل ” الرجل ماد”  Mad Men  ” الذي بُثّت منه 92 حلقة في التلفزيون الأمريكي طيلة ثماني سنوات ) من 2007 إلى 20015( ويسرد قصّة مدينة نويورك في ستينات القرن الماضي عبر وكالة إعلان خيالية ونشاط مديرها الفني في حياته الشخصيّة والمهنيّة. ويصف هذا المسلسل التحوّلات الإجتماعية والأخلاقية التي عاشتها المدينة المذكورة. ومسلسل ” التصنّت” The Wire والذي بثت حلقاته من 2002 إلى 2008 . ويروى الجريمة في مدينة ” بالتمور” الأمريكية من وجهة نظر من عاشوها: الشرطة، وتجار المخدرات، والسياسيون، والمعلمون، والصحافيون، وسكان المدينة المذكورة. والنوع الثاني من هذه المسلسلات اسمته الصحافية المذكورة ” مسلسلات الأزمة”، وتقصد به تلك التي تركز على الأوقات الصعبة والحرجة التي يمر بها مجتمع ما أو شخص ما في حياته، مثل ” مسلسل لعبة أو صراع العروش” ” الذي ذكرناه سابقا. والنوع الثالث من هذه المسلسلات هي ” مسلسلات المصير”، أي تلك   التي تحلّل السيرة الذاتيّة الكارثيّة لشخص يعيش العزلة حتى وهو محاطا بأصدقائه وعائلته، مثل مسلسل “سوبرانوس” الذي تحدثنا عنه آنفا، ومسلسل” إختلال ضال” Breaking Bad  ” والذي يتناول قصـة مدرس كيميـاء يصاب بسرطان الرئـة. ويرى أن موته قريب نظرا لغلاء ثمـن العـلاج الذي ليس في متناوله، فيستغل ” كفاءته العلمية” في صناعة نوع من المخدرات ويروجها مستعينا بأحد طلابه.

يتفق النقاد أن كل هذه الأنواع من المسلسلات تعبر، بهذا القدر أو ذاك، عن السياق الاجتماعي والثقافي الجديد الذي يعيشه المجتمع الأمريكي بصفة خاصة، والمجتمعات الغربية بصفة عامة. وأقل ما يقال عن هذا السياق أن يتسم بتراجع الأخلاق. بدليل أن الفيلسوف “فانسان كولونا” اختار عنوان ” وداعا للأخلاق” للكتاب الثاني الذي خصه لنقد هذه المسلسلات التلفزيونية.

إن وداع الأخلاق لا يعني أن القيم الأساسية التي تتحكم في علاقة البشر قد اختفت نهائيا في هذه المجتمعات، بل يشير إلى أن الحدود بين الخير والشر قد تزعزعت وأن السلوك الاجتماعي لم يعد يحتكم إلى الأخلاق، أي إلى المباح وغير المباح ، بل أصبح يخضع للقانون، ويميز ما يسمح به القانون وما يمنعه. فالوعي القانوني يكاد يحل محل الوعي الأخلاقي في نظر الفيلسوف “فانسان كولونا”،  الذي يرى أن هذه المسلسلات “غير الأخلاقية” تتجه إلى شباب في حضارة تتميز فيها الدولة والقانون بالحضور الطاغي والقوة إلى درجة أنهما لم يبقيا أي شيء للمواطن. لقد قلصا كثيرا من حريته وسحبا منه الكثير من المسؤوليات.

ألا يُخشى أن يشكل أبطال هذه المسلسلات نماذج يحتذي بها شباب اليوم؟ سؤال وجيه يتبادر إلى ذهن كل من يدرك حجم حضور الأشرار في هذه المسلسلات.  يجيب “فانسان كولونا” بالنفي عن هذا السؤال. فرغم اعترافه بتعلق الشباب، التائه والفاقد لبوصلته في الحياة، بهؤلاء الأبطال السلبيين إلا أنه يعتقد أن لهذه المسلسلات دور نقدي. إنها تفتح أعين الشباب على الواقع، وتبصرهم  بما يوجد وراء المظاهر الخادعة، وتكشف لهم خفايا السلطة، والشهرة، وجني الأموال، أي انها تميط اللثام عن عيوب المجتمعات المعاصرة وأمراضها.

أخيرا، يمكن القول أنه رغم لجوء هذه المسلسلات إلى الخيال أو الماضي إلا أنها تعبر عن الواقع، بهذا القدر أو ذاك. فالأشرار لا يدفعون دائما الثمن، والشر يظل قائما في المجتمع رغم وجود من يقاومه. وخاتمة الأحداث في الواقع ليست دائما سعيدة مثلما كانت تروج له بعض الأفلام والمسلسلات السالفة.

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: