هل يتحول الجمهور إلى شريك وسائل الإعلام؟


د. نصر الدين لعياضي

مجلة الشروق الإماراتية الصادرة في 28 ديسمبر 2015- 3 يناير 2016

هل يوجد من يشكك في ما صرح به بيز ستون، أحد مخترعي موقع شبكة “تويتر”، في 2010؟ لقد أكد على أن ” تويتر” ليست شبكة اجتماعية، بل شبكة إخبارية، وبفضلها لم يُعدّ الواب أنبوبا تتدفق عبره الأخبار فقط، بل تحول إلى مصدر إخباري. لا أحد يعتقد أن الفرنسيين هم الذين يشككون في صحة هذا التصريح لأنهم شاهدوا يوم 19 مايو 2011 مذيع نشرة أخبار قناة ” بي أف أم” التلفزيونية وهو يقرأ على شاشة الكمبيوتر نصوص “التغريدات” عبر موقع شبكة “تويتر” عن إحالة دومنيك ستروسكان، المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي، إلى العدالة وهو يدلي بشهادته أمام القضاة في محكمة نيويورك، على إثر الدعوة القضائية التي رفعتها عليه ” نفيستو دليالو” عاملة التنظيف بفندق سوفيتال، واتهمته فيها بالتحرش. هذا في وقت لم تسمح فيه المحكمة للصحافيين من إدخال آلات التصوير إلى قاعة المحكمة.
تغريدات التغيير
لقد كشفت ” التغريدات” المذكورة عن شكل من تفاعل وسائل الإعلام المعاصرة مع الأحداث والتزامها الشديد، وغير مسبوق، بالآنية ، والسعي إلى إثراء مصادر أخبارها والاستعانة بالجمهور لتغطية بعض الأحداث. بالفعل، لقد أصبحت الكثير من وسائل الإعلام تتجه إلى جمهورها لتقديم شهادته المكتوبة أو المصورة أو المسموعة عن الأحداث التي عاشها أو كان شاهدا على وقوعها، وذلك عبر الوسائل المختلفة: الهاتف، ومواقع الشبكات الاجتماعية والمدونات الإلكترونية. لعل القارئ الكريم يتذكر الكثير من الكوارث الطبيعية والأحداث الجسام التي استعانت فيها وسائل الإعلام المختلفة بالصور والشهادات التي تزاحمت في مواقع الشبكات الاجتماعية: تويتر، وفيسبوك، ويوتيب. ولن تكون أخرها المظاهرات التي عاشتها مدينة ” فرغيسون” في ولاية ميسوري بالولايات المتحدة الأمريكية يوم 9 أغسطس 2014 على إثر قيام شرطي أبيض بإطلاق النار على شاب أمريكي أسود أعزل ومسالم فأرداه قتيل. لقد جعلت بعض الصحف من قرائها الأوفياء مراسلين محليين لما يجري من أحداث في حيهم السكني أو قريتهم أو مدينتهم يزودونها بالأخبار والصور. ليس هذا فحسب، بل أن بعض الصحف دعت قرائها إلى المساهمة في إنجاز تحقيقاتها الصحافية. إذ يمكن أن نذكر، على سبيل المثال، ما قامت به صحيفة “الجارديان” البريطانية في يونيو 2009، على إثر تسريب شائعات تتعلق بخروقات وتجاوزات في نفقات ممثلي مجلس العموم البريطاني. فسعت إلى امتلاك 458000 صفحة من فواتير مصاريفهم، وأدخلتها في موقعها في شبكة الانترنت، وطلبت من قرائها ومستخدمي شبكة الانترنت مراجعتها والتدقيق فيها. وقد ساهم في هذه العملية 28 ألف شخص! وقد تبنت صحيفة ” دوفيني ليبري”، وهي صحيفة محلية تصدر في مدينة غرونبول الفرنسية، الأسلوب ذاته في التحقيق الصحفي الذي نشرته عن انتقال البث التلفزيوني إلى النمط الرقمي الأرضي. لقد حددت السلطات الفرنسية نهاية 2009 كآخر أجل لهذه العملية لوضع حد لاستقبال برامج البث التلفزيوني التناظري لكنها تأخرت إلى غاية 2011 ورافقتها حركة احتجاج المواطنين على الاضطرابات التي حدثت في استقبال برامج القنوات التلفزيونية الفرنسية الرقمية. ولمتابعة هذه العملية وجهت الصحيفة المذكورة نداءً إلى قرائها في المنطقة التي توزع فيها ليقدموا شهادتهم عن معايشتهم هذا الانتقال في البث. فاستجاب لها 1200 قارئ خلال شهري نوفمبر وديسمبر2011. وهكذا استطاعت هذه الصحيفة أن تقدم مادة دسمة وموثقة استفادت منها السلطات في تجاوز بعض المشاكل وتصحيح بعض أوضاع البث.
من قال أن الجمهور سلبي؟
لقد أصبح مالكو القنوات التلفزيونية وصحافيوها يعوون أن قسما من جمهورها يعلق عبر شبكة تويتر أو الفيسبوك أو اليوتيوب على برامجها بشكل متزامن مع بثها. واقتنعوا بالفكرة التي مفادها أن جمهور وسائل الإعلام سلبي وساكن قد عفا عنها الزمن، وتوارت في الماضي البعيد مع التخيلات الناجمة عن نظريات التأثير المطلق التي ازدهرت في منتصف المنتصف الأول من القرن العشرين، واحتفت بها الأيديولوجية الشمولية أيّما احتفاء. فالكثير من الشواهد تثبت بشكل قاطع أن الجمهور لم يعد يبلع ما يقدم له من ” وجبات إعلامية” دون امتعاض أو معارضة أو عزوف، إنه جمهور متفاعل وفعال. وقد طورت وسائل الإعلام استراتيجيتها من أجل استثمار طاقته التفاعلية بمختلف الأساليب، لعل أقدمها هي المنتديات لإلكترونية التي فتحتها الصحف في مواقعها في شبكة الانترنت بدءا من 1995. يليها نشر التدوينات الإلكترونية لبعض المدونين، وفتح المجال للتعقيب والتعليق على المقالات الصحفية التي تنشرها، وعلى البرامج المسموعة والمرئية في مواقع القنوات التلفزيونية والإذاعية التي أنشأتها في شبكة الانترنت، بل أن وسائل الإعلام أصبحت ترصد ما يدور في منصات الدردشة الإلكترونية من مواضيع، وما يدرج من” توسيمات” في موقع تويتر لتطبخ منه وجبات إعلامية، وتغذي به مواقعها الإلكترونية.
حدود التفاعل:
اقتنعت وسائل الإعلام المعاصرة بضرورة تغيير نظرتها لذاتها. فالكثير منها لم يعد تعتقد أنها مدرسة موازية، وأن صحافييها معلمون يلقنون دروسا للجمهور الذي يعتبرون تلميذا. لقد أصبحت النظرة إلى الجمهور تتأرجح بين كونه زبونا أو مواطنا. ومهما كان موقع هذا الجمهور فهو عنصر فاعل. والسؤال المطروح يتمثل في حدود فاعليته في المستقبل؟ فهل يمكن التسليم بما أصبح يشاع بأنه تحول إلى منتج للإعلام، وأمسى كل شخص يملك أداة تكنولوجية بسيطة ” كاميرا رقمية” ووسيلة اتصال بشبكة الانترنت “وسيلة إعلامية”، على حد تعبير الصحافي الأمريكي ” دان غلمار”، في زمن ما انفك عدد الذين يطلعون على الأخبار في شاشة هاتفهم الذكي يتزايد باضطراد من سنة إلى أخرى؟
إن وسائل الإعلام المعاصرة تتجه بقوة إلى المزيد من الانفتاح على جمهورها بتوسيع مصادرها الإخبارية وتنويعها في إطار ما أصبح يعرف بمصادر الحشد أو المصادر الشعبية crowd sourcing. و تجتهد في تفعيل حضورها في مواقع الشبكات الاجتماعية. كل هذا لا يمكن أن يخفي الرغبة الجامعة في الوصول إلى أكبر عدد من الجمهور حيثما يوجد وفي مختلف المستويات. الرغبة التي تشحذها المنافسة الشرسة وتحركها دوافع تجارية لا تفرض على مختلف وسائل التقرب من الجمهور فحسب، بل تتطلب منها الالتصاق به، وإرهاف السمع إلى ما يرضيه، وما يريد أن يقرأ أو يستمع أو يشاهد، لكن ليس على حساب مشاريعها التجارية وأهدافها السياسية والإيديولوجية. وهذا ما يؤكده المستقبل القريب الذي بدأ يكشف عن حدود تفاعل الجمهور. فبعد وكالة رويترز للأنباء، ومجلة ” بوبيلر ساينس”، وصحيفة “شيكاغو سن تايمز”، جاء دور صحيفة الإلكترونية ” ذو ديلي دوت” التي أنشئت قبل خمس سنوات فقط، وصحيفة “تورنتو سن” لتعلق، يوم 24 سبتمبر الماضي، تعليقات القراء على المواد التي تنشرها، وتحرمهم من التعقيب عليها. وقد بررت هذه الصحف ما أقدمت عليه بأن بعض التعاليق التي تصلها مجهولة الهوية وسلبية وماكرة. وأن نظام التعليقات الذي تتبعه الآن لا يخدم كل القراء. لكن ما لم يقال عن هذه التجربة أن الصحف أصبحت توجد صعوبات كبرى في إحداث التناغم والانسجام بين خطابها وخطاب قرائها والمعلقين على ما تنشره في مواقعها في شبكة الانترنت. لذا لم تعد ترى جدوى من هذه التعليقات. هذا ما عبر عنه أحد الصحافيين في صحيفة ” النوفل أبسرفتور” الفرنسية، نقلا عن مدونة ” جيف جرفيس”، إذ أكد قائلا: عندما ننتهي من عملنا، نأذن للجمهور بالتعليق على ما نكتبه. إننا نرمي به إلى الجهة الأخرى من الجدار، ونترك الناس يعبرون عن ردود أفعالهم تجاهه. وننسحب إلى قصرنا حتى لا نسمعهم. إنهم يعرفون أنهم لا يتحدثون سوى إلى الطوب. وفجأة يبدأون بالصراخ، فيملؤون الجدار بالخربشات. إننا ببساطة نملك سلطة تنظيف الجدار من هذه الفوضى التي عمته. لقد هاجرنا الساحة فغطت الخربشات، بسرعة، جدران القصر.(
الخوف من الخضوع.
لن يكن حظ المنتديات الإلكترونية أفضل من التعليقات على ما تنشره وسائل الإعلام في مواقعها في شبكة الانترنت. فغاية هذه المنتديات التي أنشأتها الصحف تروم، بالأساس، إنشاء جماعات، وإقامة علاقات دائمة مع الجمهور. فتُعَين منشط النقاش بين المشتركين في هذه المنتديات لا دور له سوى ضبط النغمة وتأطير النقاش حول المحاور المحددة سلفا. ومن يتابع ما يجرى في هذه المنتديات يشعر بانفصالها عن الصحف الورقية أو الإلكترونية التي أنشأتها. والسبب في ذلك، كما يعتقد البعض، يعود إلى أن هيئات تحرير هذه الصحف تستصغر الانتقادات التي يعبر عنها مستخدمو الانترنت في هذه المنتديات بحجة عدم تمثيلهم لمجمل قراء الصحيفة أو لضعف تعليقاتهم. لكن الباحث الفرنسي “رمي ريفل” يوعز هذه القطيعة إلى أن هذه المنتديات التي تسمح لوسائل الإعلام بمعرفة أكثر لجمهورها تدري تبعات هذه المعرفة. إنها خطيرة ويمكن أن تنتهي بالخضوع المتزايد لهذا الجمهور!

نُشر بواسطة د. نصرالدين

- د. نصر الدين لعياضي، كلية علوم الإعلام والاتصال، جامعة الجزائر - 11الجمهورية الجزائرية شارع مختار دود بن عكنون الجزائر العاصمة العنوان الإلكتروني: alayadi2014@outlook.com

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: