محاضرة بعنوان: مناهج البحث في علوم الإعلام والاتصال في البيئة الرقميّة، لطلبة الدكتوراه بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار بجامعة تونس يوم 1 أبريل 2022
معضلة الحق في النشر ورهاناته
كلمة ألقيت بمناسبة ذكرى وفاة د. إبراهيم براهيمي
يوم 2-5-2021 ، بمقر كلية الإعلام جامعة الجزائر.
قد يقول قائل هل توجد فعلا معضلة النشر في زمن ” self mass media، حيث أصبح بإمكان المرء أن يقول ما يشاء حيث يشاء، ومتى يشاء، وبالعدة التقنية التي يتملكها؟ الإجابة نعم. الحق في النشر ظل يعاني من معضلة منذ الإقرار به، وتفاقمت بفضل النزاعات لتحديد محتواه، وتطور العدة التقنية لتجسيده. عندما تولى المثقف والأكاديمي Jean-Sylvain Bailly رئاسة بلدية كمونة باريس في أوت 1789 أطلق جملته المشهورة: « La publicité est la sauvegarde du peuple », النشر هو حماية الشعب”. وكان يقصد بها ” tout ce qui est d’intérêt public doit être rendu public” كل ما يندرج في إطار المصلحة العامة، يجب أن تطلع عليه العامة. ويذكر الصحافي الفرنسي إدوي بلنل Edwy Plenel أن هذه الجملة تحولت إلى شعار الصحف الثورية الناشئة في ذاك العصر، وصكت على ميداليات برنزية ووزعت على عمال الصحافة. ويشرحها بالقول ” كل ما يتعلق بمصير الشعب، وكل ما يتم باسمه، وكل ما يرتبط بإرادته، وكل ما يتعلق بالمصلحة العامة” يجب أن ينشر ويذاع ويطلع عليه الشعب.”[1] هل يمكن القول أنه لو قام Julian Assange أو Edward Snowden بما قاما به في تلك السنوات لعاشا بسلام لا يعترض سبيلهما أحد.
بعد 4 أربع سنوات فقط من هذا التاريخ أقرّ في فرنسا “العقد الوطني” La convention Nationale ممارسة الرقابة La censure على الصحافة، وأصبح الصحافي يخشى على حياته إن أبدى رأيه وانتقد السلطة. لقد شنق الصحافي “كاميل ديسمولن” Camille Desmoulins في 1793، بعد الشروع في تصفية الصحف المعارضة. ومنع صدور الجديد منها. وقنن المشرع الفرنسي في 1819 نظام الضمان المالي تحسبا لتسديد الغرامات المالية التي تسلط على الصحف في حالة عجز هذه الأخيرة عن تسديدها.
على الرغم من أن قانون 29 جويلية 1881 وصف بقانون حرية الصحافة إلا أنه وضع حدا لكل رومانسية ثورية في مجال الصحافة وفرض جملة من الشروط لممارسة هذا الحق في النشر باسم حماية الشعب ومراعاة المصلحة العامة، نذكر منها:الإيداع القانوني لدى وزارة الداخلية ووكيل الجمهورية ( المادة 10)،المنع الإداري من توزيع الصحافة الأجنبية – من خلال وزارة الداخلية- التصريح الإداري بتوزيع الصحافة – المادة 21 – دفع مستحقات المطابع مسبقا قبل النشر، والرقابة البعدية على ما ينشر.
لن أتحدث عن التأثير السياسي الكارثي لهذا القانون على الصحافة في الجزائر، خاصة صحافة الأهالي في نهاية القرن التاسع عشر. وأكتفي بالإشارة إلى الجدل القانوني الذي أثاره في “المتروبول” حيث اعتبره بعض القانونيين بأنه انتهاكا لحرية التعبير بينما أعتبره آخرون بأنه سلاح يحميها من الانزلاقات عملا بالمقولة التالية ” إذا كانت الرقابة censure عائقا أمام السير الحسن للديمقراطية، فإن غياب ضبطها régulation يمكن أن يكون خطيرا أيضا.
إذا، ظلت معضلة الحق في النشر موضع نزاع متجدد مع السلطة لكنها أخذت أبعادا أخرى وطرحت رهانات متجددة.
اعتبر يورغن هبرماس أن مضمون الجملة المذكورة أعلاه يعتبر الحجر الأساس في تشكل الفضاء العمومي، ومعول انحرافه في الوقت ذاته، وذلك لأن النشر La publication تتضمن معنيين على الصعيد النظري، الأول مشتق من فعل أذاع، أي جعل الشيء عاما ويطلع عليه الجميع، والثاني: الترويج لغاية تسويقية. أما على الصعيد العملي فقد ارتبط المعنيان في الممارسة حيث ألحقت الغاية التسويقية الضرّر بالإعلام لأنها سلعته ونالت من الحق في الإعلام.
إن تجسيد هذا الحق لم يتسن دون منافسة. وإن كانت المنافسة بدون ضوابط معلنة وشفافة ستؤدي إلى الاحتكار الذي يضع الحق في النشر والإعلام تحت تصرف المحتكرين، فمن الممكن أنها تدفع إنتاج أفضل السلع، وتكشف عما هو أرذل في الإنسان مثلما يشير إليه القول المأثور. بيد أن المنافسة في الإعلام لا تؤدي بالضرورة إلى تقديم أفضل المواد الإعلامية. فالكثير من وسائل الإعلام تلجأ إلى التقليل من نفقاتها في إنتاج المادة الإعلامية نظرا للأزمة التي تعيشها، فتعيد بث برامجها دون مبرر. وتكتفي في الغالب بما تقدمه وكالات الأنباء، ولا تستثمر في استقصاء الأخبار، وهذا ما يفسر تراجع التحقيقات الصحفية المعمقة وتزايد ” التوك شو” في ظل استشراء ما أصبح يعرف Infotaiment – Infodivertissement
لقد ظل المشرع في أكثر من بلد يجدّد الترسانة القانونية التي تعزز الحق في النشر أو تضيق عليه باسم المصلحة العامة. وحتى أن الناشرين يبررون كل ما يقومون به باسم هذه المصلحة حيث اضحى هذا المفهوم مطاطا يستهدف شيئا ونقضيه في آن واحد. فماذا يعني بالضبط.
يشخص الصحافي Marc-François Bernier المصلحة العامة في الإعلام بالقول على الإعلام أن يكون مفيدا لعامة الناس، ويساعدهم في معرفة مجتمعهم بشكل أفضل، ويسمح لهم بمعرفة كيف يُحكم البلد باسمهم، وكيف نتعالج من الأمراض، وكيف ننتخب وعلى من، ويعينهم في الحكم على الأشخاص والأشياء ذوي التأثير الفعلي على حياتهم… فالمصلحة العامة تشجع على المشاركة في الحياة الديمقراطية وتهتم بسير المؤسسات الاجتماعية[2]، وإدارة الشأن العام.
لكن هل كل المؤسسات الإعلامية تتقبل هذا الفهم للمصلحة العامة؟ ألا تعمل تحت وطأة المنافسة وسلطة رأسمال أو تحت ضغط القوى السياسية على الانزياح عن المصلحة العامة Intérêt public والتوجه إلى إشباع الفضول العام Curiosité publique من خلال الاهتمام المفرط بالحياة الخاصة للغير لاسيما نجوم الفن والطرب والمودة والطبخ، وبكل ما يصدر عنهم من أفعال وردود أفعال وسلوك. ففي ظل اتساع رقعة Self mass media هيمن الفضول العام على المصلحة العامة ودفع الخبر الصحافي ليغير حامضه النووي، لذا يعتقد البعض أن الخبر الصحفي قد مات[3] وهذه معضلة أخرى للحق في النشر اخذت مسمى براقا وأكثر مواربة وهو ” ما بعد الصحافة Le post journalism ، التي تعلن عن الطلاق المدوي بين الأخبار والإعلام. لقد كانت الأخبار مرادفا للإعلام[4] قبل قرن.
لقد عزّز التغيير في جنات الخبر الصحفي ما أصبح يعرف بقانون الجاذبية السردية الذي يفترض بأن الجمهور والصحافة تنجذب إلى السرديات الأكثر قبولا لدى الناس؛ أي تلك التي تلبي فضولهم ، وبانجذابهم يصقل إدراكهم للأحداث والوقائع. [5]
يعمل هذا القانون في الغالب على إبعادنا عن الحقيقة الإعلامية.
على الرغم من أن الكثير من المهنين والباحثين وحتى الجمهور ينفي وجود هذه الحقيقة بحجة أن الموضوعية نسبية في الإعلام أو أنها عبارة عن أمنية بعيدة المنال، إلا أننا نؤمن بوجودها إن اتفقنا على القول بأنها :” مسار يبدأ من الانضباط المهني والالتزام في جمع البيانات والمعطيات والتحري عن صحتها. وواقعيتها ثم عرضها بشكل عادل وصادق كاشفا عن دلالتها. وجعلها موضع تحريات لاحقة . ويجب على الصحافي أن يكون شفافا قدر الإمكان في ذكر مصادر أخباره وطريقة جمع المعطيات حتى يتمكن الجمهور ذاته من تقيييمها”.
إذا حتى لا يجرد قانون الجاذبية المذكور الحق في النشر من أهدافه يمكن التأكيد على المبدئين الأساسيين اللذين تستند إليهما هذه الحقيقة، وهما: الدقة، والصرامة.
فالدقة تستند أساسا إلى صحة تفاصيل الحدث: الاسم والعنوان الصحيحين، واسماء المدن، والأوزان، والأحجام، والمساحات، والسن، وذكر مصدر أو أكثر والتحري في مصداقيته، والتوفيق في تسجيل الشهادات بدقة، والتذكير التاريخي الذي يحدد الإطار المناسب لفهم الأحداث، وعدم الخلط في الأنواع بين تقرير الأحداث والتعليق عليها، والتقليل من الأحكام على الأشخاص والأحداث ونعتها.
والصرامة تتعلق بمسألة التعليل ، وتأويل الأحداث والأقوال بطريقة حذرة وسليمة، والربط المنطقي بين الأحداث، والكشف عن الحجج الخاطئة، وعدم التستر على أي وجهة نظر مغايرة أو مختلفة.
المراجع:
- [1] – Edwy Plenel : La sauvegarde du peuple, Presse, liberté et démocratie, Ed la découverte 2020, P 6
- [2] – Marc-François Bernier La qualité de l’information dans un contexte d’hyperconcurrence médiatique ,Communication, congrès ACFAS 2005, Chicoutimi _ 13 mai 2013 http://metamedias.blogspot.com
- [3] – Martin Gurri , Post-Journalism” and the Death of News; April 13, 2021 URL:
- https://www.discoursemagazine.com/ideas/2021/04/13/post-journalism-and-the-death-of-news/?fbclid=IwAR0uhWDFITCpdAa5Wn6oqUPecNTOLy9tWzovaXmRmcSNfJkkmndQT04NPn0
- [4] – Idem
- [5] – Aaron Zamost : La force invisible qui déforme ce que vous lisez dans les médias, 6 Mars 2017, URL : https://medium.com/backchannel/the-invisible-force-that-warps-what-you-read-in-the-news-41dca28a1f7d
مداخلة : جائحة كوفيد 19 وأزمة الصحافة: حتّى لا تغطي الشجرة الغابة 29/ 06/ 2020
مداخلة بعنوان الترقيع المنهجي في علوم الإعلام والاتصال يوم 09/ 05/ 2020