منافع الصحافي- الآلي وأضراره


نصر الدين لعياضي

يتردّد على ألسنة الكثيرين من شاهدوا المذيعة  الآلية- روبوت- وهي تقدم الأخبار التلفزيونية باللغة الروسيّة، في سانت بطرسبرغ  يوم الجمعة 7 يونيو 2019، السؤال التالي: هل سيدفع الذكاء الاصطناعي إلى الاستغناء عن البشر في تقديم نشرات الأخبار التلفزيونيّة؟ سؤال يبرّره اقتدار المذيعة المذكورة على محاكاة إحدى صحافيات وكالة تاس الروسيّة. لقد قلّدت صوتها، وحركة شفتيها وهي تتلفظ مخارج الحروف،  وتعابير وجهها وهي تحاول التفاعل مع طبيعة الأخبار!

تعدّ هذه المذيعة الآلية ثمرة تعاون بين وكالتي الأنباء: تاس الروسيّة، و” شينخوا” الصينيّة اللتين احتفلتا بطريقتهما الخاصة بمرور 70 عام من العلاقات الدبلوماسية بين الصين وروسيا.

و لا تعتبر هذه المذيعة الآلية أول “روبوت” يقدم الأخبار التلفزيونية في العالم. فقد سبقتها  “شين  كسيومنغ”  في وكالة ” شينخوا” الصينيّة التي عرّفت بنفسها للجمهور الصيني،  في شهر مارس/ آذار الماضي عبر شريط فيديو، قائلة:  سأبدأ مشواري المهني معكم كمذيعة أخبار متلفزة.

لقد أدهش حضورها في الشاشة المشاهدين لكونها تشبه مذيعة صينية حقيقية، من لحم ودم، تسمى ” كيو منغ” إلى حد كبير: ملامح الوجه وتقاسمه ذاتها، وتسريحة الشعر عينها، غير أنها لا توحي بإمكانية التحدث بلغة غير اللغة الصينيّة .

لقد شرعت الصين في الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في قراءة نشرة الأخبار التلفزيونية في نوفمبر/ تشرين الثاني من السنة الماضيّة حيث كان يتناوب عليها رجلان آليان قدما حوالي 3500 خبرا تلفزيونيًّا! لقد كانت تجربة الرجلين الآليين واعدة لكنها محدودة لأنهما قدما الأخبار واقفين، ويقومان بحركات نمطية مكرّرة. ومنذ ذاك الشهر تطورت صناعة القراء الآليين لنشرة الأخبار التلفزيونيّة لتشبه المذيعين الآدميين.

لم ينتظر الكثير من الصحافيين الأجانب ظهور المذيعة الآلية وهي تقرأ نشرة الأخبار التلفزيونية باللغة الروسيّة ليطرحوا السؤال المذكور أعلاه، لأنّهم عاشروا الرجل الآلي في قاعات التحرير. واقتنعوا بأنه سيأتي اليوم الذي سيغادر “العمل في الخفاء ” ليتصدر الواجهة، ويقدم الأخبار التلفزيونيّة.

بصرف النظر عن شكلها المجسم، فإنّ مذيعة الأخبار الآليّة باللغة الروسيّة هي نتاج الذكاء الاصطناعي الذي عرّفه العالم الأمريكي “مارفن لي مينيسكي” في 1950 بالقول: إنّه بناء من برامج المعلوماتيّة يقوم بالمهام التي كانت حكرا على الإنسان، والتي تتطلب مسارا ذهنيا معقدا بدءًا بالتدرب على الإدراك ، وتنظيم الذاكرة، والربط بين المعطيات. وينفذها على أكمل وجه.

تزايد استخدام الذكاء الاصطناعيّ في إنتاج المعلومات والأخبار، بدءًا بإنشاء قاعدة البيانات والبحث الآلى في محتوياتها، مرورًا  بالبحث عن مصادر الأخبار، ووصولا إلى تحرير المقالات الصحفيّة، وتوزيع الأخبار والمواد الصحفية بطريقة مشخصة : أي إرسال نوع معين من الأخبار وفق طلبات كل زبون وميوله.

كانت الصحف الأمريكية سبّاقة إلى إدخال الرجل الآلي إلى قاعة تحريرها. فصحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، على سبيل المثال، داومت على استخدام الرجل الآلي في تحرير أخبارها، إذ يذكر أنها استعانت بخدمات ” الروبوت ” ” هيليوغراف” لتغطيّة الألعاب الأولمبيّة التي جرت في ريو دي جانيرو في 2016.

واقترحت المجلة الاقتصاديّة المشهورة ” فوربس” على قرائها توقعاتها للأسهم في البورصة ونتائج الشركات الاقتصادية بالاعتماد على برنامج ” نراتيف سينس” الذي اخترعته شركة أمريكية صغرى في شمال مدينة شيكاغو. لقد اهتمت هذه الشركة بالبيانات والأخبار المتعلقة بالمال والعقارات والرياضة معتمدة في ذلك على ما تجمعه من احصائيات وتحاليل من مصادر مختلفة.  واستعانت القناة التلفزيونيّة الأمريكيّة المختصة في الرياضة ” ذو بيغ تن نتورك” بالبرنامج المذكور لتغطية المنافسات الرياضيّة المحليّة. إنها ليست القناة التلفزيونيّة الوحيدة التي فعلت ذلك فالعديد من المؤسسات الإعلامية تستخدم البرنامج ذاته في كتابة الأخبار لكنها لا تعلن عن ذلك، حسب مسؤول الشركة المذكورة.

تزايد اعتماد قاعات تحرير على ” الروبوتات” في تحرير الأخبار في العديد من الصحف إلى درجة أنّ صحافيًّا في جريدة  “لوموند” الفرنسيّة نشرا مقالا عن هذه الظاهرة ووقعه باسمه الكامل مؤكدا أنه ليس رجلا آليا!

ويتوقع كريستيان هاسوند، مدير التكنولوجيا بالشركة ذاتها أن ترتفع نسبة الأخبار التي تنشرها وسائل الإعلام على يد ” الروبوتات” لتبلغ 90 % في السنوات العشر القادمة. وهذه النسبة تثير مخاوف الصحافيين وحتّى غضبهم. لقد رأوا في هذا المخلوق الآلي منافسا خطيرا لهم في قوتهم. وذلك لأنه يتكيّف مع أوضاع الصحف المعاصرة والسياق الراهن الذي تتطور فيه وسائل الإعلام. فـــ “الروبوت” ينتج عددا أكبر من الأخبار يفوق طاقة أمهر الصحافيين على إنتاجه. فوكالة أسوشييتد بريس التي تستخدم برنامج ” أوتماتد أنسايتس” في تحرير التقارير عن المؤسسات الاقتصادية ” منذ 21 يونيو 2014 ضاعفت عدد أخبارها بعشر مرات في الشهر!

وكتابة الروبوت لا تختلف كثيرا في صياغتها عن أي برقية من برقيات أكبر وكالة أنباء عالمية.  وكلفة الخبر الذي يكتبه في حدود 500 كلمة لا تتعدى سعر “سندويتش” ” شطيرة” “شاورما”!   وهذا عامل أساسي يغري وسائل الإعلام على الاستعانة بخدمات الروبوت إن استفحلت أزمتها الاقتصادية.

ويعمل الروبوت على تنفيذ الأوامر بسرعة فائقة، إذ بإمكانه كتابة قصة إخبارية في دقيقتين على أقصى تقدير. وهذا عامل أساسي يؤهل الصحف لخوض غمار المنافسة في ظل سرعة بثّ الأخبار.

وتجلت فاعلية الروبوت أكثر في قدرته على محاربة الأخبار المزيفة التي غدت تشبه مرض السرطان الذي يهدّد نشاط المؤسسات الإعلاميّة.

ما يخفف من مخاوف الصحافيين أن ذكاء “الروبوت” وسرعة عمله لا يؤهلانه لكتابة الأنواع الصحفية الفكرية التي تتطلب قدرا كبيرا من التحليل والتفكير والاستنتاج ، مثل التحاليل الإخبارية ، والافتتاحيات والمقالات والأعمدة الصحفيّة التي تتسم بذاتية الأسلوب.

ففي منافع الذكاء الاصطناعي في البيئة الإعلاميّة تكمن حدوده وحتى أضراره. فبالإضافة إلى مساهمته في افقار الأخبار نتيجة تنميطها المعمّم، يعزّز انغلاق الفرد على ذاته مكتفيا بما يقدم له من أخبار مشخصنة؛ أي تلك التي يحبذ متبعتها لكونها تساير أهواءه وقناعته وتريحه وتعطى الانطباع بأنه دائم على حق. ويبعد عنه الأخبار والمواد الإعلامية التي تعارض آراه وتفند قناعته. وبهذا يسهم الذكاء الاصطناعي في سد أفق تفكير جمهور وسائل الإعلام، و في تفتيت اللحمة التي تشكل قاعدة للنقاش وتبادل الآراء المختلفة والمتعارضة لجمهور غير متجانس.

وغني عن القول أن الذكاء الاصطناعي غير معصوم من الأخطاء. ولعل القليل من القراء من يتذكر الذعر الذي أصاب الأمريكيين جراء قراءة الخبر الذي نشرته صحيفة لوس أنجلس تايمز في 27 يونيو 2017، وحرّره الصحافي الآلي المسمى ” كويكبوت” والذي أشار فيه إلى وقوع زلزال عنيف بقوة  6.8 على سلم ريشتر في مدينة لوس أنجلس. واتضح بعد نشره أن الزلزال المذكور وقع قبل 92 سنة! لقد اعتمد ” كويكيوت” في كتابة هذا الخبر على مركز الدراسات الجيولوجية في الولايات المتحدة الذي كان يعيد تنظيم أرشيفه القديم، فتعامل معه على أساس أنه خبر طازج!

أعتقد أن الجزائر محصنة من أضرار الصحافي الآلي لسببين أساسيين على الأقل. أولهما، أن الكثير من الصحافيين، ومن ورائهم المؤسسات الإعلامية، متقوقعين على أفكارهم وقناعتهم ولا ينقلون للجمهور سوى الأخبار التي تتناغم مع آرائهم. وإن كانت الأخبار غير ذلك فيلوونها عنهم. وهكذا ينغلق جمهورهم على أفكارهم وقناعتهم، ولم يعد حتّى يطيق الاستماع إلى الأخبار التي تختلف مع ما يؤمن به.  ثانيهما،  بيّنت تجارب الذكاء الاصطناعي في عالم الميديا  أن الجهد انصب على خلق رجل آلي يحاكي الصحافي الحقيقي من لحم ودم. بينما  يبدو في الجزائر  أن هناك توجها لدفع الصحافيين الأدميين إلى محاكاة الرجل الآلي- الربوت- لذا تراهم يشتمون ويقفذون الغير بالعبارات ذاتها بشكل آلي.

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: