ماذا يستدرك التلفزيون الاستدراكيّ؟

نصر الدين لعياضي

سقطت كل التكهنات بموت التلفزيون. وتفاجأ المتكهنون بأن معارفهم عن التلفزيون لازالت متواضعة لأنه أصبح بمثابة الثعبان الذي ينسلخ من جلده كلّما نما. فلجلد الثعبان قدرة محدودة على النمو والتوسع ليحتوي تحولات جسمه، لذا يستبدل جلده. كذلك الأمر بالنسبة إلى التلفزيون. إنّه لا يكف عن التجدّد ليستأنف ميلاده مستفيدا في نموه من المبتكرات التكنولوجيّة. وتكمن إحدى مظاهر هذا التجدّد فيما أصبح يعرف بالتلفزيون الاستدراكي( catch-up TV)

يُعرّف هذا التلفزيون بأنه مجمل الخدمات التي تسمح بمشاهدة أو إعادة مشاهدة البرامج التلفزيونيّة بعد بثّها عبر قناة تلفزيونيّة لمدة محدودة. حقيقة، لقد كان بإمكان المشاهد إعادة مشاهدة ما فاته من برامج تلفزيونيّة في نهاية السبعينات والثمانيات من القرن الماضي سواء من خلال قيام القنوات التلفزيونيّة بإعادة بث برامجها في وقت لاحق، أي بعد منتصف الليل أو بعد قيام المشاهد بتسجيل برنامجه المفضل في جهاز الفيديو ساعة بثّه، ثم يشاهده وقت ما يشاء. لكن التلفزيون الاستدراكي هو نوع متميّز من البثّ التلفزيوني ونمط مغاير من “استهلاك” البرامج التلفزيونيّة.

يبثّ هذا التلفزيون في موقع القناة التلفزيونيّة في شبكة الانترنت تحت مسمى ” إعادة البث” replay أو ” فيدوهات”، أو “أي بلاير( iPlayer ). وأيضا عبر مواقع متخصصة في إعادة بث البرامج التلفزيونيّة، مثل ” بليز” Pluzz، و غولي ربلي Gulli Replay وميديا سيت  Mediasetو بروسيبيان   ProSieben  وغيرها. والاستفادة من خدمات هذا التلفزيون تكون في الغالب مجانا أو موجهة للمشاركين في القنوات التلفزيونيّة المشفَّرة، أو بمقابل مالي بسيط في الشركات المتخصصة في البثّ والتوزيع التلفزيونيّ. وتتطلب هذه الاستفادة بالضرورة ولوج الشبكة التفاعليّة سواء عبر الكابل أو الخط المشترك الرقمي غير المتناظرADSL أو من خلال الجيل الثالث والرابع للشبكات الخلويّة.

ظهر التلفزيون الاستدراكي في تايلاند والولايات المتحدة الأمريكية في نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي كخدمة توفرها القنوات التلفزيونيّة لمشتركيها عبر الكيبل، ثم ما انفك يتطور بالمبتكرات التكنولوجيّة. فاضحت القنوات التلفزيونيّة تستعين بتطبيقات نظام ” الأندرويد” الذي يستخدم في الوندوز، و”الأي أو س” ( iOS ) حتّى يمكن متابعة البرامج المستدرك عبر مختلف الشاشات: التلفزيون المتصل بشبكة الانترنت، والكمبيوتر المحمول، والهاتف الذكي، واللوح الرقمي. ليس هذا فحسب. بل أصبحت لكلّ قناة تلفزيونيّة برامج رقميّة تسمح بتسجيل ما تبثه من مواد تلفزيونيّة وفيديوهات، مثل “كابت تفي” Captvty، و”تي في أو” TVO، وغيرها.  ومن أجل تسهيل المهمة على المشاهدين تلجأ المنصّات الرقميّة المتخصصة في بثّ برامج التلفزيون الاستدراكي والقنوات التلفزيونيّة إلى إدراج ” كتالوج” للبرامج المستدركة في مواقعها في شبكة الانترنت، وترتب موادها المستدركة حسب الموضوعات أو التواريخ.

تطور

يتفق محترفو العمل التلفزيوني على تقسيم البرامج التلفزيونيّة إلى صنفين: برامج الفيض أو التدفق Flow program، وهي البرامج التي تبثّ مرة واحدة، وتستمد قيمتها من لحظة بثها لذا فإن مدة حياتها قصيرة جدا، مثل: الأخبار، وحالة الطقس، وحركة المرور، والبرامج الحوارية، وبعض برامج الألعاب والمسابقات التلفزيونيّة، ونقل المباريات الرياضيّة. وتستغل القنوات التلفزيونيّة هذا الصنف من البرامج لتأثيث مدة بثّها وسد بعض الفراغات في البرمجة التلفزيونيّة. وصنف ثان، وهو برامج التخزين Stock program ، التي لا تشترط وقت محدّد لبثّها؛ أي يمكن بثّها وفق ظروف القناة. وتشمل الأفلام السينمائيّة، والأفلام الوثائقيّة، والمسلسلات التلفزيونيّة. وهذه البرامج ذات قيمة ثقافيّة وجمالية أفضل من الصنف الأول.

كان البثّ في انطلاقة التلفزيون الاستدراكي مقتصرا على برامج التخزين، ثم امتد ليشمل كل البرامج التلفزيونيّة التي يُعتقد أن الطلب عليها يتزايد بالنظر إلى نسبة مشاهدتها في بثّها الأول على المباشر.

وتختلف القنوات التلفزيونيّة في لحظة بثّ البرامج الاستدراكيّة والمدة المتاحة لمشاهدتها. لقد جرت العادة أن تستدرك البرامج التلفزيونيّة في اليوم الموالي لبثّها. وفي ظل المنافسة الشديدة بين القنوات التلفزيونيّة تم التخلي عن هذه العادة. فالقناة الثانية في التلفزيون الهنغاري TV2 Webcast، على سبيل المثال، تستدرك برامجها وتعيد بثّها في اليوم ذاته، بينما تستدركها القناة السادسة من التلفزيون الفرنسي بعد ساعة فقط من بثّها.

وتختلف المدة المتاحة لإعادة مشاهدة برامج التلفزيون الاستدراكي، حسب القنوات التلفزيونيّة، إذ تتراوح ما بين 48 ساعة بعد أول بثّ إلى شهر. فالمعدل الأوروبي هو أسبوع بعد أول بّث. وهذا ما تلتزم به القناة الفرنكو أمانية Arte، والتلفزيون الاسباني TVE وتلفزيون البي بي سي، على سبيل المثال، بينما تشذ  القناة السادسة في التلفزيون الفرنسي عن هذه القاعدة وبمنحها مدة أسبوعين للجمهور لإعادة مشاهدة ما فاته من برامجها. وتمنح القنوات المشفَّرة مدة أطول لمشاهديها، تصل إلى شهر وتقتصر على “زبائنها” فقط.

جدل

على الرغم من إنّ مدة عرض برامج التلفزيوني الاستدراكي تظلّ تخضع لتقدير القنوات التلفزيونيّة من أجل تلبية رغبة مشاهديها إلا أنها تثير الكثير من الجدل، إذا بإمكانها أن تزيل الجدار الرخو الفاصل بين خدمة الفيديو تحت الطلب Video on demand، والأرشيف التلفزيوني الذي هو مادة غير مجانية. لقد التمس الفاعلون في ميدان السمعي- البصري من المُشَرِّع التدخل للفصل النظري بين الخدمتين: التلفزيون الاستدراكي والفيديو تحت الطلب، ووضع آليات عملية لحماية خدمة الفيديو التي ليست مجانيّة حتّى لا يلحق بها أي ضرر مادي بفعل انتشار التلفزيون الاستدراكي. وتعزيز مكانة ما تبثّه القنوات التلفزيونيّة المجانيّة خوفا من تراجع جمهورها أكثر، خاصة بعد استشراء الاستدراك الممتدSeason Stacking .

من المتعارف عليه أن بعض المسلسلات التلفزيونيّة تتكون من العديد من الحلقات. وقد يستغرق بثّها أشهر حتّى وإن كانت تبثّ يوميّا، وهي المدة الكافية التي تسمح للقناة التلفزيونية بخلق وشائج وألفة مع الجمهور، وترسيخ نمط من المشاهدة مبني على الشغف والانتظار والترقب. بينما الاستدراك الممتد يسمح للمشاهد بمتابعة كل حلقات المسلسل التلفزيوني دفعة واحدة دون انقطاع.

الفرق:

بغضّ الطّرف عن أن خدمة التلفزيون الاستدراكي التي تكون مجانية في القنوات التلفزيونية غير المشفرة، إلا أن الحدود الفاصلة بين الخدمات التي يقدمها كلّ من ” تلفزيون الاستدراك” و” الفيديو تحت الطلب” و” الأرشيف التلفزيوني” تظلّ غير معروفة بدقة. بالفعل، إن هذه الخدمة تنتمي إلى ” الاستهلاك” غير الخطي للبرامج التلفزيوني، بمعنى أنها لا تفرض على المشاهد الالتزام بمواعيد مرتبة مسبقا لمشاهدة هذا البرامج التلفزيوني أو ذاك، أي أنها تحرّر المشاهد من ضغوطات الزمن، وتمكّنه من مشاهدة ما يرغب أن يشاهد متى يشاء وحيثما يشاء، ويمكن أن يعيد مشاهدة ما شاهده أكثر من مرة.

يرى الخبيران ” لوران لوتايور” و”غريغوار ويبجل” بالمجلس الأعلى للسمعي-البصري الفرنسيّ بأن خدمة التلفزيون الاستدراكيّ تختلف عن خدمة ” الفيديو تحت الطلب” لأنه مرتبط بشكل وثيق بالخط التحريري للقناة التلفزيونيّة التي يستدرك برامجها. وتستمد برامجه جاذبيتها من البثّ الأول في القناة التلفزيونيّة الأصلية. وتكمن قيمة التلفزيون الاستدراكي في قيمة القناة التي ينتمي إليها عضويًّا. ويتجلى هذا الانتماء من خلال هوّية و”لوغو” ولون برامجه. وبهذا يعدّ التلفزيون الاستدراكي امتدادًا للقناة التلفزيونيّة الأم. فبدونها لا يوجد ما يستدركه. وهذا خلافا لخدمة “الفيديو تحت الطلب “التي ينفصل فيها شريط الفيديو عن قناة البثّ ويفقد الصلة بها. ويتم التعامل معه وكأنه أنتج من خارج سياق المؤسسة التي أنتجته. هذا إضافة إلى أن مدة برامج التلفزيون الاستدراكي محدودة، بينما خدمة الفيديو ممتدة عبر الزمن. وتتطلب متابعتها مقابلا ماليا. فعلاوة عن نمط تسويق الخدمتين، تخضع كلتهما إلى نظام مختلف من حقوق المؤلف. هذا في البلدان التي تحترم حقوق المؤلف حقًا. وتملك مؤسسات تصونه. وبهذا فصل المجلس الأعلى للسمعي-البصري الفرنسي في الخلاف بين الخدمتين بتاريخ 8 يناير/جانفي 2008 مؤكدا بأنهما موجهتين لسوقين مختلفين تماما. ويمكن أن نضيف إلى هذه الاختلافات تلك المتعلقة بمضمون المواد التي تقدمها الخدمتين. فمادة الفيديو تحت الطلب تقتصر في الغالب على برامج التخزين التي ذكرناها أنفا، أي الأفلام الوثائقية، والمسلسلات التلفزيونية، والتحقيقات الاستقصائية الدسمة التي تطلبت أشهر من التحري لجمع البيانات عن الموضوعات الخطيرة أو التي يتم فيها التحايل على القانون. وتستثمر الكثير من الأموال لإنجازها. بينما القسم الأكبر من برامج القنوات التلفزيونية غير المشَفَّرة يُعاد بثها عبر التلفزيون الاستدراكيّ، وهذا ما جعل هذا التلفزيون يتغذى من برامج التدفق التي ذكرناها أعلاه. فالبرامج الإخبارية والترفيهيّة بلغت 83 % من مجمل برامج التلفزيون الاستدراكي في الاتحاد الأوروبي في 2014، والبقية تركت لبرامج التخزين.

ولازالت مدة عرض البرامج في التلفزيون الاستدراكيّ مثار جدل. فالبعض يعتقد أن إعادة مشاهدة أي برنامج تتناقص بعد 48 ساعة من بثه لأول مرة. فقيمته تكمن في استهلاكه لحظة بثه، أي عندما يحتفظ بــ “نظارته”. لذا مُنح للتلفزيون الاستدراكي مدة أسبوع فقط لبث برامج التخزين، ثمّ تحجب أو ترفع إلى خانة العرض غير المجاني. وهذا الإجراء خفف قليلا من التوتر الذي ساد العلاقة بين الأطراف المعنية بخدمتي التلفزيون الاستدراكي والفيديو تحت الطلب. وأرضى مالكي حقوق بثّ الأرشيف التلفزيوني. أما برامج التدفق فيمكن إعادة مشاهدتها خلال شهر أو يزيد.

وعلى العموم، يعتقد المنتجون والشركات المالكة لحق البثّ أن التلفزيون الاستدراكيّ لا يضرّ بتاتا بخدمة التلفزيون تحت الطلب، بل بالعكس أنه يعمل على تعويد الجمهور على ” استهلاك” البرامج التلفزيونيّة الدسمة والثقيلة، ويُحَضِّر المشاهدين للالتحاق بخدمة هذا الفيديو.

المحظورات

غني عن القول إنّ القنوات التلفزيونيّة ليست مجبرة على إعادة بثّ برامجها عبر التلفزيون الاستدراكيّ، باستثناء القنوات التلفزيونيّة غير التجارية؛ أي التي تعود ملكيتها للدولة والتي تفرض عليها اللوائح القانونيّة إعادة بثّ بعض البرامج التي تندرج في خانة المنفعة العامة، حتّى يتمكن الجميع من متابعتها.

بالطبع لا تستطيع القنوات التلفزيونيّة إعادة بثّ كل المواد التلفزيونيّة حتى لو رغبت في ذلك، فهناك بعض المحظورات. فمن أجل حماية الصناعة السينمائية في عز أزمتها يُمنع إعادة بثّ الأفلام السينمائية عبر التلفزيون الاستدراكي حتى لا تفرغ قاعات السينما من المشاهدين. ويسمح  فقط للقنوات التلفزيونيّة المساهمة ماليا في إنتاج بعض الأفلام من إعادة بثها لمشتركيها لمدة محدودة، مثل قناة بلاس   Canal Plus الفرنسية، والقناة الفرانكو- ألمالية ” أرتي”. كما أن عقود استغلال برامج التخزين قد تحول دون إعادة بثّها. فبعض العقود تحدّد مرات البث، وتحصر حوامل العرض: تلفزيون، هاتف ذكي، لوح إلكتروني. كما يمكن الامتناع عن عرض بعض المواد التلفزيونيّة في التلفزيون الاستدراكي نزولا عند رغبة مالكي حقوق بثّها.

هل يشكل التلفزيون الاستدراكي خطر على القنوات التلفزيونيّة؟

يعتقد البعض أن التلفزيون الاستدراكي يعمق أزمة القنوات التلفزيونيّة التي تشذر جمهورها الذي انصرف شبابه عن متابعتها ولجوئهم إلى الشاشات المتنقلة. ليس هذا فحسب، بل أن التلفزيون الاستدراكي يقدم عروض متنوعة: مواد كاملة ومجزأة في شكل شرائط فيديو قصيرة أو مقاطع مختارة وحتّى ملخصات لحلقات من المسلسلات التلفزيونيّة، أو لقطات التوتر والمشادات في البرامج الحواريّة. ويناسب هذا التنوع أكثر نمط المشاهدة عبر الشاشات المتنقلة، خاصة الهاتف الذكيّ واللوح الرقميّ. ويلبي مزاج الشباب غير الصبور المدمن على المشاهدة الخاطفة، ويتماشى وسلوكهم في مواقع الشبكات الاجتماعيّة.

يعتقد البعض أن هذه البرامج القصيرة التي تبث عبر التلفزيون الاستدراكيّ لا تؤثر سلبا على القنوات التلفزيونيّة، بل بالعكس إنّها ترفع سمعتها وتعزّز مكانتها في المشهد التلفزيونيّ. ويمكن أن تجلب لها مشاهدين جدّد سواء من الشباب أو من الذين لم تسعفهم الظروف، نتيجة ضغوطات العمل أو الدراسة، أو زحمة المواصلات، أو التزامات عائليّة من متابعة برامجها أثناء بثّها لأول مرة.

يعمل التلفزيون الاستدراكي على إبقاء المشاهدين في “مجرّة” القنوات التلفزيونيّة. إنّه يُشكل في نظر المختصين نافذة على شبكة برامجها. ويعمل على توسيع حقل مرؤؤيتها. فالتلفزيون الاستدراكي مكمل للقنوات التلفزيونيّة وليس بديلا لها، حيث لا يمكن أن يحلّ محلّها، ولا يكون منافسا لها.

حتّى تكتمل الصورة.

ستكون رؤيتنا للتلفزيون الاستدراكي ناقصة ما لم نلتفت إلى الجانب المالي. فغني عن القول أن نفقات هذا التلفزيون متواضعة جدا، لأن كلفة الإنتاج أو شراء حق البثّ تدفعها القناة التلفزيونية التي تبث برامجها مرتين عبر البثّ العادي ثُمّ الاستدراكيّ، وتجلب من خلالها عائدا ماليًا عبر الإعلان الذي تعدّدت أشكاله بدءًا بإدراج شريط متواصل للسلع والخدمات والشريكات، وصولا إلى بثّ الإشهار قبل انطلاقة البرنامج الاستدراكي” Preroll ” ووسط مدة بثه« mid-roll » وبعدها، و مرورا بالإعلانات المتجدّدة التي ” تزيّن” واجهة موقع القناة التلفزيونيّة في شبكة الانترنت التي تبثّ البرامج الاستدراكيّة. هذا على الرغم من عدم الاتفاق على تسعيرة الإعلانات وطرائق حسابها في التلفزيون الاستدراكيّ. فبعض القنوات التلفزيونيّة تطلب 100 يورو لبث إعلان لمدة 30 ثانية في البرامج الطويلة التي يعاد بثّها. وبعضها الأخر يحسب سعر الإعلانات حسب عدد الحوامل التي يُعاد عبرها بثّ البرامج التلفزيونيّة. لكن ما فتح الباب لمستقبل الإعلانات التلفزيونيّة على يد التلفزيون الاستدراكي يتمثل في ” الوشم الرقميّ” « watermarking »   الذي يسمح للقناة التلفزيونية باحتساب عدد مشاهدي برامج التلفزيون المستدرك والذي على أساسه يحدّد سعر الإعلانات. ويُمَكِّن المعلنين من جمع البيانات الشخصية المتعلقة بالمشاهدين، وتقديم صورة شبه تامة عنهم حتىّ يصلوا إلى صياغة إعلانات مُشَخّصة لكل فرد حسب حاجاته وميوله.

وسائل الإعلام وتطبيق تيك توك: زواج المصلحة

“إنّ الأحمق هو الشخص الذي لا يغير رأيه أبدًا ولا يزيح عنه”.. يبدو أن هذا ما أرادت أن تقنعنا به وسائل الإعلام المختلفة، من صحف ومجلات وقنوات تلفزيونية ومواقع إخبارية وإعلانية في شبكة الإنترنت، وها هي اليوم تتهافت على تطبيق التشبيك الاجتماعي الصيني، “تيك توك”، لأخذ موطن قدم فيما يبثه، لقد كانت تستخف بهذا التطبيق دون سائر التطبيقات المعروفة في شبكة الانترنت، والسبب في ذلك لا يعود لكونه موجه خصيصًا للأطفال دون سن السادسة عشرة، فهناك بعض التطبيقات في شبكة الإنترنت مثل سناب شات الموجهة للأطفال أيضًا بدءًا من الثالثة عشر من العمر، بل للاعتقاد السائد أن هذا التطبيق أصبح يبث شرائط فيديو تتضمن تصرفات خرقاء وتحديات ” بلهاء”.

فماذا جرى حتى تحوّل الاستخفاف إلى إعجاب وازداد التنافس شراسة للاستفادة من خدمات هذا التطبيق الرقمي؟!

تيك توك: البداية

أطلقت الشّركة الصينيّة “بايت دنس” هذا التطبيق في عام 2016م، الذي يُحَمَّل في الهواتف الذّكيّة، استنادًا إلى فكرة نجمت عن ملاحظتين، الملاحظة الأولى تتمثل في ولع الشباب المراهق في الصين، وبقية بلدان العالم، بالتقاط صورهم بكاميرا هواتفهم، فيما أصبح يعرف بظاهرة ” السيلفي” (Selfie)، والملاحظة الثانية تجلت عبر شغفهم بالموسيقى والأغاني، إذ أصبح المراهقون يتمايلون على أنغام الأغاني الرائجة المنبعثة من هواتفهم في تنقلاتهم أو تنزهاتهم.

ومن الملاحظتين شكل هذا التطبيق خصوصيته التي تجمع الرقص بالتصوير.

يقترح هذا التطبيق على الشباب المراهق الاشتراك فيه من خلال تسجيل اسمه واختيار أغنيته المفضلة من ألبوم الأغاني التي يختزنها، ثمّ يصور نفسه وهو يرقص على أنغامها في شريط فيديو قصير تتراوح مدته ما بين ثلاث ثواني ودقيقتين، يكرّر كلمات الأغنية مكتفيًّا بتحريك شفتيه فتظهر في شريط الفيديو وفق طريقة (Play back)، فيعتقد مستخدمو “تيك توك” أنه يؤدي الأغنية بصوته، ولئن كان هذا التطبيق قد زاد من شعبيّة بعض الأغاني فإنه نشط الصناعات الموسيقيّة، ونشر بعض الفيديوهات التي جعلت من أصحابها مشاهير في عالم الموسيقى والغناء.

لقد كان لهذه الفيديوهات مفعول العدوى في صفوف المراهقين في البلدان الآسيوية، والأوروبية، والولايات المتحدة الأمريكية وحتّى البلدان العربيّة، إذ بلغ عدد متابعيها (150) مليون مستخدمًا ناشطًا يوميًا في يونيو 2018م، مقابل (500) مليون ناشط شهريًا؛ لكن العدوى تعدت عالم الموسيقى والغناء لتتناغم مع مزاج المراهقين واندفاعهم لرفع التحدي في مختلف المجالات، كالرقص الخطير على سلالم العمارات مع إيقاع الموسيقى، وسرعة تبديل الملابس على إيقاع أغنية، وغيرها من التحديات الرياضيّة البهلوانيّة.

على الرغم من الإقبال الواسع والسريع على هذا التطبيق أو بسببه بدأ التضييق على هذا التطبيق، الذي أصبح يهدد الشركات الكبرى المالكة لمواقع الشبكات الاجتماعية، مثل الفيسبوك، وتويتر، واليوتيوب في عقر دارها، أي الولايات المتحدة الأمريكية، ففي شهر فبراير عام 2019م، أدانت اللجنة الفيدراليّة للتجارة الشّركة الصينيّة “بايت دنس” بغرامة قدرها (5.7) مليون دولار جراء قيامها بجمع البيانات عن الأطفال القصر – دون سن 13 سنة – بطريقة غير شرعيّة، وجعلها في متناول الغير، وشجّعت هذه العقوبة مكتب لجنة الإعلام ببريطانيا على فتح تحقيق قضائي حول حماية الأطفال في هذا التطبيق.  

أدركت شركة “بايت دنس” أن تطبيق “تيك توك” وقع ضحية حرب تجاريّة غير معلنة بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد أن عارضت شراكتها مع الشّركتين الأمريكيّتين “ميكروسوفت”، ثمّ “أوراكل”، فسارعت إلى إنشاء مكاتب لها خارج الصين في العديد من بلدان العالم، ووظفت من يملكون القدرة على التأثير على أصحاب القرار السياسي والاقتصادي في بعض العواصم العالمية ليشكلوا جماعة ضغط لصالحها.

من لعب “عيال” إلى شريك

قد يتساءل البعض ماذا يجمع صحيفتي “لوموند” الفرنسيّة “النخبويّة”، و”الواشنطن بوست” الأمريكية الرزينة بتطبيق “تيك توك”، الذي كان يُعتبر منذ وقت قريب عبارة عن “لعب عيال”؟  وما الذي دفع شبكة التلفزيون الأمريكي (إن بي سي نيوز NBC News)، والقناة التلفزيونية الفرنسية الألمانيّة (أرتي ARTE) ذات الطابع الثقافي النخبوي، والقناة الأولى في التلفزيون الفرنسي (تي أف 1 TF1) على سبيل المثال وليس الحصر، إلى التوجه ببرامجها التلفزيونية، ونجومها، وحصصها المتلفزة إلى جمهورها عبر مواقع الشبكات الاجتماعية، وتطبيق “تيك توك” على وجه الخصوص؟

الأمر لم يتم صدفة أو بشكل عفوي، لقد أدركت وسائل الإعلام التقليدية أن تطبيق “تيك توك” يختلف عن كل مواقع الشبكات الاجتماعية التي تعتمد على تداول الفيديوهات والصور.

يفسر “إكزافي واتبلاد”، المكلف بدراسة تسويق البرامج بالقناة السادسة في التلفزيون الفرنسي، سر اهتمام وسائل الإعلام التقليدية بتطبيق تيك توك بقوله: أحدث هذا الأخير قطيعة كبرى مع الميديا التي سبقته، فبعد الإذاعة والتلفزيون، جاء جيل موقع “اليوتيوب” المغرم بشريط الفيديو، الذي يتسم بطول مدته والذي يسمح لمشاهديه بالدخول في التفاصيل، بينما تتسم فيديوهات التيك توك بالسرعة والإيجاز ولا يستغرق سوى بعض الثواني، ليس هذا فحسب، بل أن خوارزميات تيك توك تفرض اختياراتها – أيضًا – على مستخدمي هذا التطبيق، هذا علاوة على أن تيك توك يُعد التطبيق الذي يبثّ الفيديوهات التي تُحمّل أكثر من غيرها في شبكة الإانترنت، لقد حُمّلت مليارين مرة في السنة 2020م، بنسبة زيادة تقدر بـ(600%) أغرى هذا العدد الهائل وسائل الإعلام التقليديّة، خاصة تلك التي تملك خبرة في التعامل مع مواقع الشبكات الاجتماعية، مثل: “الفيسبوك، واليوتيوب، والدلي موشن، وانستغرام”، بالوصول إلى جزء من مستخدميه.

استهجان

استهجن الكثير من متابعي صحيفة “لوموند” الفرنسيّة المشهورة ما قامت به يوم 15 يونيو 2020م، حين أطلقت أول شريط فيديو لها في تطبيق “تيك توك”، لقد اعتقدوا أنه ليس لهذه الصحيفة الموجهة أصلا للكهول من الفئات الوسطى في المجتمع الفرنسي والبلدان الناطقة بالفرنسيّة، ما تجنيه من هذا التطبيق الموجه لمن هم دون 24 سنة، سوى النيل من هيبتها وسمعتها، لكن لـ”ليتيتيا بيرو”، التي تُعْرف بصحافية الفيديو، والمسؤولة على مواقع الشبكات الاجتماعية في الصحيفة المذكورة أعلاه رأي آخر، إذ ترى أن لصحيفة لوموند إستراتيجية خاصة بالنشر في مواقع “واتساب، وتويتر، والفيسبوك، وسناب شات”، وتقول إنهم لاحظوا في الصحيفة، خلال الحجر الصحي، أن تطبيق “تيك توك” حقّق نسبة متابعة عالية جدًا خارج الشريحة العمرية التي كان يستهدفها في بداية انطلاقته؛ أي المراهقين، وأن هناك مستخدمين آخرين تملكوا هذا التطبيق وبدأوا يبثون محتويات أصيلة ومبدعة وخفيفة، وأن “الأخبار الملفقة” (Fake News) انتشرت خلال هذا الحجر انتشار النار في الهشيم وأخذت أبعادًا رهيبة، وأكّدت المسؤولة ذاتها على أن هدف صحيفة “لوموند” هو الكشف عن هذه الأخبار ومخاطبة الجمهور عنها حيثما يوجد عبر مواقع الشبكات الاجتماعيّة، واستطردت “ليتيتيا بيرو” قائلة: “لقد لاحظنا – أيضًا – أن تطبيق “تيك توك” تسيس أكثر في بعض القضايا، مثل حركة “لحياة السود قيمة” (Black Lives Matter) التي انطلقت في أوساط الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية في عام 2013م، للتخلص من العنف الممارس ضد السود، فخلال بضعة أيام تفاعل (10.8) مليون من مستخدمي تطبيق “تيك توك” مع فيديوهات هذه الحركة.

وتقول “ليتيتيا بيرو”: لقد أدركنا أن هناك شيئًا ما يحدث، وأن هذا التطبيق تجاوز هويّته الأصليّة بعد أن شكل جماعة واسعة متعطشة للأخبار ولتبادل الأفكار، فأن تكون شابًّا لا يعني بتاتا أنك لا تملك أي اهتمام بالسياسة والاقتصاد.

تتمثل إستراتيجية صحيفة “لوموند” على المدى البعيد في الوصول إلى الشباب الذين لا يعرفونها، وفي ترويج علاماتها التجارية في أوساطهم، وعندما يكبرون ويحققون استقلالهم المالي ويملكون قدرة شرائية سيشتركون في طبعتها الرقميّة أو الورقيّة، ويكونون خلفًا لقُرّاء صحيفة “لوموند” الذين شاخوا.

وهكذا أصبحت هذه الصحيفة تبث محتوى أصيلاً بمعدل خمس مواد كل أسبوع، للتحري حول صحة الأحداث ومحاربة الأخبار الملفقة، وشرح السياقات لفهم المواضيع المهمة.

إنّ ما تبثه هذه الصحيفة على موقع “سناب شات” يختلف عن محتوى ما تبثه في تطبيق “تيك توك”، الذي لا يرتبط دائمًا بالأحداث “الساخنة”، لكنه ذا صلة بالقضايا السياسيّة التي تقدم بطريقة تربويّة وتعليميّة، كما يتضمن شرائط فيديو تبسيطيّة للمعارف العلمية، مثل شرح “الاندماج النووي” بحبات الحلوى! وتقديم بيانات مرئيّة مختصرة ذات صلة بموضوع معين، وهكذا استطاعت هذه الصحيفة أن تحقق رقم (574) ألف مشترك في هذا التطبيق وتنال (6.5) مليون إعجاب بما تبثه.

الريادة

لا تشكل صحيفة “لوموند” حالة استثنائية في المشهد الصحفي الفرنسي، فقد سبقتها إلى تطبيق “تيك توك” بعض الصحف الفرنسيّة، مثل صحيفة “الفيغاروا” و”البريزيان” ومجلة “لكيب” الرياضيّة، لكن الريادة في صحافة “تيك توك” تعود إلى لـ”واشنطن بوست” الأمريكية، وإلى الصحافي “دافيد جورجونسن” الذي جعل منها مرجعًا، إذ بلغ عدد متابعيها في “تيك توك” (850) ألف مشترك، لقد صور في فيديوهاته مهنة الصحافة بنوع من الخفة والمزاح كاشفًا عن كواليس الصحيفة المذكورة، ما حمّس الشباب للالتحاق بهذه المهنة، وتناول في فيديوهاته المواضيع الساخنة التي تثير النقاش في أوساط المشتركين، ويختار مئة تعليق على كل فيديو ينشره، ويشارك المعلقين بالإجابة على السائلين للحفاظ على ترابط أعضاء المجموعة التي تشكلت من المشاركين في الصحيفة عبر تطبيق “تيك توك”، لقد أضفى طابع الجدية على منشورات الصحيفة في “تيك توك” مع حركة “لحياة السود قيمة”، التي ذكرناها آنفا، حيث أعطى الكلمة لزملائه في قاعة التحرير للحديث عن عملهم، وليعبروا عن “ماذا يعني أن تكون صحافيًّا ذا بشرة سوداء؟” لقد أفلح في تعريف العنصرية المطبقة بطريقة منظمة في أقل من (59) ثانية.

يدافع مسؤول “إنتاج الفيديوهات” في صحيفة “الواشنطن بوست” عن هذا الاختيار بالقول: “إنّ نشر المحتويات مفيد جدًا للصحيفة، إذا تحكم المرء في مدونتها المرئية وأخضعها لطبيعة صحيفته”، واستطرد قائلا: “نحن نسعى عبر تطبيق تيك توك إلى ضخّ دم جديد في قرائنا، دم الجيل الشاب الذي أصبح يملك طريقة خاصة لاستهلاك المحتويات الإعلامية تختلف عن الجيل السابق، ومع مرور الوقت سنكسب قراء جدد لموادنا الإعلامية التّقليديّة، ومن يستغرب سلوكنا هذا، فنذكره بأن القراء استنكروا قيامنا بإدراج لعبة “الكلمات المتقاطعة” في صحيفتنا، لكن هذه اللعبة أصبحت مشهورة جدًا اليوم، وتمثل لنا موردا ماليًّا، ومصدرًا لكسب مشتركين جدد”.  

لم يجذب “تيك توك” الصحف وحدها، فحتى المحطات الإذاعية تسابقت لبثّ برامجها على هذا التطبيق، فالإذاعة الفرنسية “فرانس أنفو” شرعت هي الأخرى في بث شريطي فيديو في اليوم، بمحتوى مبسط ومفسر للأحداث، وسعت لجعل منشوراتها مفهومة ومرئية، فنظمت فيديوهاتها في حوالي اثني عشر موضوعًا، ولكل شريط فيديو عنوانه الفرعي المثير، وبهذا بلغ عدد متابعيها في “تيك توك” (240) ألف مشترك.

التحدي من جديد

واصل تطبيق “تيك توك” انتشاره، وهذه المرة في أجهزة التلفزيون ذاتها، خاصة في تلك التي تعتمد على نظام تشغيل أندرويد، وعلى تلفزيون غوغل، وأجهزة سامسونغ التلفزيونية، لذا لا غرو أن تسابقت القنوات التلفزيونية على بثّ شذرات من برامجها عبر هذا التطبيق، لا يعتبر هذا التسابق ضرورة فرضها منطق التطور التكنولوجي، بل وسيلة لكسب جمهور جديد من الشباب، فحسب الباحث “آلان ديبردر” صحاب المؤلف “الاقتصاد الجديد للسمعي/البصري” الصادر في عام 2019م بفرنسا، فإن مشاهدة التلفزيون في البلدان الأوروبيّة تراجعت بنسبة (25%) لدى المشاهدين الذين يقل أعمارهم عن (24) سنة خلال الفترة الممتدة من 2015 إلى 2018م، ويوعز ذلك إلى شغفهم بشرائط الفيديو التي تطفح من الشاشات الأخرى، لذا يُعد “تيك توك” وسيلة للقنوات التلفزيونيّة لتجديد مشاهديها والنفاذ إلى هذه الشريحة التي أدارت ظهرها للتلفزيون، لذا تنوعت مقاربات العديد من القنوات التلفزيونيّة لجذب هذا الجمهور بواسطة تطبيق “التيك توك”، في أكثر من بلد في العالم، بدءًا ببثّ أكثر اللقطات شهرة في برامجها التلفزيونيّة، أو دعوة مستخدمي “التيك توك” للمشاركة في التحديات التي تتضمنها برامج الألعاب والمنافسات التلفزيونيّة، مثلما تفعل القنوات التلفزيونيّة الفرنسيّة التي تعلن عن نوع التحدي الذي يجري في برامجها الترفيهيّة: الموسيقيّة والغنائيّة، وتمنح لمستخدمي “تيك توك” مدة أسبوع من التحضير للمشاركة في المسابقة التلفزيونيّة قبل بثها أو في بثّ شرائط قصيرة جدًا لا تتعدى (15) ثانية عن الأحداث الراهنة، مثلما تفعل شبكة التلفزيون الأمريكية الإخبارية “إن بي سي نيوز (NBC News).

يؤكد “إكزافي واتبلاد” المكلف بدراسة تسويق البرامج بالقناة السادسة في التلفزيون الفرنسي أن علاقة القنوات التلفزيونيّة المختلفة في “تيك توك” لا تقوم على التجريب، بل تستند إلى دراسة وتحليل دقيق للموضوعات الرائجة والأكثر متابعة في هذا التطبيق، وهي كالتالي: الكوميديا بنسبة (93%)، والرقص بنسبة (75%)، والمودة والزينة بنسبة (58%)، وعالم الحيوانات بنسبة (55%)، وحيل للحياة اليوميّة نسبة (43%). بالطبع إن طموح القنوات التلفزيونيّة ليس إحداث انقلاب في ترتيب الموضوعات التي يتضمنها هذا التطبيق، إنها تسعى بكل بساطة الاستفادة من المزاج السائد في “تيك توك”، وصناعة فيديوهات مستقاة من برامجها أو استغلال ما يرسله مشتركوها من فيديوهات وإعادة إدماجها في منتجاتها كطريقة لتشجيع هؤلاء المشاركين على الارتباط أكثر بالقنوات التلفزيونيّة.

خاتمة

أخيرًا، يدعونا “روبرت هرنندز”، أستاذ الممارسة المهنيّة في مدرسة الاتصال بجامعة أنومبرغ، جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، إلى عدم الاندهاش من العلاقة التي بدأت تتطور بين وسائل الإعلام التقليدية وتطبيق “تيك توك”؛ لأن ما يجري مع هذا التطبيق يتطابق تمامًا مع ما جرى مع بعض المنصات الرقميّة قبله، مثل “سناب شات، وانستغرام، وتويتر”.

لقد بدأ الأمر مع هذه المنصات كشيء عابر ومسلٍّ، ثمّ كشف عن مقومات استمراره، ثم أصبح أكثر تعقيدًا واحترافية عندما انتقل إلى طرح الموضوعات الجادة، ما يرجح لصالح هذا الرأي أن القناة (الفرنسية – الألمانية) المهتمة بالثقافة المكرسة أو “ثقافة النخبة” أنتجت برنامجًا مخصوصًا للبثّ عبر تطبيق “تيك توك” بعنوان: “تعال نرقص” في شكل شرائط فيديو قصيرة تعالج موسيقى “الهيب هوب” (Hip Hop) أو “الرّاب” (Rap)؛ أي الموسيقى الشعبيّة التي طوّرها الأمريكيون الأفارقة المنحدرون من جنوب القارة الأمريكية، في سبعينات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، ورقصة “البريك دانس (Break dance) التي تُعرّف بأنها التعبير الجسديّ لموسيقى الرّاب، والتي اجتاحت العديد من بلدان العالم.

لقد استغلت هذه القناة التلفزيونيّة بهذه الشرائط المراهقين، بطريقة لبقة، للحديث والتفكير في تطور أنواع الموسيقى وأشكال الرقص في المناطق الحضرية كضرب من ضروب التعبير الثقافي، هكذا نرى أن هذه القناة وغيرها لم يتخلوا عن شخصيتهم وهويّتهم، بل استغلوا تطبيق “تيك توك” بما يتماشى مع خصوصيتهم

مشاهدو التلفزيون: هل يقولون عكس ما يفعلون؟

نصر الدين لعياضي

تساءل الكاتب ومؤسس القنوات التلفزيونية المتخصصة في فرنسا، سارج شيسك، في مقال له صدر بمجلة ”ميديا” في 2006، قائلاً: هل يعاني مشاهدو التلفزيون الفرنسي من مرض انفصام الشخصية؟
لقد وُلِد هذا السؤال من قراءته الفاحصة لاستطلاعات الرأي التي أنجزتها، تحت الطلب، بعض المراكز المختصة، لمعرفة آراء المشاهدين الفرنسيين فيما يشاهدون من برامج القنوات التلفزيونية، وللاطلاع على حكمهم عليها، فاستخلص أن ما يصرحون به يتنافى مع ما يمارسونه يوميًا.
لقد لاحظ على سبيل المثال، أن القناة الأولى في التلفزيون الفرنسي لا تحظى بتقدير الفرنسيين حسب استطلاعات الرأي، لكن قياس المشاهدة التلفزيونية يثبت عكس ذلك تماما، إذ يؤكد أنها تجذب أكبر عدد من المشاهدين مقارنة ببقية القنوات التلفزيونيّة الفرنسيّة، وبالمقابل يولي الفرنسيون أهمية أكبر للقناة الفرنكو- ألمانية (آر تي) ذات الطابع الثقافي ويبجلونها، في حين أن قياس المشاهدة التلفزيونية يبيّن أن عدد مشاهديها متواضع جداً، وتحتل الرتبة الأخيرة في سلم تصنيف القنوات التلفزيونية حسب عدد المشاهدين، ليس هذا فحسب، بل يذهب الكاتب إلى درجة التأكيد على أن قمة التعارض بين أقوال المشاهدين وأفعالهم تتجلى أكثر في برامج ” تلفزيون الواقع”؛ فأغلب الفرنسيين يجزمون، في استطلاعات الرأي، أنها سخيفة وتافهة وسطحية، ولا يترددون في وصف القناة التلفزيونية التي تبثها بتلفزيون النفايات، لكن نتائج قياس عدد مشاهديها تؤكد تزايدهم باستمرار، خاصة أثناء بث الحلقات الأخيرة من التصفيات بين المتنافسين، ويضيف الكاتب ذاته قائلاً: (لو كان هؤلاء المشاهدين على حق فيما ذهبوا إليه لاستطاعت البرامج الثقافية والفكرية في القنوات التلفزيونية استقطاب أكبر عدد من المشاهدين)، فمسؤولو القنوات التلفزيونية لم يكفوا عن التذمر من البرامج الثقافية التي يُفرض عليهم بثّها لأنها تحولت إلى عامل طارد لجمهور التلفزيون!.
نفي
قد يعتقد بعض القراء أن ما سبق ذكره هي حجج دامغة تدل على أن الفرنسيين يعانون، دون غيرهم، من حالة مرضية في علاقاتهم بقنواتهم التلفزيونية. لكن الكاتب سارج شيسك ينسف هذا الاعتقاد نافيًا أن يكون المشاهد الفرنسي أو أي مشاهد آخر للقنوات التلفزيونية في العالم يعاني من هذه الحالة المرضية. ويعلل التعارض بين قول المشاهدين وفعلهم بجملة من العوامل، لعل أبرزها يكمن في المراوغة أو الحيلة للتخفيف من الإحساس بتأنيب الضمير جراء تبعيتهم لتلفزيون أو الإدمان على مشاهدته، فالمواطن الفرنسي يخصص ما معدله ثلاث ساعات ونصف من يومه لمشاهدة التلفزيون، وأن 95% من الفرنسيين يشاهدون التلفزيون يوميًا.
وحالة تأنيب الضمير من التبعية للتلفزيون ظاهرة قديمة ولا تتعلق بشعب دون سواه، لكن وطأتها تختلف من مجتمع إلى آخر، ومن شريحة اجتماعية وعمرية إلى أخرى.ويشرح الباحثان البريطانيان المختصان في علم الاجتماع، “دافيد غونتليت” و” آنات هيل” هذه الظاهرة في كتابهما: “الحياة في التلفزيون: التلفزيون، والثقافة والحياة اليوميّة”، الصادر في 1999، أي قبل أن تكتسح شبكة الانترنت الحياة الاجتماعية، بالقول، إن أغلب الناس الذين تسألهم: ماذا فعلتم ليلة أمس؟ يجيبونك بنوع من الاعتذار والأسف: لا شيء سوى مشاهدة التلفزيون، وكأن مشاهدة التلفزيون لا تعني سوى إهدار الوقت، وصرفه فيما لا ينفع، وإن كان القليل منهم يجيبك بالقول إنه تابع نشرة الأخبار التلفزيونيّة، من باب منح نوع من الشرعية للمشاهدة التلفزيونيّة وإعطاء قيمة لما قام به.
                                                حيل
لعل القارئ الكريم صادفته بعض المراوغات التي يمكن أن تكشف عن سر إصرار البعض على متابعة بعض البرامج التلفزيونية التي يصفها، بإلحاح، بأنها تافهة وساذجة وسطحية. فبعض الكهول الذين يتذمرون من إدمان أفراد أسرتهم على مشاهدة برامج تلفزيون الواقع، التي يصفونها بأنها تافهة وسخيفة، يتفاجؤون إن قلت لهم: يبدو أنكم تتابعونها أيضا طالما أنكم مطلعون على سخافتها، فيتلعثمون ويرددون على استيحاء قول المثقفين: إنّ فضول المعرفة هو الذي دفعهم إلى الاطلاع على تطور الذهنيات وسلوكيات الجيل الصاعد عبر هذه البرامج.
أما أطرف الحيل في هذا الباب هي تلك التي سمعتها عندما سألت أحد المتذمرين والغاضبين على برامج الترفيه الرمضاني التي بثتها القنوات التلفزيونيّة الجزائريّة عما أجبره على متابعتها طالما أنه يشكو من ضحالتها وسطحيتها وحتى بلاهتها، فأجابني إجابة فلسفية بالقول: إنه الفضول لمعرفة هل أن للتفاهة التلفزيونيّة حدود تقف عندها؟
من الممكن أن يجيب المستجوبون عن أسئلة الاستبانة التي توجهها لهم مراكز استطلاعات الرأي، المتعلقة بالقنوات التلفزيونية التي يشاهدونها والبرامج التلفزيونية التي يفضلونها أو التي دأبوا على متابعتها، بما يتماشى مع ” الضمير الجمعي”، أي ينساقون وراء الرأي السائد أو الشائع حتى لا يخرجون عن الإجماع، فيجدّدون عبر إجابتهم انتماءهم إلى الأغلبية الحاضرة بآرائها وأفكارها في النقاش العام.
قيمة
علاوة عن التخفيف من وخز الضمير، يعتبر “سارج شيسك” أن الفصام الذي يعاني منه المشاهد التلفزيوني، إن صحت تسميته كذلك، يحمل قيمة كبرى، إذ يفصح عن عدم رضاه على ما يشاهده، ورغبته في مشاهدة الأفضل، خاصة إذا كانت مؤسسة التلفزيون فقيرة ولا تملك من الإمكانيات ما يسمح لها بشراء المسلسلات والأفلام ذات النوعية الجديدة أو القيام بإنتاجها، هذا علاوة عن وجود تقارب بين ميل المشاهد إلى مشاهدة البرامج الاستقصائية والتقارير الحية إن وُجدت، والتي تعبر عن تفاصيل حياته اليومية، وما يصرح به هذا المشاهد عنها.
إنْ نظرنا إلى موضوع عدم تطابق أقوال مشاهدي التلفزيون مع أفعالهم من زاوية أخرى، نجد أن الكثير من المشاهدين يرون في التلفزيون وسيلة للقضاء على الملل وملء الفراغ حتى بالفراغ، وبعضهم يتعامل مع التلفزيون وكأنه إذاعة، يشغله ثم ينصرف إلى أداء بعض الأشغال في المنزل، ولا ينظر إليه، بل يكتفي بالاستماع إليه من بعيد ليستأنس بالصوت أو الأصوات فقط! هذا فضلا على أن التلفزيون ظلّ موضع سجال متواصل منذ اختراعه، والسبب في ذلك لا يعود لعجز أي قناة تلفزيونية عن الحصول على رضا جميع المشاهدين، فلكل قناة جمهورها أو لكل جمهور قناته، بل لأن التلفزيون عاش ويعيش مفارقة، وهذا خلافا للإذاعة والصحافة والمجلة، إننا نحبه ونكرهه في الوقت ذاته وذلك لحضوره الطاغي في حياتنا اليومية ولاستحواذه على قسط كبير من وقتنا.
لقد ظل التلفزيون ردحًا من الزمن منظمًا لإيقاع حياتنا الاجتماعية والأسرية وفق مؤشر وقت ذروة المشاهدة “Prime Time”، الذي يجمع أكبر عدد من المشاهدين، والذي تحدّد على أساسه أسعار اللقطات الإعلانيّة والبرامج التلفزيونية، علاوة على ما يثيره من توتر داخل بعض الأسر بسبب البرنامج الذي يُفْرض على جميع أفرادها متابعته، فالكثير من البحوث الاجتماعية حاولت معرفة العلاقة بين أفراد الأسر عبر التلفزيون عندما كانوا يجتمعون لمشاهدة برامجه، لقد سعت هذه البحوث إلى معرفة ممارسة السلطة داخل الأسرة، فمن يملك جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون يفرض على الجميع متابعة القنوات التلفزيونية التي يرغب في مشاهدتها لأنه يتمتع بسلطة فعلية على أفراد الأسرة. 
لقد كشف الباحث المغربي، عبد الرحمن الزيري، في أطروحة الدكتوراه التي أعدها بعنوان: “مقاربة اثنوغرافية للتلقّي المباشر لبرامج القنوات الفضائية عبر الأقمار الصناعية في الوسط العائلي المغربي” في 1998، جانبًا من أشكال التفاوض من أجل تحقيق إجماع الأسرة على البرامج التي يشاهدها الجميع معًا، إذ لاحظ أنه بمجرد أن يتراجع دور الوالد في تلبية حاجيات الأسرة بعد زوال دخله المالي أو تناقصه، ويتولى أحد أفراد الأسرة مسؤولية إعالة الأسرة، وليكن الابن البكر، فتنتقل إليه سلطة الفصل في هذا التفاوض.
                                         تعقيد
لا تنفي كل التوضيحات المذكورة آنفًا أن علاقة المشاهد بالتلفزيون أضحت معقدة جدًا، إذ يندرج ما يجري بين المشاهد وما يشاهده على شاشة التلفزيون في خانة الأسرار التي لم تتمكن بعد آليات قياس المشاهدة التلفزيونية من كشفها على الرغم من تطورها ودقتها. إنها الآليات التي استطاعت الوصول إلى أدق التفاصيل عما يفضله المشاهد ومدة المشاهدة وأوقاتها، ومن يشاركه في المشاهدة، ورأيه فيما يشاهد.
لقد دفعت هذه الأسرار البحوث الاثنوغرافية إلى الطعن في صحة بحوث التأثير المطلق للتلفزيون على المشاهدين، فاهتدت إلى أن مشاهدة التلفزيون سواء كانت فردية أو جماعية) مع الأهل أو الأصدقاء (تظلّ ممارسة اتصالية بامتياز، إذ تتحول إلى ذريعة للتفاعل وإثارة النقاش على هامش ما يعرضه التلفزيون، ومادة لتجديد روابط الانتماء، أو تصبح مجرد وسيط لاكتشاف الذات وتقويمها، حيث يختلط فيها خطاب التلفزيون مع الخطاب عن التلفزيون.فالخطاب عن التلفزيون، مثلما يؤكد عالم الاجتماع الفرنسي دومنيك بويي، ليس مجرد نص مشفر يحال إلى عالم السيميائيات ومُحَلِّل المحتوى ذي الكفاءة في فك رموزه، فالمشاهد يحتفظ دائما بهامش يفصله عن خطابات التلفزيون، ويعكس علاقته بهذا الجهاز وبما تثيره فيه برامجه.
إنّها العلاقة التي بدأت تفصح عنها الشاشة الثانية، التي تكون بيد من يشاهد التلفزيون ولا يستغني عنها أبدًا، ويضعها بجانب جهاز التحكم عن بعد في التلفزيون، وهي شاشة الهاتف الذكي أو اللوح الإلكتروني والذي يتواصل عبره المشاهد مع أترابه أو أصدقائه للتعليق على ما يشاهد على شاشة التلفزيون مباشرة وبشكل متزامن، أو للتعبير عما تثيره المشاهد التلفزيونية أو التصريحات من مشاعر أو أحاسيس، أو تستدعيه من أفكار أو تستحضره من تجارب، فالتلفزيون في آخر المطاف هو مجمل ما يبثّه، أي خطاباته، وكلّ ما نقله عنه، أي خطاباتنا عنه.

عتبات الكلام: هل هي مجرد أضغاث كوابيس؟

نصر الدين لعياضي

سمح الله طارق صبري، أستاذ نظرية الإعلام والاتصال في جامعة وستمنستر، ببريطانيا، والباحث في معهد بحوث الاتصال والإعلام والمركز العربي للإعلام. لقد أمضيت سنوات باحثا عن كل ما كتبه. وأخيرا، وقع بين يدي كتابه: “لقاءات ثقافية في العالم العربي: في الإعلام والحداثة والحياة اليومية- إنها ترجمتي التقريبية-. لم أستطع الانتظار أكثر ممّا انتظرت، فشرعت في قراءته ساعة الحصول عليه. فداهمني النعاس بعد أن رزح بثقله الذي يزن حمولة جمل على أجفاني قبل الانتهاء من قراءة المقدمة. فسلمني الأستاذ طارق إلى كوابيسه.

يذكر طارق صبري في مقدمة كتابه المذكور، أنه عانى، وهو في السابعة من العمر، من شِدّة الكوابيس كلّما خلد إلى النوم. ولم يستطع إخفاء معاناته، فأصبح وضعه مصدر قلق كل أفراد أسرته التي يقرّ أنها كانت حداثية وشديدة العقلانيّة. لكن والدته العقلانيّة جدًا، اضطرت مرغمة، بعد أن أعيتها كل حيل علاجه، إلى أخذه إلى أحد المشايخ الذي ذاع صيته في محو السحر ومطاردة الجن وجلب الحظ، وذلك لاعتقادها أن ابنها “مركوب”، أي مسوس.

يذكر أنه توارى خلف والدته خجلا ليمسح بعيونه جدران بيت الشيخ المذكور الذي لا يوجد ما يميّزه عن بيوت القرويين. ولم ينتشل مما هو فيه سوى صوت يأمره بالنزول إلى الاسطبل فأصطدم بسريالية الديكور: بقايا تبن متناثرة في أرجاء القاعة الترابية، ورائحة الأنعام تلف المكان، وأصفاد نهشها الصدأ مثبتة في الجدار، وحَجَرتان تجاورتا قرب الأصفاد. أزداد خوفه عندما انتصب أمامه شيخ نحيف لا يدري كيف ومن أين تسلسل إلى هذا المكان. شيخ ذو لحية عبث بها الشيب، يرتدي “قشابية” لم يقترب منها الماء منذ زمان أو لم تقترب منه. فأمره زاجرًا بالجلوس على الحجر. وقيد معصميه النحيلتين بالأصفاد. فسرى الألم والخوف في أوصاله. ثم جلس بجانبه على الحجر الثاني ومال بوجه إلى درجة أحس بأنفاسه تلفع خده، ثم شرع في البصق على وجهه! ولم يتذكر طارق سوى الذهول الذي اصابه إلى درجة أن حلقه جف، فعجز عن الرد على الشيخ بمثل ما فعل. ثم انتفض هذا الأخير واقفا ليربت بحنان على كتفي الطفل ويرافقه صامتا في السلالم، وسلمه إلى أمه التي كانت تنتظره بقلق عجزت عن إخفائه. دسّت والدته في يديه بعض الدريهمات ليسلمها إلى الشيخ شاكرا على ” بصاقه”. ووقفت تنتظر ” نتائج الفحص”. فأخبرها الشيخ باسما: لا شيء، أبعدوه فقط عن التلفزيون لمدة 17 يوم.  ويعترف طارق صبري أن والده اشترى أول تلفزيون يبث باللونين الأبيض والأسود عندما بلغ السن المذكور أعلاه. لكنه أنهى هذا القصة دون أن تنتهي. فلم يخبرنا على سبيل المثال هل أبتعد عن التلفزيون أو أبُعد عنه؟ وهل البصاق وصل إلى فراشه وطرد الكوابيس من نومه؟ ولماذا 17 يوما بدل أسبوع أو أسبوعين أو حتّى شهر؟ لقد كان مستعجلا، ولم يتركنا مع هذه التفاصيل، ليصطحبنا عبر هذه القصة، التي أرادها مدخلا لتحليله السوسيو ثقافي، ويذكر أن ذاك الشيخ من أتباع الظاهراتية، بل من مناصري مارشال ماكلوهان لأنه لم يحدّد برنامجًا أو مسلسلاً تلفزيونيًّا بعينه ويجعله سبب كوابيسه، بل اكتفى بالقول: إنّه التلفزيون. فسحر التلفزيون وقوة تأثيره لا تسري في اليقظة فقط، بل تمتد إلى النوم. وبحكم تكوينه الأنتربولوجي، تسأل طارق صبري قائلا: هل أن والدته خانت عقلانيتها بتصرفها هذا، وتراجعت عن حداثتها؟  وهل بإمكان المرء أن يكون تقليديًّا وحداثيَّا في الوقت ذاته دون أن يصاب بــ “الشيزوفرينيا ” الثقافيّة؟ بمعنى هل يظلّ المرء حداثيّا في مجتمعنا طيلة حياته؟

لم ينسني هذا التحليل ما أصابني، وكأن عدوى الكوابيس التي أرهقت الطفل طارق صبري قد أصابتني، وأنا في هذا السن الذي يمنعني من توجيه أصابع الاتهام إلى القنوات التلفزيونية في بلدي. والسبب في ذلك لا يعود إلى ارتفاع منسوب وطنتي الذي جعلني أشعر بالغيرة على كل ما هو جزائري حتىّ وإن كان تلفزيونيًّا، بل لاعتقادي أن ما تسمى “قنوات تلفزيونيّة” تملك من الدهاء ما جعلها تكسب ود الشيوخ من طينة ذاك الذي داوى طارق صبري. فتستضيفهم في “بلاطواتها”. وقد يأخذ الحماس بعضهم فيبصق على المشاهدين عبر الشاشة حتى لا يضطر أحدهم إلى اللجوء إلى غريمهم إن انتابته الكوابيس.  وتستضيف بعض الساسة والمحللين السياسيين الذين يزايدون على المشعوذين معتقدين أن للكوابيس جينات بإمكانها أن تتحول، وتغير توقيت إغارتهم على البشر من الليل إلى النهار.

حاشا الله أن اتهم هذه ” القنوات التلفزيونية”، وأحمّلها ما أصابني من كوابيس لأن مفهوم التلفزيون يتبرأ منها بعد أن انتحلت صفته على حين غفلة من هيئة الضبط السمعي-البصري أو على مرآها ومسمعها. إنها في حقيقة الأمر ليست سوى إذاعة مصورة، وكان عليها أن تصنف بإذاعة أو شبه تلفزيون. وما يثبت هذا الانتحال أنه يمكن لأحد ملاكها أن يهرول مسرعا إلى أستديو ما يسميها قناته، إن زاحمه أحد السائقين، على سبيل المثال، على المكان الذي يركن فيه سيارته في الشارع العام. فيستل الميكروفون من أحد مذيعه وينتصب أمام الكاميرا الوحيدة الثابتة ليجلده لأكثر من ساعة بكلام لاذع، ويتهمه بما شاء من التهم. ويغتصب من وقت المشاهدين ما أراد مبدعا في أنواع القذف، وضاربا عرض الحائط بحق الرد الذي نصّت عليه كل قوانين الإعلام في الجزائر. فمن يحاسبه؟ إنه صاحب قناة يدفع من “حر” ماله بالعملة الصعبة أو بالأحرى من حر “ريع الإشهار العمومي” إلى ملاك الأقمار الصناعيّة الأجانب لينكل بمن يشاء وقتما شاء، أو عندما يوعز له بذلك- بالمناسبة من يتذكر تلك التي اعتلت منبر التلفزيون لتصف المعلمين بالجراثيم- أو ليغمر الفراغ الذي يعاني منه المشاهدون بالفراغ مع إلحاق الأذى بذوقهم الجمالي. فلا غرو إن رأينا صاحب هذه القناة أو تلك أو أحد المنتفعين ماليًّا أو سياسيًّا أو إيديولوجيَّا من وجودها يصول ويجول في المؤتمرات أو الندوات يلقننا أبجديات مهنة الصحافة وأصول أخلاقياتها.

أتفهم جيًّدا من لم يفهم الأسباب المذكورة أعلاه التي تبرئ القنوات التلفزيونية في الجزائر من الكوابيس التي قد تصيبنا، لعله يعتقد أن أضغاث الكوابيس قد انتقلت لتسكن في قلمي.

عن أزمة تلفزيون الخدمة العمومية

نصر الدين لعياضي

“التلفزيون يبلّد الأشخاص المثقفين، ويثقف الأشخاص الذين يعيشون حياة بليدة”، بهذه الجملة حكم الفيلسوف الإيطالي ” أومبرتو إيكو” على التلفزيون. نعتقد أنه لا يوجد من يستطيع أن يتهم هذا الروائي والباحث الإيطالي بجهل عالم (السمعي/البصري)، وبعدم التمييز بين الأنظمة التلفزيونية في العالم. ربما كان حكمه هذا يحمل تنبؤًا بما تؤول إليه التحولات التي يعيشها التلفزيون المعاصر التي تهدد بالقضاء على الفروق القائمة بين أنظمته، أو بالأحرى بين نظاميه الأساسيين: نظام التلفزيون التجاري، وتلفزيون الخدمة العمومية، أي التلفزيون الرسمي الناطق باسم الدولة، وليس ذاك الذي يقوم بدور اللسان الناطق باسم السلطات التنفيذية في بلد تتناوب فيه الأحزاب الفائزة في الانتخابات البرلمانية على إدارة هذه السلطة.

ففي نظر الباحثين ومحترفي العمل الإعلامي في الدول الغربية لا يعقل أبدًا أن يظل التلفزيون، الذي هو أصلاً مرفقًا عامًا، حكرًا على الحزب السياسي الذي يشكل الحكومة فيتلاعب به كما يشاء، ليسلمه لحزب آخر ليفعل به الشيء ذاته عندما يفوز بدوره في الانتخابات.

بالفعل إن التقارب الكبير بين النوعين المذكورين من أنظمة التلفزيون والذي يوحي بتطابقهما في المستقبل القريب، دفع الكثير من محترفي العمل التلفزيوني والباحثين إلى الحديث عن أزمة تلفزيون الخدمة العمومية، فما هي مظاهر هذه الأزمة؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب الإشارة أولاً إلى أن الخدمة العمومية في القطاع (السمعي/البصري) شكلت هاجسًا سياسيًّا ومعرفيًّا، في مطلع ثمانينات القرن الماضي، في دول أوروبا الغربية بعد أن أقدمت فرنسا، وإيطاليا، وإسبانيا، والبرتغال، وبلجيكا، وغيرها من الدول على إعادة التنظيم القانوني للبث الإذاعي والتلفزيوني، وفتحت قطاع (السمعي/البصري) للاستثمار الخاص، فظهرت العديد من القنوات التلفزيونية التجارية التي أصبحت تهدد وجود تلفزيونات الخدمة العمومية، مما عزّز التخوّف من أن يقع مصير التلفزيون والإذاعة في يد السوق، ويحرم المواطنين (المستمعين والمشاهدين) من حقهم من الإعلام عمّا يجري في بلدانهم من أحداث، ويمنعهم من التعبير عن ثقافتهم وتراثهم الوطني.

لكننا نلاحظ اليوم أن الحديث عن تلفزيون الخدمة العمومية قد خفت إلى درجة أنه لم يعد يُسمع حتى في الدول التي وقفت ضد مشروع إلحاق قطاع الثقافة والإعلام باتفاقية منظمة التجارة العالمية في تسعينات القرن الماضي، رافعة شعار: “لا نريد تلفزيونـًا مصنوعًا في اليابان يبث برامج أمريكية”!.

ما الخدمة العموميّة؟

تتفق جلّ القواميس على أن الخدمة العمومية هي نشاط تمارسه الدولة عبر مؤسساتها المختلفة تجسيدًا لسيادتها على القطاعات الإستراتيجية: الدفاع والأمن الوطنيين، والقضاء، والمالية العمومية خدمة للمنفعة العامة، وحماية هذه القطاعات من الخضوع لمنطق السوق، ويمكن للدولة أن توكل هذه الخدمة لمؤسسات أخرى لتقوم بها نيابة عنها وفق صيغ قانونية مختلفة: منح الصلاحيات والتراخيص، وفرض دفتر الشروط، ومراقبة الاستثمار وتوجيهه، وتحديد الأسعار، وتتسم الخدمة العمومية بالخصائص الثلاثة التالية: الاستمرارية، والمساواة، والقدرة على التكيّف مع تطور المجتمع ومتطلبات المستخدمين والمواطنين.

يُعرّف تقرير منظمة اليونسكو المعنون بـ: “إذاعة وتلفزيون الخدمة العمومية: انتقاء الممارسات الجيدة”، الصادر في عام 2005م، تلفزيون الخدمة العمومية بأنه التلفزيون الذي يتوجه إلى كل فرد باعتباره مواطنًا، وتسهم في توسيع معارفه، إنه أداة للإعلام والتربية، يتجه إلى الجميع ويكون في متناولهم بصرف النظر عن مكان تواجدهم ومكانتهم الاجتماعية، ولا تقف مهمته عند الإعلام والإخبار، بل تمتد إلى الثقافة وتقديم مواد ذات نوعية جيدة تميّزه عن التلفزيون التجاري.

ونظرًا لأن وجود تلفزيون الخدمة العمومية غير مرهون بعائده المالي، فإنه يتسم بالمبادرة، والجرأة والتجديد وحب المخاطرة، فيتجه إلى ابتكار قوالب تعبيرية جديدة، ويقدم أفكارًا غير مسبوقة ينافس بها التلفزيونات التجارية، ويقدم مواد ترفيهية رصينة وهادفة، وبهذا يفرض معيارية جديدة في المشهد التلفزيوني.

لقد وجدت ضرورات تاريخية فرضت الخدمة العمومية في قطاع الإذاعة والتلفزيون تأتي على رأسها محدودية موجات البث الإذاعي والتلفزيوني، مما يتطلب تدخل الدولة لتنظيم البث وتوزيعها بما يضمن حق المواطن في الإعلام والثقافة.

بيد أن البعض لم يفهم من هذه الضرورة سوى أن التلفزيون العمومي وليد احتكار الدولة ويمارسه، بمعنى أن الدولة هي التي تموله وتديره وتراقب ما ينشره، بينما المرجعية التاريخية، كما عبر عنها التقرير المذكور، تؤكد على ضرورة التزامه بجملة من المبادئ، منها التنوع الذي يقصد به التعبير عن التنوع الذي يميّز جمهوره الفعلي أو المستهدف، وتقديم برامج مختلفة لتلبية حاجات الجمهور: برامج موجهة للأطفال والمرأة والشباب والشموليّة، بمعنى جعل برامجه في متناول جميع المشاهدين دون أي إقصاء.

فالتلفزيون الذي تكون برامجه مشفرة وتتطلب مقابلاً ماليَّا لمتابعتها لا يمكن وصفه بتلفزيون الخدمة العمومية، وذلك لأنه يقصي الفئات التي لا تملك المال الذي يسمح لها بمشاهدة برامجه.

والاستقلالية والإنصاف أي عدم تبعية تلفزيون الخدمة العمومية لأي حزب أو قوة مالية لخدمة أهدافها المنافية للمنفعة العامة أو التي تفرض عليه التحيز ضد فئة من المشاهدين دون تمكينها من الرد أو التعبير عن وجهة نظرها.

والخصوصية؛ أي على تلفزيون الخدمة العمومية امتلاك شخصية تميّزه عن التلفزيون التجاري وتتجسد أولاً في هويته المرئية المختلفة، ثم في مضمون برامجه الجادة والمفيدة.

قد يقول قائل إن هذه المبادئ ضرب من الخيال، ولا يمكن لأي قناة تلفزيونية أن تلتزم بها التزاما تامًا.

حقيقة، إن تجسيد الخدمة العمومية في قطاع الإذاعة والتلفزيون واجهته العديد من الصعوبات منها ما هو تشريعي “تحديث القوانين لتواكب تطور الممارسة الإعلامية وتحولات المجتمع”، وما هو اقتصادي “ضمان الاستقلالية المالية” لتمكّنه من منافسة التلفزيون التجاري، لكن على الرغم من هذه الصعوبات إلا أن التجربة التاريخية تؤكد بأن الخدمة العمومية ليست أضغاث أحلام أو طلب المستحيل من القنوات التلفزيونية، إنها فكرة نبيلة وطموح سام تجسد تدريجيًا في العديد من البلدان تأتي في مقدمتها بريطانيا عبر نموذجها المرجعي: الـ(بي بي سي)، ووصفة المرجعي لا تعني إسقاط الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية لكل بلد من حساب الخدمة العمومية.

ففي البلد الذي تتعدد لغاته الرسمية مثلاً تعمل الدولة على إنشاء أكثر من قناة تلفزيونية ذات الخدمة العمومية تبث كل واحدة منها بلغة معينة، كما هو الأمر في كندا أو بلجيكا، والبلد الذي يشعر أن ثقافته الوطنية أو هويته مهددة في وجودها تعمل دولته على توجيه تلفزيون الخدمة العمومية إلى إحياء عناصر هذه الثقافة أو الهوية لدى جمهوره، مثل اللغة، والفن، والموسيقى، والغناء، والشعر، والطبخ، واللباس التقليدي، والعادات والتقاليد، والألعاب الشعبية، والهندسة المعمارية، والدفاع عنها بشتى السبل، الأمر الذي يتردّد التلفزيون التجاري عن القيام به ما لم يحقق من ورائه عائدًا ماليًّا مربحًا، وتوجد بعض القنوات التلفزيونية تبث برامج تعليمية مستقاة من المقرر المدرسي لصالح الفئات المحرومة التي يعاني أطفالها من العزلة التي تحول دون التحاقهم بالمدارس، وتعتقد أن هذه البرامج تندرج في خانة الخدمة العمومية، بمعنى آخر، إن تلفزيون الخدمة العمومية هو صوت المجتمع المسموع.

أين الخلل؟

إن غياب تلفزيون الخدمة العمومية أمام فيض قنوات التلفزيون التجاري لا يعني تسليع الإعلام والثقافة – أي تحويلهما إلى سلعة – فحسب، بل يقضي على التعددية الإعلامية وتنوعها، ووجود هذا التلفزيون علامة صحية في المنظومة الإعلامية، ولا يمكن تقدير قيمة غيابه ما لم نلتفت إلى ما أشار إليه “برترون لاباس”، أستاذ الإعلام في المعهد العالي بجامعة ليل الفرنسية، بقوله: إن الانجراف الإعلامي والمعلوماتي الذي يميز عصرنا الحالي سينتهي بإحداث فجوة على الصعيد المعرفي  وليس التقني بين الذين يعرفون والذين لا يعرفون ولا يبالون بذلك”.

يؤكد الكثير من الباحثين بأن المنافسة الشرسة بين القنوات التلفزيونية للاستحواذ على أكبر عدد من المشاهدين من أجل رفع حصتها من عائدات الإعلان قد يدفعها إلى الابتعاد عن المواضيع الخلافية والتوجه إلى بث البرامج التي تحقق الإجماع أو على الأقل التوافق بين المشاهدين، مثل نقل مباريات كرة القدم، وبرامج الألعاب والمسلسلات التلفزيونية، والأخبار الخفيفة التي تتسم بقيمتها الدرامية وطابعها الغريب.

ففي هذا الإطار لاحظ “إريك داراس”، أستاذ العلوم السياسية بفرنسا، أن القنوات التلفزيونية الفرنسية المختلفة، بصرف النظر عن نظامها القانوني: تجارية أو ذات الخدمة العامة، قد رفعت بثلاث مرات عدد الأخبار الخفيفة والغريبة والشاذة المتعلقة بالجريمة والفضائح التي بثتها خلال الفترة الممتدة ما بين 1995 و2004م، ويعتقد أن هذا الأمر ليس بريئًا بالمرة لأن هذه الأخبار تدر العاطفة ويتابعها بنهم عدد كبير من المشاهدين، ولا تتردد القنوات التلفزيونية عن بثها لأغراض تجارية محضة، بينما من المفروض أن يبثها تلفزيون الخدمة العمومية باعتدال، ويستثمر ما تثيره من عاطفة ومشاعر من أجل تحفيز المشاهدين على التفكير في أوضاع المجتمع وحال الناس.

مظاهر الأزمة

لا يرى البعض أي ضرورة لوجود تلفزيون الخدمة العمومية بعد زوال السبب التاريخي المذكور أعلاه، فالتكنولوجيا الرقميّة قضت على ندرة موجات البث الإذاعي والتلفزيوني وسمحت بوفرتها، مما قد يعفي الدولة من التدخل لتوزيعها، خاصة وأن هذه الأخيرة قد رفعت يدها عن الكثير من القطاعات، وأن عدد المحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية تزايد بشكل كبير، بل أصبح بإمكان أي شخص أن ينشئ محطته الإذاعية وقناته التلفزيونية عبر شبكة الإنترنت.

تراكمت مجموعة من الصعوبات التي أصبحت تواجه تلفزيون الخدمة العمومية، يأتي في مقدمتها شحّ الإعانات المالية التي تقدمها الدولة له أو التي يحصل عليها من المشاهدين كرسوم، ممّا يجبره على البحث عن مصادر تمويل بديلة أو مكملة؛ أي اللجوء إلى الإعلان، وهذا يعني الدخول في منافسة مع التلفزيون التجاري والتي تؤدي به إلى تقليد، وهذا ما حدث بالفعل، حيث لاحظنا أن العديد من قنوات تلفزيون الخدمة العمومية اقتفت آثار التلفزيون التجاري وأصبحت تنتج وتبث ما تميز به مثل برامج تلفزيون الواقع كالأخ الأكبر، وستار أكاديمي، وغيرها.

إذًا المظهر الأول لأزمة تلفزيون الخدمة العمومية يكمن في اضطراره للاختيار بين الاستمرار في بث البرامج ذات المنفعة العامة وغير الربحية، وبالتالي تقليص عائده المالي أو العمل على تحقيق أكبر قدر من عائدات الإعلان، وبالتالي التفريط في مسؤولياته المتمثلة في تقديم مواد ثقافية هادفة بأسلوب راق، وإعلام نزيه، فأمام السيل المتدفق من الأخبار على تلفزيون الخدمة العمومية أن يثبت اختلافه عن التلفزيون التجاري في مجال الإعلام، إذ يتوجب عليه انتقاء الأخبار بعد غربلتها وترتيبها وفق سلم من الأهمية دون الأخذ بعين الاعتبار مقولة “هذا ما يريده الجمهور”، بل بالنظر إلى دور الأخبار في تكوين الحس المدني لدى المشاهد، وتطوير إحساسه بالمسؤولية، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، على تلفزيون الخدمة العمومية التنقيب عن الأخبار في مناطق الظل التي تتستر عليها الشركات التي تمنح الإعلانات ويغض التلفزيون التجاري النظر عنها، ليس هذا فحسب، بل على قنوات تلفزيون الخدمة العمومية أن تعي بأن الجمهور المعاصر يختلف عن جمهور نهاية القرن الماضي الذي يراه ميشال مونوتي، المذيع في القناة الثانية في التلفزيون الفرنسي، أنه متخم بالمعلومات والأخبار التي تطفح من كل فج عميق، وما يريده هذا الجمهور هو النظرة الفريدة إلى الأحداث، وأشكال جديدة ومبتكرة لسردها وفق إيقاع جديد.

أمام شحّ الموارد المالية وارتفاع تكاليف إنتاج المواد السمعية البصرية أُجبر تلفزيون الخدمة العمومية على استيراد البرامج التلفزيونية والمسلسلات بأثمان زهيدة ليشترك في بثها مع التلفزيون التجاري! وهذا الشحّ في الموارد يقلّل من فرص استثمار تلفزيون الخدمة العمومية في التكنولوجيا الرقمية التي أصبحت الممر الإجباري للمستقبل.

إن المظهر الثاني في أزمة تلفزيون الخدمة العمومية يكمن في التأخر في إدراك التحول الذي طرأ على البيئة الإعلامية والذي يستدعي قراءة معاصرة لمبادئ الخدمة العمومية في مجال البث الإذاعي والتلفزيوني.

إنّ المبدأ الأساسي الذي يخضع له هذا التلفزيون هو التوجه إلى جميع المشاهدين المحتملين دون استثناء، مثلما ذكرنا آنفًا، وتطبيق هذا المبدأ في البيئة الرقمية يعني التوجه إلى كل مشاهد في ظل تعدد منصات البث التلفزيوني، وحوامل البرامج التلفزيونية، وخاصة الشباب الذين أداروا ظهورهم لجهاز التلفزيون واتجهوا إلى مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية المختلفة، فهذه المنصات ليست أدوات بث فقط، بل إنها معامل لصناعة المحتوى وفق تصورات مستحدثة لأشكال السرد ومكونات المادة (السمعية/البصرية) لتعزيز ترابط أفراد المجتمع.

هذا ما أدركته الـ(بي بي سي 3) التي عزمت في يناير 2005م على إنتاج برامج مخصوصة للبثّ عبر موقعي “توتير” و”سنابشات”، واعتبرت أن ما عزمت عليه نابع من صميم “الخدمة العمومية” التي يتوجب عليها القيام به لتكمل ما شرعت فيه المؤسسة الأم منذ سنوات، والمتمثل في إنشاء موقع على شبكة الإنترنت يبث الأخبار على مدار (24) ساعة، وينشر ملايين صفحات الواب، وآلاف الفيديوهات والشرائط المسموعة ووضعها مجانـًا في متناول من يريد من أجل إقامة حوار بين المشاهدين والمستمعين ومؤسسة الـ(بي بي سي)، إنه بُعد آخر من الخدمة العمومية في العصر الرقمي.

بالطبع لا يمكن مقارنة إمكانية الـ(بي بي سي) البريطانية، بإمكانيات الكثير من المحطات الإذاعية وتلفزيونات الخدمة العمومية في العالم التي تعاني من أزمة حقيقية فعلية، مثلما ذكرنا أسبابها أعلاه.

لذا تحركت الكثير من المنظمات المهنية المختلفة للتوعية بأهمية الخدمة العمومية في قطاع الإذاعة والتلفزيون، ولعل أنشط منظمة في هذا المجال هي الفيدرالية الدولية للصحافيين، التي نظمت العديد من المؤتمرات والدورات التدريبية للدفاع عن الخدمة العمومية منذ عام 2001م، وقد استفادت المنطقة العربية من أحدى الدورات التي شارك فيها اتحاد الإذاعات العربية، والتي عُقدت في العاصمة الأردنية عمّان ما بين 15 و17  يوليو 2003م.

  عن صحافة العدوى

د. نصر الدين لعياضي

ماذا لو بُعث عالم الاجتماع الأمريكي “جورج هربت ميد”، واستمع بملء أذنيه إلى المختصين وهم يصفون ممارسات الصحافة المعاصرة  بمصطلحات ومفاهيم عديدة ومتنوعة، هل يصاب بالذهول من كثرتها أو الغبطة بصحة ما ذكره منذ ما يربو عن قرن؟ حين أكد في عام 1926م، بأنه لا وجود سوى لنوعين من الصحافة: صحافة الإعلام، وصحافة السرد والقص، فالصحافي لا يُرْسَل في الغالب لنقل الوقائع بل للحصول على قصة.

إن تزاحم وتنوع المصطلحات والمفاهيم التي تعبر، بشكل أو بآخر، عن تطور الممارسة الصحفية مع ميلاد “الواب”، خاصة جيله الثاني، تدفع للتأمل مليًّا فيما قاله عالم الاجتماع “ميد”، ولست أدرى هل نوفق في جرد كل مسميات الصحافة المعاصرة إن حصرناها فيما يلي: الصحافة الجديدة، وصحافة الإنترنت، وصحافة الواب، والصحافة التساهمية، وصحافة المواطن، وصحافة المصادر الشعبية، والصحافة الإلكترونية، وصحافة الويكي، وصحافة البيانات، والصحافة الرقمية، وصحافة “الموبايل”، وصحافة الوسائط المتعددة، وصحافة المواءمة (Convergence)، وما بعد الصحافة (Post-journalism)، وأخيرًا صحافة العدوى.

ماذا؟.. العدوى؟! وما دخل العدوى في العمل الصحفي؟!!

أو بالأحرى كيف “تسللت” العدوى إلى العمل الصحفي؟!.

ما العدوى؟

تجمع قواميس اللغة العربية القديمة والحديثة على معنى فعل أعدى، إذ تؤكد بأن “أعدى فلانـًا من خُلُقه أو مرضه: أصابه بالعَدْوى، أي نقل إليه المرض أو الخُلُق، وأكسبه مثلَه حُمَّى مُعْدية”، فالعدوى هي انتقال المرض من مصاب بداء إلى شخص سليم، فيصبح بدوره مصابًا به بوسَاطةٍ ما، مثلما هو الأمر اليوم مع جائحة (كوفيد – 19)، وانتقلت العدوى إلى الاستعمال في الحقل المجازي، فأصبحنا نسمع “بعَدْوَى الفساد”، و”عَدْوَى الغش في الامتحانات”، وعَدْوَى التحايل على القوانين”، وغيرها، لكن لا أحد كان يعتقد أن العدوى تصل إلى عالم الصحافة.

تؤكد القواميس في اللغات الأجنبية على أن أصل كلمة العدوى “فيروس” (Virus) يعود إلى اللغة اللاتينية، وانتقلت إلى تداول من عالم الطب إلى عالم المعلوماتية في عام 1984م، لتدل على البرمجيات القادرة على التسلل إلى المنظومة الإعلامية لتعطّل أدائها أو تبدد بياناتها أو تخربها، ومنها انتقلت إلى التداول في مجال التسويق، فأصبح يقال “التسويق المعدي”
(viral Marketing) الذي أزداد انتشارًا بفضل مواقع التواصل الاجتماعي، فعرّفت العدوى في عالم التسويق بأنها: “التوزيع المفاجئ وغير المتوقع لبعض المحتويات المتعلقة بالسلع والخدمات والمنشآت من دون معرفة مصدرها”.

لذا لا وجود للعدوى من دون بثّ أو إعادة توزيع، ويسلك مسار العدوى في مواقع التواصل الاجتماعي المخطط التالي: “مصدر ما ينشر أو يبثّ مضمون ما في شكل نص قصير أو تسجيل صوتي، أو مقطع موسيقي، أو أغنية، أو صورة أو شريط فيديو أو مادة صحفية” تتضمن بعض هذه العناصر التي تكونها إلى مشترك أو مشتركين في موقع من مواقع التواصل الاجتماعي، وليكن “الفيسبوك، أو تويتر، أو اليوتيوب أو إنستغرام”، فيتقاسمونها مع أصدقائهم ومعارفهم، ويقوم هؤلاء بدورهم بنشرها وتوزيعها على معارفهم، وهكذا تتسع حلقة انتشارها.

لقد استفادت العدوى الرقميّة من “علم الشبكات الجديد” الناشئ على يد الباحث “واتس دنكن” (Watts Duncan)، و”علم الواب” على يد الباحث “هندلر جيمس” (Hendler James)، وآخرون.

أسهم الإشهار والتسويق في تطوير قياس نسبة العدوى التي تحظى بها بعض المحتويات، والذي يأخذ بعين الاعتبار بعض المتغيرات مثل عدد الأشخاص الذين أوصوا بالاطلاع على المحتوى المتداول، أو عدد الذين حمّلوه أو شاركوه مع غيرهم، وأخيرًا عدد الذين اطلعوا عليه، وقد جنى التسويق والإعلان من هذا القياس فائدة كبرى، تتمثل في “شخصنة” رسائلهما، أي توجيهها إلى أشخاص بعينهم، ومتابعة صداها بشكل أسرع وأدق.

عدوى الأخبار

إن مجال العدوى ليس محصورًا في مواقع التواصل الاجتماعي، بل إن للميديا التقليدية نصيبها من العدوى، فقد ولجت حقل الإعلام والاتصال مؤسسات مختلفة لا علاقة سابقة لها بالأخبار، فزادت في فيضها بشكل أصبح من الصعب مواكبة تدفق الأخبار عبر الحوامل المتعددة والمتنوعة، واشتدت المنافسة بينها ليس من أجل إبلاغ أكبر عدد من الجمهور  بمستجدات الأحداث، بل بدفع هذا الجمهور إلى إعادة توزيع الأخبار والترويج لها، ففي خضم هذه المنافسة ظهرت “صحافة العدوى”.

يؤكد الباحثان  (دوماجو بيبي Domagoj Bebić)، و(ماريجا فلاررفيك  Marija Volarević) بأن المثال الأبرز عن صحافة العدوى هو موقع “بوز فيد” (BuzzFeed)، في شبكة الإنترنت الذي تأسس في نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية في عام 2006م، ثم جرى تدويله بعد خمس سنوات، أي أصبح موقعًا دوليًّا بعد صدور طبعته البريطانية والكندية والهندية والأسترالية والفرنسية في عام 2013م، ثم الإسبانية والألمانية في عام 2014م، والمكسيكية واليابانية في العام الذي يليه، واعتبر هذا الموقع أشهر موقع عالمي بالنظر إلى الإحصائيات عن زواره ومستخدميه، ومواده التي أعيد توزيعها.

وحسب رئيس تحرير طبعته الفرنسية “بن سميث” فإن “موقع بوز فيد” (BuzzFeed) يركز على المواضيع التي تتجاهلها الصحف الفرنسية؛ أي المواضيع الخفيفة والطريفة والمازحة التي تحرر بجمل مختصرة وتساؤلية، وبعناوين جذابة ومبتكرة ومثيرة تسرد قصصًا شيقة تارة وصادمة طورًا.

وقد اقتفى موقع صحيفة “هافينتون بوست” (Huffington Post) أثر موقع “بوز فيد” ليتحولا إلى نموذج لصحافة العدوى.

إنّ صحافة العدوى تمثل شكلاً جديدًا من الصحافة وجدت لتستقطب انتباه المستخدمين في ظل بروز “اقتصاد الانتباه”، وتوزع عبر مواقع التواصل الاجتماعي مما يتطلب تفاعل المستخدمين معها، أي أنها تعتمد على ديناميكية المواقع وانتشارها، وعلى دور المستخدم في توزيعها واقتسام محتواها، وتستند إلى سرد الأخبار بلغة بسيطة وإيجاز حتى لا تأخذ من وقت المستخدم الكثير.

وإن استلهمت صحافة العدوى من الصحافة الصفراء التي ظهرت في عام 1890م بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي عملت على رفع عدد مبيعاتها بخفض سعرها، والإسراف في نشر الأخبار الطريفة والمثيرة والاستثنائية، مثل السرقات والجرائم والفضائح الأخلاقية، والتركيز على المحتوى العاطفي والحسي للأحداث أكثر من قيمتها الإخبارية، واستعمال لافتات عريضة للعناوين، والرسوم التوضيحية المختلفة، إلا أنها تختلف عنها وذلك لأن الصحافة اليوم تعيش تحولات كبرى مستفيدة من المبتكرات التكنولوجية المختلفة: الوسائط المتعددة، الاستعجال في نقل الأحداث لحظة وقوعها، والسرعة في إعادة صياغة الأخبار وتجديدها لتواكب الأحداث، وتتمتع بتعدّد حواملها، خاصة المتنقلة منها، التي حرّرت المستخدم من عائق المكان والزمان.

كل هذا يدفع الأخبار اليوم لتكون معدية، بمعنى أنها تغري المستخدم على نشرها في مواقعه الإلكترونية أو صفحته، واقتسامها مع أصدقائه في موقع التواصل الاجتماعي، وتحمّيلها، أو التعبير عن إعجابه بها، أو استيائه من مضمونها، والتعليق عليها لحظة نشرها.

وحتى ندرك جيدًا سياق ظهور هذا النموذج من الصحافة لا بد من العودة إلى مراحل تطور الصحافة كما وصفها الكاتبان المذكوران، إذ أكدا بأن المطبعة أسهمت في ميلاد الصحافة الورقية، وأسهمت الإنترنت بفاعلية في تطور الصحافة عبر الخط، ومواقع التواصل الاجتماعي والعُدّة التقنيّة المتنقلة، خاصة الهاتف الذكي الذي رسخ التغيير المعدي في الصحافة.

ففي هذا الإطار يمكن التذكير بالدراسة المسحية التي قام بها معهد “رويترز” في عام 2015م، وشملت (12) بلدًا و(20) ألف شخصًا، من أجل رسم خريطة بيئة الأخبار المتغيرة. لقد وقفت هذه الدراسة على الدور الرئيس الذي قام به الهاتف الذكي في زيادة استخدام الميديا الاجتماعية، وفي تقاسم الأخبار ومناقشتها.

 إذًا، إن صحافة العدوى تكشف عن التغيير الكبير الذي طرأ على العمل الصحفي، بدءًا من طرائق جمع البيانات، وتعدد مصادرها وتنوعها، وثراء المواضيع والأحداث التي يتطرق إليها، وتنوع أشكال تحرير المادة الصحفية وسردها وعرضها، واستهلاكها الذي يرتكز على شعبية مواقع التواصل الاجتماعي والدور الأساسي الذي يقوم به المستخدم في نشرها، وما ما يترتب على توزيعها من رد فعل مما يجعلها مشخصة أكثر، أي موجهة لشريحة من المستخدمين بعينهم نظرًا لتطابقها مع اهتماماتهم وخصوصيتهم.

السر

يظل سبب انتشار بعض الأخبار واتساع رقعة عدواها دون سواها من الأسرار التي سعى الكثير من الباحثين إلى الكشف عنها من خلال تحليل مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، وتقنيات الإنزال الإعلامي وتكثيفه في مواقع التواصل الاجتماعي، وإن لم يوفق هؤلاء الباحثين التوفيق كله في ذلك، إلا أنهم استطاعوا أن يبيّنوا بعض العوامل التي تساعد على ذلك، مثل: تقليد الأصدقاء والمعارف ومشاركتهم ما يطلعون عليه ويتابعونه في شبكة الإنترنت، والتوصيات والنصائح التي يسديها بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى معارفهم وأصدقائهم الافتراضيين لمتابعة هذا المحتوى أو ذاك، وهذا العامل يذكرنا بنظرية انتقال المعلومات عبر مرحلتين للباحثين “إليهو كاتز” و”بول لازرسفيلد” اللذان  تأكدا من الافتراض بأن لوسائل الإعلام تأثير محدود على الجمهور، وذلك لوجود وسيط يتدخل بينهما، ويتمثل في قادة الرأي الذي يؤثرون على أتباعهم، ويوجهونهم صراحة أو بشكل ضمني نحو المواد الإعلامية والثقافية التي يفضلون الاطلاع عليها، وما يفكرون في مضمونها، وقد تراجع دور هؤلاء القادة اليوم لصالح المؤثرين، هذا فضلاً عن عامل آخر، يتمثل في الموقع الذي ينشر فيه الخبر، فإن كان في الصفحة الرئيسية لموقع في شبكة الإنترنت، فحظه من الانتشار يكون أكبر، وكذا جِدَّة الأخبار، فالأخبار الأنية تحظى بإقبال أوسع في مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا مع العلم بأن الباحث “توماس بوفيزاج” (Thomas Beauvisage) يؤكد بأن موضوع الجدّة يمثل معضلة في صحافة العدوى، فمن جهة يمكن التأكد بأن الخبر الجديد يحظى بمتابعة لحظة نشره أكثر من الأخبار القديمة التي تعد في عرف ممتهني الصحافة التقليدية أخبارا ميتة، ومن جهة أخرى تأخذ العدوى شكل منحنى، يبدأ بمجرد نشر الخبر، ويرتفع تدريجيًّا إلى غاية بلوغه الذروة ثم يبدأ في الانخفاض إلى غاية نهاية العدوى، ويأخذ هذا المسار بعض الوقت، بمعنى أن منحى الخبر يتصاعد كلمًا فقد بعضًا من جدّته وظل منشورًا مدة من الزمن!.

لقد حاول بعض علماء الاجتماع رصد انعكاسات صحافة العدوى على الحياة الاجتماعية والثقافية، ففي هذا الصدد تنبأ الكاتب “رشكوف” مبكرًا في كتابه “فيروس الميديا، الأجندة المنسية في الثقافة الشعبية”، الصادر في عام 1994م بنيويورك، بمفعول العدوى، إذ أكد بأن الأحداث الإعلامية التي تؤدي إلى تغيير اجتماعي حقيقي هي فيروسات ميدياتيكية. إنها تنتشر في الجسم الجماعي مثلمًا ينتشر الفيروس البيولوجي، فبقدر ما تكون الصورة أو الأيقونة استفزازية تسافر بسرعة أكبر في فضاء البيانات، ويعتبر اهتمامنا وافتتانا بها مؤشران يدلان على أننا ثقافيًّا لا نملك “مناعة” ضد هذا الفيروس الجديد.  

يبدو أن القليل من الباحثين حاول رصد تأثير صحافة العدوى على الصحافة بشكل عام وعلى ظيفتها في المجتمع، إن استثنينا الذين ربطوا ارتفاع نسبة الأخبار المزيفة بانتشار صحافة العدوى.

معيار النجاح

لقد أصبحت “العدوى” معيار نجاح الأخبار الأساسي الذي يكاد يكون الوحيد، لذا راحت صحافة العدوى تستعمل مختلف الحيل من أجل الحصول على أكبر عدد من “الكبسات” التي تعبر عن إعجاب المستخدم بها، أو تلك التي تخبر عن إعادة توزيع ما تنشره أو تعيد تغريده (Retweet).

لقد أسهمت صحافة العدوى بفاعلية في تغيير جينات الأخبار وحامضها النووي، فلم يعد التركيز على الأحداث وعلى ما جرى وبالنظر إلى واقعيتها، بل أضحى الاهتمام يتمحور على ردود الفعل على ما جرى، وذلك لسببين، أولهما تقني، ويرتبط بخصوصية الوسيط، فموقع “الفيسبوك” على سبيل المثال يدفع إلى التركيز على من تفاعل مع ماذا؟ ومن علق على تعليق هذا المستخدم أو ذاك؟ وثانيهما اجتماعي، ويتثمل في التوافق بين الأخبار المعدية التي تركز على الجانب العاطفي والوجداني في الأحداث، ومزاج المستخدم الذي أصبح يحتكم إلى مشاعره وأهوائه وقناعاته الشخصية أكثر من اعتماده على موضوعية الأخبار.

وبهذا دفعت صحافة العدوى العمل الصحفي إلى الانزياح عن الحديث باسم الجمهور في الفضاء العام، وطرح القضايا ذات الصلة بالمصلحة العامة، إلى محاولة تلبية الفضول العام لدى الجمهور، وهكذا أسهمت في إحداث الطلاق بين الأخبار والإعلام، فلم تعد الأخبار تعني الإعلام مثلما كان الأمر منذ قرون خلت.

 

التاريخ: 10 10 2021

                                                                                                                   الرقم: L21/0

سعادة أ.د. نصر الدين لعياضي المحترم

تحية طيبة وبعد،،

يسرنا إعلامكم بإطلاق التقرير السنوي السادس لمعامل التأثير والاستشهادات المرجعية العربيارسيف Arcif للمجلات العلمية العربية للعام 2021 .

ومن الجدير بالذكر أن نتائج هذا التقرير السادس هي نتاج فحص ودراسة  بيانات ما يزيد عن ) 5100 ( عنوان مجلة عربية علمية أو بحثية في مختلف التخصصات، والصادرة عن أكثر من ) 1,400 ( جامعة وهيئة علمية أو بحثية. بالإضافة إلى دراسة  وفحص الإنتاج العلمي واستشهادات ( 196,000 ( مؤلفاً عربياً، نشرت أعمالهم عبر ) 504,000 ( مقالة أو دراسة منشورة في المجلات العلمية العربية في مختلف التخصصات الأكاديمية، وبلغ عدد المؤلفين المستشهد بمقالاتهم فيها ) 30,700  (  مؤلف اً.هذا ويخضع معامل التأثير “ارسيف Arcif ” لإشراف مجلس الإشراف والتنسيق” الذي يتكون من ممثلين لعدة جهات عربية ودولية : )مكتب اليونيسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية ببيروت، لجنة الأمم المتحدة لغرب اسيا )الإسكوا(، مكتبة الاسكندرية، قاعدة بيانات “معرفة”، جمعية المكتبات المتخصصة العالمية/ فرع الخليج(.  بالإضافة إلى لجنة علمية تضم خبراء وأكاديميين ذوي سمعة علمية رائدة من عدة دول عربية واجنبية.

وأظهرت نتائج تقرير معاملارسيف 2021 “، نجاح ) 877 ( مجلة علمية وبحثية، صادرة من الدول العربية، وبالإضافة الى 8 دول أوروبية واسيوية، تصدر فيها مجلات علمية باللغة العربية، في تحقيق معايير الاعتماد لمعامل التأثير “ارسيف Arcif “والمتوافقة مع المعايير العالمية.

أما على صعيد معايير اختيار المؤلفين الأكثر تأثيرا عربياً، تم اعتماد معايير إضافية جديدة وأكثر شمولية عن سابقاتها في هذا المجال، والتي استندت إلى بيانات ناتجة عن مسح ضخم ونوعي للإنتاج العلمي العربي للباحثين في العالم العربي. وتضمنت المعايير المعتمدة لاختيار المؤلفين الأكثر تأثيرا عربياً؛ أولا : إجمالي عدد الاستشهادات التي حصل عليها المؤلف. ثاني اً: عدد وتوزع الدول )النطاق الجغ ا رفي(  للباحثين المستشهدين بمقالات المؤلف. ثالث ا : عدد الاستشهادات الذاتية للمؤلف، وأخيرا ، معيار عدد المقالات المنشورة للمؤلف في مجلات معتمدة في “ارسيف”.

وبهذا الخصوص يسر قاعدة بيانات معامل التأثير “ارسيف Arcif ” إعلامكم بنجاح حضرتكم في الحصول على المرتبة 6 مكرر في مجال )الإعلام(  من إجمالي عدد المؤلفين ( 1400 ) المستَشهد بمقالاتهم في هذا المجال، ضمن أكثر من 196,000 )  ) مؤلف عربي تم دراسة ومراجعة استشهاداتهم المرجعية على المستوى العربي في مختلف التخصصات، وذلك من مجموع تقارير معامل “ارسيف Arcif ” التي تغطي الفترة 2012 2019 .

لمزيد من المعلومات حول معامل “ارسيف Arcif ” و معاييره و تقاريره، يمكنكم الدخول إلى الرابط  التالي: http://emarefa.net/arcif/ar /

وتفضلوا بقبول فائق الاحت ا رم والتقدير

أ. د سامي الخزندار

رئيس مبادرة معامل التأثير

ارسيف Arcif __                                                              

                                                                                وتفضلوا بقبول فائق الاحترام والتقدير

                                                                       أ. د سامي       لخزندار   رئيس مبادرة معامل التأثيرZone de Texte:                                                                                ارسيف Arcif 

                     

صحافة “الحلول”:  إشعال شمعة أفضل من لعن الظلام

نصر الدين لعياضي

لا غرو إن وصف مناصرو “صحافة الحلول”  solutions Journalism جائحة كرونا بالقول المأثور”  رب ضارة نافعة “. كيف لا وهم يرون أن المعنى الكامل لهذا الضًّرْب من الصحافة تجلى في ظل الإنزال الإعلامي الكثيف الذي حاول أن يواكب انتشار هذه الجائحة  وتداعياتها المخيفة. بالفعل لقد حظي كوفيد 19 بتغطية إعلامية مركزة ومتواصلة وغير مسبوقة في تاريخ وسائل الإعلام. فآلاف الأخبار والمواد الصحفية تنشر يوميا بكل اللّغات عن ارتفاع عدد المصابين بهذه الجائحة وأشكال انتقال عدواها والتدابير التي اتخذتها الدول للوقاية منها ، ناهيك عن المئات من البرامج الإذاعية والتلفزيونية وأشرطة الفيديو التي تتقاسمها وسائل الإعلام المسموعة والسمعية –البصرية ومواقع التواصل الاجتماعي الذي تتابع، دون كلّل، خريطة انتشار هذه الجائحة على الصعيدين المحلي  والعالمي: إحصائيات مخيفة عن تزايد عدد الوفيات، وشهادات مقلقة عن متاعب الطاقم الطبي في التكفل بالمصابين، وخطب السياسيين والأطباء المنذرة بالخطر القادم مع موجتها الثانية. باختصار، تلتقي كلّ هذه الأخبار والتصريحات والتحليلات الصحفية التي تتقاسمها وسائل الإعلام المختلفة في رفع منسوب القلق وربما اليأس في أوسط الجمهور. لقد ارتفع هذا المنسوب إلى درجة أن منظمة الصحة العالمية نصحت الناس بعدم الافراط في متابعة أخبار هذه الجائحة حفاظا على صحتهم العقلية لأنها تعلم أن الحجر الصحي، الذي طبق في العديد من بلدان العالم، يشجع الناس على متابعة الأخبار بشكل مكثف.

في هذا الجو المشحون بالقلق والخوف اتجهت بعض وسائل الإعلام إلى طمأنة الناس إن لم تبعث فيهم الأمل من خلال تقديم العديد من أمثلة التعاضد والتضامن في هذه المحنة الصحية.  واستعراض أشكال العون التي تقدم للمحتاجين سواء في شكل أقنعة ومحلول مطهر ومواد غذائية أو الاطمئنان على كبار السن الذين يعيشون منفردين وفي عزلة وقضاء حاجتهم من السوق. وسعت إلى تقصي الأخبار عن أخر التطورات في مجال العلاج الناجع في مقاومة الإصابة بعدوى كوفيد 19. إذ يمكن أن نذكر على سبيل المثال خبر شفاء العجوز الايطالية، التي تبلغ من العمر 95 سنة بعد إصابتها بجائحة كوفيد 19، الذي نشره موقع ” هافينغتون بوست”     Huffington Post  الإخباري ، وتناقلت صورها وسائل الإعلام المختلفة في العالم لبعث الأمل في المصابين الذين تزايد عددهم مع مرّ الأيام. ولشق طريق الأمل دائما راحت بعض وسائل الإعلام تدرس التجربة الفيتناميّة  التي قاومت جائحة كوفيد 19 بأقل الخسائر الممكنة. وأشادت بها منظمة الصحة العالمية. ليس هذا فحسب، بل حاولت فهم الخطة التي اعتمدت عليها كوريا الجنوبية والسويد في حماية مواطنيها من هذه الجائحة متمنية أن تستفيد منها بقية الدول الأوربية، التي ارتفع عددها ضحاياها.

إن السؤال المطروح هو كالتالي: هل تمثل الأمثلة التي ذكرناها أعلاه “صحافة “الحلول”؟

                                             ما هي صحافة الحلول؟   

بدأ مفهوم صحافة الحلول في التداول الواسع في الأوساط المهنيّة والأكاديميّة في 1996 على الرغم من أن ممارستها تعود إلى أكثر من عقدين. وتوصف بالصحافة البناءة ، وصحافة الأثر . ويقصد بها تلك الصحافة التي تقوم بتحليل المعلومات المتعلقة بالمبادرات التي تقدم إجابات ملموسة وعملية لمشاكل المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. ويقول “ألريك هايحروب” Ulrik Haagerup ، مدير الأخبار في الهيئة الدنمركية للإذاعة والتلفزيون العمومي ، ومؤلف كتاب : الأخبار البناءة الصادر في 2017، عن هذه الصحافة : ” بأنّها تحاول توثيق الصلة بجذور الصحافة وتمنح للناس رؤية دقيقة، قدر الإمكان، للعالم الذي نعيش فيه. فالمعالجة الإعلاميّة الحاليّة للأحداث تجعل الناس يؤمنون بأن العالم في حالة أكثر سوءًا مما هو عليه في الواقع. فصحافة الحلول لا تتجاهل المشاكل “. ويضيف قائلا : “إنّنا نريد من صحافة الحلول أن تكون أكثر مصداقية. تنظر إلى العالم بعينين أثنين. فتظهر الأشياء التي ليست على ما يرام لكها نستعرض أيضا تلك الأشياء التي يمكن أن تكون على ما يرام.”

إذا، إنّ صحافة الحلول ليست صحافة الشعور بالاكتفاء الذاتي ومداهنة الأشخاص والمؤسسات، والحديث بلغة ” ليس بالإمكان القيام بما هو أفضل مما هو موجود “. فوسائل الإعلام التي تقدم كل شيء بايجابيّة مطلقة تبيع الوهم . وتضرّ جمهورها بالقدر ذاته من الضر الذي تسبّبه وسائل الإعلام التي ترى كل شيء سلبيّا. فالصحافة تملك نظرة سوداوية للعالم، وتسحب النزعة السلبيّة على كل ما تذكره ، وتثبط عزائم الجمهور وتدفعه إلى اليأس من تحسين الأوضاع.

إنّ وجود صحافة الحلول لا يلغي دور الصحافة  كــ” كلب حراسة”. وهي الصفة التي ألصقها بعض الكتاب بما تقوم به وسائل الإعلام  في البلدان الغربيّة.  فالصحافة البناءة لا تنتج خطابا تندّيديًّا عبر ما تنشره ، بل تطرح المشاكل، وتكشف عن التحديّات، وتشير إلى الصعوبات لكنها تبرز في الوقت ذاته الإمكانات المتوفرة لتجاوزها، وتستعرض المبادرات والحلول. وإنّ لم تجد حلا فتكتفي بإبراز تجارب الصمود والمثابرة ومقاومة هذه الصعوبات. وتقدم برتريهات لأصحابها.

يرى البعض أن صحافة الحلول تستمد مقوماتها من علم النفس الايجابي ، والتي ترجمتها الصحافية الدنمركية  “كاترين غيلدنستد”، على الصعيد الممارسة بإضافة سؤال ” وماذا الآن ” إلى الأسئلة الخمسة الكلاسيكيّة المعروفة في صياغة الخبر الصحفي، وهي: من؟ متى؟ أين؟ ماذا؟ ولماذا؟  وهذا تعزيزا للمسؤولية الاجتماعية المنوطة بوسائل الإعلام.

                                                الضرورة

لم تعد الحاجة ماسة إلى استخدام صحافة الحلول فحسب، بل إلى ضرورية أيضا لتطويرها وذلك لجملة من الأسباب، نذكر منها استشراء النزاعات المسلحة المدمرّة في العالم، وتنامي الخوف من جنوح الدول إلى التسلح المفرط وتخزين الأسلحة النووية  ، وتفاقم آثار الاحتباس الحراري على البيئة، والتلاعب الجيني بالمواد الغذائيّة وتأثيره الخطير على صحة الإنسان ، وتزايد ظاهرة التصحر في الكرة الأرضيّة، وتفشي الأوبئة الغامضة وغير معروفة والتي لم يصل الأطباء والأخصائيون بعد إلى فك كل أسرارها، وتوالي الأزمات الاقتصاديّة التي ترافقها في الغالب حروب تجاريّة، وغيرها من المآسي التي تعجّ بها نشرات الأخبار في القنوات التلفزيونيّة، فتبعث على الكآبة والإحباط.

هذا إضافة إلى تنافس وسائل الإعلام من أجل تحقيق السبق الصحفي وتدافعها في نقل الأحداث بشكل مباشر لحظة وقوعها، مما يعيق فهم الصحافيين والجمهور لما يجري في العالم لأنه يُبثّ مجزأ ومبتور في نشرات الأخبار الإذاعية والتلفزيونية. فتنفخ في بعده الدرامي وتشحنه بالإثارة لتتلاعب بمشاعر الجمهور، وتتركه متأرجحا بين الخوف والذعر.

تؤكد ” دونيس بادن”، الأستاذة بجامعة ساوثهامبتون في بريطانيا والمختصة في علم النفس الإعلامي، بأن القراء يميلون فعلا إلى العناوين الصاخبة والمثيرة التي تخيفهم في الصحف ، لكنهم يدركون أن الصورة السلبية التي تنقلها وسائل الإعلام لا تعبر عن حقيقة العالم. وهذا الأمر يدركه جيدا الذين يعانون من التهميش والإقصاء ، مثل سكان ضواحي الحواضر الأوربية الكبرى من أبناء المغتربين وسكان العشوائيات وأحياء الصفيح من الزنوج وأبناء جنوب أمريكا في الولايات المتحدة الأمريكية الذين يقولون أن وسائل الإعلام الكبرى لا تتذكرهم إلا إذا حدثت جريمة في حيهم أو تم القبض على أحد أبنائهم الذي يمارس تجارة المخدرات أو أثناء مشاركتهم في أحداث الشغب. وتتجاهل الأعمال الخيرية التي يشاركون فيها، والمبادرات التي يقومون بها بين الحين والأخر من أجل تنظيف محيطهم وتهيئة الساحات لممارسة الرياضة أو الأنشطة الثقافيّة. وهذا التجاهل يذكرنا بما جاء في التقرير الذي أعده الأستاذ الإيرلندي” شون ماكبرايد” في 1981 عن الخلل العالمي في مجال الاتّصال والإعلام والذي بيّن فيه بأنّ بلدان العالم الثالث لا تظهَر في كبريات وسائل الإعلام العالمية إلا اذا اجتاحتها الفيضانات ونشب فيها نزاع عرقيّ مسلح أو عمّتها المظاهرات وأعمال الشغب أو تعرضت لزلزال قوي أو إعصار أو كانت مسرحا لانقلاب عسكري!

إن جنوح وسائل الإعلام إلى تقديم صورة غير دقيقة عن العالم الذي نعيش فيه قد أدى إلى تراجع ثقة الجمهور فيها بنسب متفاوتة من مجتمع إلى آخر. وتوجه هذا الأخير إلى مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تلفح هي الأخرى في تقديم صورة متوازنة عما يجري في المجتمعات “. هذا إضافة إلى أن تكنولوجيا الاتصال الراهنة قد غيرت قواعد الإنتاج والتوزيع الإعلاميين التقليديين. فأصبح بإمكان أي شخص أن ينشر ما شاء من أخبار غير موثوق فيها خاصة وأن المنافسة بين المنصّات الرقميّة تشجع على التعجيل في نشر الأخبار أولا، ثمّ التحري عن صحتها مع مستخدميها. وساهمت هذه الممارسة في تزايد الأخبار المزيفة التي تحدث بلبلة في صفوف المتابعين لمستجدات الأحداث التي يحمل بعضها قدرا كبيرا من القلق.

                                              تجارب   

يذكر المنافحون عن “صحافة الحلول” العديد من التجارب الرائدة ، مثل تلك التي خاضتها  صحيفة الغارديان Guardian  The البريطانية، التي أحتل موقعها في شبكة الانترنت المرتبة الثالثة عالميا في 2012 من ناحية عدد زوارها، بعد موقعي صحيفة ديلي مايل The Daily Mail  ونيويورك تايمز. لقد أنشأت صحيفة الغارديان ركنا اسمته : نصف مملوء « Half Full” في 2016 وحمل العنوان الفرعي التالي: “الحلول، والابتكارات، والإجابات” وذلك رغبة منها    في فتح المجال للتفاؤل والتأكيد على أن تغيير العالم نحو الأفضل يظلّ في نطاق الممكن. وقد ساهم هذا الركن في كسب عدد جديد من القراء الراغبين في الخروج من قتامة الأخبار.

وخاضت بعض القنوات التلفزيونية بعض التجارب المماثلة في نشراتها وبرامجها الإخبارية لتعيد النظر في بعض الصور النمطية التي التصقت ببعض البلدان، مثل مبادرات الفلاحين  في كولومبيا لتحويل حقول ” الكوكا”، التي يصنع منها مخدر الكوكايين و يُهرّب إلى الخارج، إلى مزارع الكاكاو الذي تصنع منه الشكولاتة . وربورتاجات عن أثيوبيا التي حرّرتها من صورة الجفاف والمجاعة التي التصقت بها ردحا من الزمن  لتفسر كيف أصبحت بلدا صناعيًّا حديثا جاذبا للاستثمارات، وذي طراز معماري معاصر. و ربورتاجات عن روندا التي تغلبت على آثار حربها الأهلية المدمرة لتصبح البلد النموذج في افريقيا في مجال التطور الاقتصادي والتنمية الاجتماعية ونظام الحوكمة  governance . والربورتاجات التي تنقل المبادرات التي قامت بها بنغلاديش لصد سيول الفيضانات التي كانت تغمر العاصمة داكا، وغيرها من المبادرات الإيجابية في العديد من مناطق العالم.

لا يفهم مما سبق أن صحافة الحلول تهتم بالشأن الخارجي فقط، بل إنها وُجِدت أساسا لمعالجة القضايا المحليّة من أجل تحرير المبادرات الفردية والجماعية ودفع المواطنين للاهتمام بالقضايا ذات الصلة بالشأن العام، مثل تلك التي ترمي إلى امتصاص البطالة، وتحسين ظروف المعيشة، ومكافحة التلوث وحماية البيئة، والوقاية من الأمراض، والقضاء على الأمية، وتمكين المواطنين من الثقافة والعلاج وغيرها.

لقد أضحت صحافة الحلول تقليدا راسخا في بعض المؤسسات الإعلامية ، فهيئة الإذاعة والتلفزيون الدنمركية تبث يوميا ربورتاجين وفق متطلبات هذه الصحافة. ودأبت الصحيفة السويسرية ”  تاغس أنزيغر” Tages Anzeiger ” على نشر مادة صحفية يوميا تنتمي إلى “صحافة الحلول”

لقد تحوّلت “صحافة الحلول” إلى حركة اجتماعية مدنيّة تستقطب الكثير من ممتهني العمل الصحفي والفاعلين في المجتمع المدني في أكثر من بلد. يمكن أن نذكر على سبيل المثال الجمعية الفرنسيّة المسماة ” مراسلو الآمال” التي تصدر منشورات ومواضيع تخدم فلسفة هذا الضرب من الصحافة. وقد امتدت هذه الحركة إلى العالم الافتراضي. حيث تم إنشاء منصّة رقميّة بعنوان” سبارك نيوز” “Sparknews”. وهي عبارة إنجليزية مركبة من كلمتين:  “نيوز” وتعني الأخبار، و”سبارك” وتعني التحفيز، أي الأخبار المحفزة على الفعل والنشاط. وهذا ما تحاول القيام به في نشاطها اليوم إذ دعت إلى تخصيص يوم  25 يونيو- حزيران- ليكون يوما عالميًّا لصحافة الحلول . وقد شاركت فيه 55 صحيفة عالمية في 2016  تم فيه تبادل نماذج من صحافة الحلول ونشرها مجانا ليطلع عليها القراء من مختلف البلدان. ويقول كريستيان دو بوسردون Christian de Boisredon الذي أنشأ هذه المنصّة في 2012، إنّنا نريد من الصحافيين أن يطرحوا على أنفسهم السؤال التالي: ألا يوجد أي طريق أخر ، حل أخر كلما تناولوا مشكلا أو قضية في كتابتهم الصحفية؟

لقد نشأت برامج إذاعيّة وتلفزيونيّة وصحف ومجلات في كنف حركة ” صحافة الحلول” مثل مجلة ” أسبك وريكا ” Usbek & Rica  الأسبوعيّة الفرنسيّة التي أصبحت تباع عن طريق الاشتراك فقط . وهذا ما أدى بالكثير من محترفي العمل الإعلامي إلى الاعتقاد بأن الصحافة البناءة ستخرج الصحافة ككل من أزمتها.

                                           المنقذة

لعل محترفي العمل الصحفي في فرنسا هم الأكثر تفاؤلا بمقدرة صحافة الحلول على معالجة أزمة الصحافة وهذا انطلاقا من النجاحات التي حققّتها بعض الصحف الفرنسيّة التي أوشكت على الإفلاس مثل صحيفة ” نيس ماتن” Nice Matin في 2014. يقول المسؤول على قسمها الرقمي إنّ توجهنا إلى صحافة الحلول رفع عدد المشتركين في موقعنا في شبكة الانترنت من 2000 إلى 6000 وأن شريط الفيديو الذي تم بثّه عبر موقع الفيسبوك، والذي شرحنا فيه كيف أن مدرسة في فرنسا استطاعت أن تقلّل من نفايتها بنسبة 80% قد شهده أكثر 1.7 مليون شخص، وتم تقاسمه 30 ألف مرة!

واستطاعت صحيفة ” ليبراسيون” الفرنسية رفع عدد مبيعاتها في السوق بنسبة 24% وهذا بفضل ما تنشره من مواد تصب في خانة صحافة الحلول. وقد برهنت هذه التجارب وغيرها بأن سعر الإعلانات التي تنشر أو تبث في الربورتاجات التي تندرج في الخانة ذاتها تكون في الغالب أغلى من مثيلتها التي تبث في بقية البرامج.

إن القول بأن ممارسة الصحافة البناءة تشكل مخرجا للصحافة من أزمتها العامة يحتاج إلى نقاش معمق لأنه يحمل قدرا كبير من التفاؤل. فسُّنُونو – خُطّاف- واحد لا يصنع الربيع كما يقول المثل الفرنسي.

 

التحديق في صحافة “النّظرة الخاطفة “

 نصر الدين لعياضي

لازالت تكنولوجيا الاتصال وتطبيقاتها في مجال الإعلام تفاجئنا بكثرة المصطلحات والمفاهيم التي تسعى إلى توصيف ما ترتب عنها في مجال الممارسة الصحفية. مفاهيم تبدو أنها متعارضة رغم كونها ولدت في البيئة الرقميّة ذاتها. فمن الصحافة المتأنية Slow Jounalism”” مرورا بصحافة البيانات، وصحافة المصادر المفتوحة، والصحافة التساهمية وصولا إلى إلى صحافة النظرة الخاطفة “”Glance Journalism

تعرف الباحثة بلج نرين صحافة ” النظرة الخاطفة”  بأنها ” شكل من السرد الذي  يُنْشر عبر الساعات الذكية  ويستند أساسا إلى عناوين الأخبار وتحديثها التلقائي. إنها نمط جديد من الممارسة الصحفية التي ترتكز على نشر الأخبار في بضع كلمات”. وتضيف قائلة:  تمثل صحافة “النظرة الخاطفة” طريقة جديدة في نشر الأخبار بسرعة مستخدمة الكلمات المفتاحية، والتنبيه الصوتي أو اهتزاز الساعة الذكية كنمط من التكنولوجية المحمولة”

ويعرفها الصحافي الأمريكي روبرت موران (Robert Morin ) بأنها تلك التي تبث/ تنشر المحتويات الإخبارية لتلبية حاجات الأشخاص الخاصة في الظرف الحالي: محتويات إخبارية قصيرة، بل أقصر من التغريدات  التي ترسل عبر موقع شبكة تويتر . هذا على الرغم من أن عدد كلمات التغريدة لم تزد عن 140 كلمة قبل 2017.  لذا سارع الصحافي الفرنسي “فرنسوا أوشترير” ( François Auchatraire ) ، الذي يساهم بكتاباته في منشورات مرصد وسائل الإعلام بفرنسا، إلى توجيه كلمة وداع إلى موقع شبكة تويتر  في العام 2015 ، معتقدا أن مكانة هذا الأخير ستتراجع أمام تزايد الاقبال على صحافة “النظرة الخاطفة” بعد اهتمام وسائل الإعلام المختلفة الكبير بها لتصبح المشارك النشيط في إنتاجها.

                                       تداعيات الساعة الذكيّة    

إذا، اقترن مفهوم  صحافة “النظرة الخاطفة” لدى مستخدمي شبكة الانترنت وصناع المحتوى الرقمي والباحثين في علوم الإعلام والاتصال بنزول الساعة الذكيّة التي أنتجتها الشركات التالية: ” آبل” “”Apple ، وسامسونغ Samsung””، وميكروسوفت “Microsoft” إلى السوق بكميات كبيرة  في السنة 2014. ووُصِفَت هذه الساعة بالذكيّة لكونها تشتغل ككمبيوتر مصغر يثبت في المعصم  كأي ساعة لكنها مزودة بـــنظام “البلوت توث”  Bluetooth” وتتواصل عبر شبكة الانترنت بفضل نظام ” الواي في” ”  Wi-Fi“. وتتوفر على تطبيقات تسمح لها بقراءة مختلف الملفات الرقمية: شرائط الفيديو، والصور، والنصوص المكتوبة، والموسيقى.  وبهذا يتمكّن مالكوها من متابعة الأخبار القصيرة المختلفة التي تظهر على شاشتها بمجرد القاء نظرة سريعة عليها.

تعتبر صحافة ” النظرة الخاطفة ” ضربا من الصحافة المصغرة Micro journalism” ” التي دشّنتها الأخبار العاجلة التي توزعها القنوات التلفزيونية الإخبارية على زبائنها عبر رسائل نصية قصيرة ” SMS” ؛ أي أخر الأخبار الآنية في المجالات التي يفضلونها : سياسة دولية، ورياضة، وثقافة، وعلوم، مقابل رسوم زهيدة.  وعزّز موقع شبكة تويتر مكانتها باختزال الأخبار في عدد قليل من الكلمات، وزودها برابط إلكتروني. وقد نقلت عنه مواقع شبكات التواصل الأخرى، مثل “الفيسبوك” و”سنا بشات” هذه التجربة.

هل اطلع مسؤولو  موقع شبكة الفيسبوك على كلمة الوداع المذكورة  أعلاه بعد زيادة انتشار صحافة ” النظرة الخاطفة”؟ لا احد يدري. لكن  المؤكد أنهم ابتكروا خدمة جديدة سميت بــــ ” إبلاغ” ” Notify ” التي انطلقت يوم 12 نوفمبر ( تشرين الثاني) 2014 . والتي تقترح على مستخدمي هذا الموقع  إبلاغهم بما يجري من أحداث عبر طائفة من الأخبار المختلفة حسب مجالات اهتماماتهم.

                                         التسارع

سارعت شركة ” ياهو أنس” Yahoo Inc إلى اقتناء أربع تطبيقات مخصوصة لساعة آبل الذكية Apple Watch،  بما فيها تلك التي تبث ملخصات للأخبار مع تحديثها كل ساعة بموجز لأبرزها. وتطبيقات مخصوصة للأخبار الرياضية وأحوال الطقس. وحذت حذوها قناة “سي أن أن” CNN الأمريكية، والإذاعة العمومية الأمريكية NPR  ثم توالت المؤسسات الإعلامية التي ساهمت في

إنتاج المحتويات الإخبارية القصيرة الموجهة خصيصا للساعات الذكية؛ فاسهمت في تطوير  صحافة “النظرة الخاطفة”. ويقارب عدد هذه المؤسسات المائة ، معظمها أمريكية:  قنوات تلفزيونية إخبارية تجارية شاملة، وأخرى متخصصة في الأخبار السياسية والرياضة والترفيه والمودة والزينة والمال والأعمال والديكور، نذكر على سبيل المثال قناة  سي بي أس سوبورتس “CBS Sports “، وفوكس نيوز Fox News وفوكس سبورت Fox Sports، وقناة ” أي بي أس” ABC”…  وقد حذت كبريات الصحف والمجلات في العالم حذو هذه القنوات، نذكر منها: ” هو ليود ربورتر ” The Hollywood Reporter، و هافينغتون بوست” Huffington Post” ، والواشنطن بوست Washington Post، ،  والتايمز” “The Times وتيويوك تايمز، The New K York Times،  ومجلة ” ماري كلير” Marie Claire” النسوية،  و مجلة ” آل ديكور”  Elle Decor” وغيرها. وحتى الوكالات الإعلامية المتخصصة، مثل ” غيتي إيمج” ” Getty Images” المتخصصة في الصور في مختلف المواضيع والنشاطات ساهمت بدورها في تموين الساعات الذكية بالأخبار المصورة.

إن تهافت العديد من المؤسسات الإعلامية على تزويد  الساعات الذكية بالأخبار يهدف إلى ما كانت تصبو خدمة إبلاغ” ” Notify ” إلى تحقيقه،  والمتمثل في تمتّين علاقتها بجمهورها الملتصق بالأحداث على مدار اليوم . وتعزيز مثابرته على متابعة ما تنشره أو تبثه، وترسيخ علامتها التجارية لدى الجمهور. إذ يذكر أن موقع شبكة الفيسبوك منح لهذه الوسائل الإعلامية بيانات تتعلق بعدد المشتركين في هذه الخدمة، وعدد الذين الغوا اشتراكهم فيها،  وعدد الكبسات على الأخبار التي نشرها ” إبلاغ”،  وغيرها من البيانات التي وظفتها وسائل الإعلام في إعداد استراتيجيتها بغية رفع حصتها من عائدات الإشهار.  لذا لم تتردّد وكالة الأنباء الفرنسية في الحكم على صحافة “النظرة الخاطفة”، في برقيتها المؤرخة في 20 أبريل- نيسان- 2015، بالقول أنها تشكل اتجاها جديدا في الصحافة المعاصرة. وذلك لخصوصيتها: الآنية والسرعة المفرطة في نقل الأخبار بعناوين ذكية ومختصرات لأبرزها. ولم تتأخر صحيفة نيويورك تايمز New York Times في التأكيد على أن التطبيقات الرقميّة الموجهة للساعات الذكيّة ستقدم ” شكلا جديدا من السرد الصحفي” يشارك فيه الناشرون في قارات العالم.

البركة في القليل

  يتجنب المنافحون عن الساعات الذكية وإسهامها في صحافة ” النظرة الخاطفة” الحديث عن عامل المنافسة في صناعة الساعات التي وصلت إلى الكساد. ولم تجد منفذا لها إلا في الاستثمار في مجال التكنولوجيا الرقميّة. وينطلقون في الحديث عن مزاياها. فـــ “ماريو غارسيا” ) Mario Garcia (، على سبيل المثال، الأستاذ بمعهد “بويتي” (Poynter  ) للدراسات الإعلامية  بفلوريدا – الولايات المتحدة الأمريكية-  يرى أن المرء قد يجد صعوبة  في إخراج هاتفه الذكي في ميترو نيويورك المكتظ بالمسافرين قصد الاطلاع على الأخبار المستجدة ، بينما بإمكانه فعل ذلك بمجرد القاء نظرة على ساعته.

ويؤكد بأنّ أنماط تلقي الأخبار قد تغيرت بتعدّد منصات الإعلام و حوامله. فالشخص يطلع على هاتفه الذكي 100 مرة في اليوم بينما ينظر إلى ساعته ما بين 300 و500 مرة في المدة ذاتها. هذا إضافة إلى أن الاطلاع على الأخبار عبر الساعة الذكية يتم دون الكبس على أي إيقونة. وخلافا لما يعتقده البعض يرى مناصرو صحافة ” النظرة الخاطفة” أن عدم الكبس هذا لا يعني بتاتا قلة اكتراث صاحب الساعة بالأخبار التي تصله.

قد يجد الشباب، جيل مواقع شبكات التواصل الاجتماعي أو ما أصبح يعرف بجيل “زد” Z” سعادته في هذه الساعة. وهذا ليس لكونه ولوع بكل مبتكر تكنولوجي جديد بل لكونه شغوف بالقيام بأكثر من نشاط في الوقت ذاته. فالساعة الذكية التي تقدم له الأخبار على مقاس رغباته وميوله، تسمح له بمتابعة أخبار مدينته وفريقه في كرة القدم وهو يأكل أو يتابع دروسه في المدرسة أو في مدرج الجامعة. لقد كان يفعل ذلك في هاتفه الذكي عبر المنصة الرقميّة ” فيفو ” Vevo” التي تقدم له أخبار مغنيه المفضل.

إن ضيق مساحة النشر والسرعة المفرطة في نقل الأخبار أثرا على قالب صياغة الأخبار. لكن من يتابعها على شاشة ساعته الذكية يعثر على ما يريح نظره ويجذبه : وفرة أشكال مختلفة من أبناط الحروف ، وإمكانية تكبيرها … ويلبي حاجته في ظل كثرة انشغالاته التي تفرض عليه تخصيص أقل مدة زمنية لمتابعة الأخبار إذ تقدم له ملخصات وجيزة للأحداث التي تُحَيّن كل ساعة، وأخبار مركزة بأقل عدد من الكلمات…  لذا تعدّدت مسميات هذه الصحافة، فالبعض أطلق عليها مسمى ” نيترون الأخبار” لكونها تنقل جزيئات صغيرة من الأحداث. والبعض اسماها ” ميكرو الملخصات الإخبارية”. بينما وصفها بعضهم باستعارة لافتة للنظر مثل: قصص كبيرة في حيز صغير” ، والكثرة في القليل” التي نسجت على منوال القول العربي المأثور” البركة في القليل”.

                                           الوجه الآخر  

لم تشفع كل هذه الاستعارات لصحافة ” النظرة الخاطفة  وتخّفف من حدّة النقد الذي وُجه لها، والذي ينطلق مما أشارت إليه الصحافية وعالمة الانتربولوجية الاجتماعية، جليان تيت Gillian Tett. لقد أكدت بأنه من المهم استيعاب كيف يستهلك المرء الأخبار وليس كيف يلقي نظرة على معطياتها.

إن السرعة والآنية اللتان كانتا مبتغى مختلف وسائل الإعلام في عصر التكنولوجيا التناظرية لتحقيق السبق الصحفي تحولتا اليوم إلى نقمة على الصحافة، خاصة تلك التي نحن بصدد الحديث عنها! إذ يبدو أن نشر المزيد من الأخبار تحت ضغط السرعة أضحى غاية في حد ذاتها. النشر الذي يتم في الغالب دون التأكد من صحة الأخبار.

وأنتج ضيق مساحة النشر أخبارا مجزأة وناقصة أحيانا إن لم تكن مبتورة ، وبالتالي لا تساعد الجمهور على أخذ فكرة كاملة على ما يجري حوله، ناهيك عن استيعابه. وهذا ما أدى بالكثير من الباحثين إلى وصف صحافة النظرة الخاطفة بالصحافة السطحية والمبتذلة . وحمّلوها مسؤولية” ماكدونالدزة ” McDonaldization” الصحافة، أي أنها تفعل في العمل الصحافي ما فعلته شركة “ماكدونالدز” في الأكل.

إن السرعة تولد النسيان والأحداث التي تنقل بعجالة وتستهلك في أقل من ثانية أو بمجرد النظر إلى عنوانها أو كلماتها المفتاحية تتحوّل إلى مجرد فقّاعات تَنْفَقِئُ سريعًا دون أن ترسّب في الذاكرة. قد يحاجج البعض بالقول أن صحافة “النظرة الخاطفة” أو الصحافة المصغرة هي سمة عصر السرعة واللهث وراء الآني دون تريث، وملاحقة ما سيأتي قبل وقوعه. إنه عصر ما بعد الحقيقة. إن خطورة هذا القول لا تكمن في نزعته التبريرية فحسب، بل في التفسير الذي يقدمه الباحثون في العلوم الاجتماعية والفلاسفة لما بعد الحقيقة أيضا. إذ يؤكدون بأنها تعني الاحتكام إلى المشاعر والعواطف بدل الرجوع إلى الوقائع والأحداث. والاقتناع بأن مستقبل الصحافة ككل سيتحدّد على ضوء مدى انتشار صحافة ” النظرة الخاطفة ” يعني التسليم بأن لا مستقبل للأخبار سوى ” المشخصنة، أي التي تنتقيها الخوارزميات وفق رغبات وميول كل شخص. ومعنى هذا أن الشخص يتلقى ما يساير قناعته وذوقه من الأخبار ضمن اهتماماته الأساسية. فيصبح سجينا لها وينغلق على ذاته. وتعزّز رفضه لكل ما يخالفه رأيه أو يفتح له أفقا جديدا للنظر إلى الواقع من زاوية معايرة، أو يغير ذوقه. فصحافة ” النظرة الخاطفة ” تهمش الأخبار التي يشترك فيها أبناء المجتمع الواحد،  مما يعسر عملية العيش المشترك والقبول بالاختلاف في الرأي.

في انتظار “الميديا” المتأنية

نصر الدين لعياضي

من كان يدري أن حركة الاحتجاج التي قادها المواطن الايطالي” كارلو بيتريني” على افتتاح مطعم ماكدونالدز في ساحة ” سبنا” بروما في العام 1986 ستؤدي إلى ميلاد حركة دولية مناهضة للوجبات السريعة أو بالأحرى الأطعمة السريعة. وينظم إليها المثقفون والفنانون وعلماء الاجتماع ومزارعون. وتعترف بها الأمم المتحدة في 1989؟ لم يكن أحد يتنبأ في تلك السنة أن هذه الحركة التي اتخذت من الحلزون، رمز البطء، علامتها المميزة Logo تتحول إلى تيار فكري وفلسفي يتعدى الدعوة إلى العودة إلى الطبيعة في إنتاج المواد الغذائية وطبخها واستهلاكها. ويمتد إلى العديد من الميادين، مثل السفر، والعلاقات العامة، والأخبار، والصحافة، والتلفزيون، والميديا بصفة عامة.

لقد لاحظ الكثير من المختصين أن الانتقال إلى العصر الرقمي قد ضاعف كمية المعلومات والأخبار   وعجل في تدفقها وسريانها في أرجاء الكرة الأرضية. فالباحثة الفرنسية المختصة في إدارة المعلومات في الشركات، كارولين سوفجول-ريالوند، ترى أن عدد الأخبار يتضاعف كل أربع سنوات، وأن البشرية أنتجت من المعلومات عددا من الأخبار في السنوات الثلاثين الأخيرة ما يتجاوز ما أنجزته طيلة 5 ألاف سنة من تاريخها!

تخّمة الأخبار

يعتقد البعض أن كمية الأخبار المتداولة بين البشر ما انفكت في التزايد قبل ميلاد العصر الرقمي. فالباحث الأمريكي في العلوم الاجتماعية ” برترام ميرون”، ابتكر مفهوم ” الافراط في الأخبار” في 1962. وقد وظفه عالم المستقبليات الأمريكي ” آلفين توفلرفي كتابه المعنون بــ ” صدمة المستقبل” لتحليل تأثير التكنولوجيا على إدارة المؤسسات وعلى السلوك الاجتماعي. ولعل المفهوم الأكثر دقة ودلالة على ضخامة الأخبار التي تطفح عبر مختلف الحوامل الرقمية في العصر الراهن هو ” البدانة الإعلامية” infobesity  الذي ابتكره الكاتب والسينمائي الأمريكي ” دافيد شنك” في  مؤلف بعنوان: ضباب البيانات الدخاني: النجاة من تخمة المعلومات، ونشره في  1993. ويمكن تعريف هذه البدانة بكمية الأخبار والمعلومات  الرهيبة التي تصلنا عبر مختلف الوسائط التقليدية والحديثة بشكل آني ومتزامن ومتواصل، فتصيب الفرد بالتخمة. لقد بلغت هذه التخمة درجة أن 60  %من الأشخاص يتقاسمون المقالات التي تصلهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون أن يقرؤونها، حسب الدراسة التي قامت بها جامعة كولومبيا الأمريكية  وأصدرتها بمعية المعهد الوطني للبحث في علوم التكنولوجيا الرقمية الفرنسي  وقدمت صحيفة “الواشنطن بوست ” يوم 16 يونيو 2016 ملخصها. إن كانت التخمة تحول دون ابتلاع الأخبار فلا مجال للسؤال عن عملية هضمها؛ أي ترتيبها وفق نظام من الأولويات لأنها تتضمن الغث والسمين والمهم والتافه، وادراك معناها، وتذكرها. حقيقة أن قدرات الانسان الذهنية والعقلية التي تؤهله للاحتفاظ بالمعلومات لفترة طويلة وتذكرها متفاوتة، وتختلف من شخص لأخر، لكنها تظل محدودة في نهاية المطاف. فالتخمة الإخبارية لا تنهك الذاكرة فقط، بل تشتت أيضا الانتباه وتضعفه.

مفارقة

إن التغيير المتسارع في الإنتاج الإعلامي أدى إلى تراجع التقاليد الصحافية حيث اضطرت الكثير من الصحف إلى إنتاج أكبر عدد ممكن من المواد الإعلامية بأقل عدد من المهنيين لمواجهة الأزمة التي تعيشها  لقد وجدت وسائل الإعلام نفسها مضطرة إلى ركوب موجة التكنولوجيا الرقمية لمنافسة ” الميديا الجديدة” في أرضية ليست لصالحها: أرضية الآنية، والسبق الصحفي دون التأكد من مصدر الأخبار، والسعي للحصول على أكبر عدد من المتابعين والمعجبين بكبسة على الأيقونة قصد الحصول على أكبر نصيب من الإعلانات. ففي هذا الإطار يقول مؤسس المجلة البريطانية ” ديلايد غراتفيكشن”Delayed Gratification ”  ) الإشباع المتأخر ( إننا انتقلنا من شراء منتجات مادية بفضل الإعلانات التي تنشرها وسائل الإعلام إلى نموذج إعلاني خالص. يتمثل في التحريض على نشر المحتويات المستفزة، والتي تتسم بالإثارة الخالية من أي قيمة مضافة أو إبداع، مجانا للحصول على المال مع إدراج الإعلانات الغازية : شرائط الإعلان المنبثقة في الشاشة بشكل فجائي، وفيديوهات إشهارية مبرمجة آليا، وغيرها.

ظهرت ” الميديا المتأنية” في 2009  لمعالجة المفارقة الكبرى التي أصبحت تعاني منها البشرية: ففي الوقت الذي تزايدت فيه الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والطبية والمناخية تعقدا، اتجهت ” الميديا”، بمختلف أنواعها، إلى التبسيط الذي يخل بالفهم، وإلى التسطيح الذي يتماهى مع التتفيه ، وإلى الكتابة المستعجلة القائمة على الصور النمطية والكليشيهات على حساب التروي والتأمل. فالجمهور لا يهمه معرفة من هي الوسيلة الإعلامية التي سبقت غيرها في نقل خبر انتخاب فلان في هذا البلد أو ذاك. فما يهمه حقا هو الشرح الذي يفسر له أهمية هذه الانتخابات وتأثيرها على حياته بشكل مباشر أو غير مباشر، وما ينتظر بلده منها.

ما هي الميديا المتأنية؟

تُعرف الصحافية “إميلي موغي” العاملة في الموقع الفرنسي في شبكة الانترنت” كاتر أور”Quatre heures ” أي ” أربع ساعات”، هذا الضرب من الميديا بأنه نوع من الاتفاق الذي يبرمه الناشر مع القارئ. إنه أكبر من دعوة إلى القراءة بل انغماس في الأحداث، يمثل قطيعة مع إيقاع الإنتاج الإعلامي وتوزيعه. وتقول عنها الصحافية  ” كلير برثليم ” من المجلة  الرقمية الفرنسية ” لانبريفي”  l’imprévu”” أي غير المتوقع”   أنها تتطرق إلى المواضيع التي تمر عليها وسائل الإعلام الكلاسيكية مرور الكرام.  تعالجها بعمق وتحللها: القضايا القضائية، والكوارث الطبيعية، والنزعات الاجتماعية؛ أي كل القضايا التي تبرزها وسائل الإعلام لفترة فتثير زوبعة من ردود الفعل، ثم تنصرف عنها بسرعة وتطوى في غياهب النسيان.

يعتقد البعض أن مسمى ” الميديا المتأنية” يحيل إلى المدة الزمنية التي تُصرف في إنتاج ما تبثه أو تنشره. وهذا خلافا لوسائل الإعلام التقليدية التي تسعى إلى تغطية أكبر عدد من الأحداث والموضوعات في أقصر فترة زمنية ممكنة وبطريقة سطحية. فالميديا المتأنية تشرك الكتاب والمثقفين والفنانين والباحثين في الكتابة عن الموضوعات المختلفة من وجهات نظر متنوعة تتضمن طائفة من الأفكار المتعددة. أنها تنأى قليلا عن الأحداث الطارئة والملتهبة  لتنظر إليها مليا وبتأمل من أجل إنتاج نصوص لا تموت في لحظة إنتاجها. ويمكن العودة إليها بشغف بعد أشهر. لذا نلاحظ أن الصحافة المتأنية استثمرت في الأنواع الصحفية التعبيرية والاستقصائية المطولة، مثل الريبورتاج، والتحقيق الصحفي، والبورتري. وأعادت المجد للسرد الصحفي الذي يعتبر أفضل وسيلة لاستعادة الذاكرة الجماعية وبعث الحياة في أحداث الماضي. لقد ابتكرت الصحافة المتأنية شكلا جديدا من الإنتاج المكتوب وهو ” موك”. وهذه الكلمة عبارة عن تركيب لمختصر الكلمتين الانجليزيتين: ماغازين”« magazine المجلة،  وبوك، أي كتاب. وأبرز مثال على ذلك هي المجلة  الفرنسية الفصلية  المسماة ” XXI “ التي تصدر في 256 صفحة. وتباع في المكتبات. وهي في الحقيقة نموذج متطور للمجلات الصادرة باللغة الانجليزية، مثل ” ذو نيويوركر”  The New Yorker ، و” أمبير” Empire .”

إعادة النظر

إن الميديا المتأنية” تعيد النظر في علاقة الوسيلة بالجمهور لأن مادتها الإعلامية لا تسلك اتجاها أحاديا: من الصحافي إلى الجمهور. ولا تعتبر هذا الأخير قاصرا أو دون مستوى، بل تتعامل معه كصاحب تجربة اجتماعية، ويملك خبرة في مجال معين. ويمكن أن يكون طرفا في عملية إنتاج موادها. وقد تلجأ بعض وسائل الإعلام التي تنتمى إلى هذا النوع من الميديا، مثل الموقع   الهولندي ” دو كرسبوندن” De Correspondent ، أي ” المراسل” في شبكة الانترنت إلى عرض بعض مقالته على متابعيه  قبل نشرها!

ويمكن أن نذكر بالمناسبة أن هذا الموقع يشكل النموذج الناجح لهذا الضرب من الميديا الذي حقق ما وعد به: إحداث القطيعة مع اقتصاديات وسائل الإعلام الكلاسيكية . فلا ينشر أي إعلان ولا يعتمد على المعلنين في تمويله، بل يستند إلى جمهوره فقط. لقد استطاع أن يجمع خلال أسبوع واحد مليون يورو، تبرع بها 15 ألف مستخدم لشبكة الانترنت. ولازال هذا الموقع يجذب 30 مشتركا جديدا يوميا. وتؤكد إحدى صحافيته، “ماييك غوسانغا” أن ثلاثة أرباع من المشتركين الجدّد يظلون أوفياء للموقع بعد مرور سنة على اشتراكم.

قد يتبادر إلى ذهن القارئ الكريم أن هذا الضرب من الميديا يروم النوع وليس الكم، ولا يسعى ليكون جماهيريا. فهل هذا يعني أن جمهوره نخبوي؟ لا يفضل رواد ” الميديا المتأنية” صفة النخبوية، وإن كانوا يعترفون أن الصحافة غير المجانية تتطلب من القارئ، الذي تعود على المواد الصحفية المختصرة والمبسطة التي تنشرها الصحف المجانية أو مواقع التواصل الاجتماعي، بعض الجهد. وبهذا يؤكدون ما قاله مؤسس صحيفة “لوموند” أي ” العالم” الفرنسية،” هربرت بوف ميري”، ذات مرة، بأن ثمن جريدته يكمن في سعرها في السوق إضافة إلى الجهد الذي يبذل في قراءتها!

مبادئ

إن ” الميديا المتأنية” فلسفة قبل أن تكون منتجا. هذا  ما أكده البيان الذي أصدره بعض مناصريها الألمان في يناير 2010، وصاغوه في جملة من المبادئ. وترجمته الصحافة الانجلوساكسونية ، والفرنسية والسويسرية  والكندية. لكن لم نعثر، مع الأسف، على أي ترجمة له في الصحافة العربية. لذا نحاول أن نختصرها في النقاط التالية: تساهم هذه الميديا في ديمومة المحتوى خلافا للمقولة التي تنص على أن المادة الإعلامية، مثل الأخبار شديدة التلف، تموت بسرعة. وتشجع التركيز على المنتج والمتابعة في زمن يمجد السرعة ويعزز تشتت الذهن وانصرافه إلى الاهتمام بأكثر من شيء في الوقت ذاته. وتروم التميز، والجودة التي يمكن التماسها على مستوى المحتوى والإخراج. وتسعى إلى جعل الجمهور شريك في مسار الإنتاج بأفكاره وآرائه. وتعد الميديا المتأنية خطابا يغذي الحوار مع الجمهور.

تعددت التجارب الصحفية منذ 2009 ، تاريخ ميلاد ” الميديا المتأنية، لتشكل اليوم نماذج. فإضافة إلى مجلة XXI   التي ذكرناها أعلاه، والتي توزع 22 ألف نسخة  وتهتم بالشعر والأدب وتترجم الكثير من النصوص من المجلات الصادرة باللغة الانجليزية،  يمكن أن نذكر المجلة  الفصلية ”  Delayed Gratification   الإشباع المتأخر” البريطانية التي صدرت في 2011. والتي تغطي الأحداث والقضايا التي طرحت خلال الفصل بنظرة مغايرة وبأشكال تعبيرية ومرئية مختلفة. تباع في العديد من بلدان العالم. و المجلة الفرنسية  ” فيتون” التي صدرت في 2011 والتي طورت أشكال السرد الصحفي. إنها تسحب عشرين ألف نسخة توزع في فرنسا وبلجيكا وسويسرا وكندا.

التلفزيون المتأني

لم يتأخر التلفزيون عن تيار ” البطء” الذي يسعى إلى إعادة النظر في إنتاج الإعلام واستهلاكه. فالقناة التلفزيونية النرويجية ” أن أر كيو” NRK ” نصبت كاميرا في مقدمة القطار الذي يربط العاصمة ” أسلو” بمدينة ” بيرغت” على مسافة 500 كلم في 2009 . وبثت ما صورته لمدة سبع ساعات.  وجمعت 1.2  مليون مشاهدا، أي ربع السكان. وقد شجعها هذا النجاح على إعادة التجربة في رحلة بحرية بثت لمدة خمسة أيام، وتابعها 3,2 مليون مشاهد. وفي فرنسا خاضت القناة الرابعة تجربة مماثلة بعنوان ” طوكيو، الاتجاه المعاكس”  الذي يسرد رحلة من طوكيو إلى فرنسا. لكنها لم تجمع سوى 1,4 مليون مشاهدا خلال تسع ساعات من البث. لكن الغريب أن بعض الصحافيين الفرنسين أكدوا أن هذا البث لفت نظر رواد موقع تويتر فأرسلوا 13 ألف تغريدة عنه. وكان عددهم أكثر من الذين غردوا على تعيين “مانويل فالس” الذي عين رئيسا للحكومة الفرنسية في اليوم الذي بث فيه هذا الشريط.

هل أن التلفزيون المتأني يختلف عن التلفزيون الكلاسيكي  في طول المدة الزمنية التي يستغرقها بث مواده؟ إن كان الأمر كذلك فالكثير من البرامج  انزاحت عن المعايير المعروفة والمعتمدة في إنتاج المواد التلفزيونية، وهي 20، و52، و90 دقيقة. فبرامج تلفزيون الواقع، على سبيل المثال، كانت السباقة في هذا المجال.  للإجابة عن هذا السؤال يؤكد  بوريس رازون، مدير الكتابات الجديدة في التلفزيون العمومي الفرنسي قائلا: إن تلفزيون التأني لا يقول للمشاهد ما هي الأشياء التي يجب أن تفكر فيها.  فخلافا لبرامج تلفزيون الواقع، لا يتضمن في تلفزيون التأني سيناريو، ولا أدوارا سردية. إنه يعبر عن الأصالة. فالوقت الذي يقضيه المشاهد أمام الشاشة هو الزمن الحقيقي.

خلافا لما يعتقد، إن حركة التأني تنمو أيضا في حضن شبكة الانترنت التي تتميز بالسرعة. فالربورتاجات المتلفزة وأفلام الواب الوثائقية التي تستغرق وقتا طويلا لمشاهدتها بدأت في الانتشار. فالمواقع مثل ” نيوز دوت كم” News.me”، و ” بريف دوت مي ” Brief.me” وغيرها تنتقي من الأحداث والأخبار التي يعتقد أنها أكثر أهمية وتسلط عليها الأضواء.  ليس هذا فحسب، بل بدأت الكثير من التطبيقات الرقمية التي تسمح بتأجيل قراءة المواد الصحفية  في الانتشار لتضاف إلى التلفزيون الاستدراكي  والمشاهدة بأثر رجعي والتي تبين أن للمرء حياة أخرى وليس سجين شبكة الانترنت ومنصاتها الرقمية.

أخيرا، متى يحن موعد انطلاق ” الميديا المتأنية” في المنطقة العربية؟

 

العلّة في التفاصيل

نصر الدين لعياضي

يقول المثل الإنجليزي إنّ العلّة، وليس الشيطان، في التفاصيل. لذا سأحكي لكم القصة كلها. وأعذروني إن اثقلت عليكم بتفاصيلها لأن العبرة في العلّة.

كان الهاتف الجوال يرن بإلحاح. فاضطررت إلى ركن سيارتي على حافة الطريق لأن المتصل يهتف من رقم ثابت. وذاكرة هاتفي تخلو من مثل هذه الأرقام.

جاء الصوت من بعيد حتّى خلته قادما من أعماق الأرض.

ألو  ألو….. هل أنت السيد… ؟

نعم تفضلي.

أستاذ الإعلام؟

نعم مرحبا بك…

أنا السيدة ….. أكلمك من ديوان وزارة الاتصال.

أهلا بك…

لعلك تعلم أن الوزارة دأبت على تنظيم سلسلة من المحاضرات للصحافيين عن أخلاقيات الإعلام. واسمك تردّد كثيرا في أروقة الوزارة من أجل المساهمة فيها. لكننا أجلنا دعوتك لأنك قريب منا. ومنحنا الأولوية للأساتذة البعيدين ؛ أي المقيمين خارج الوطن. وها نحن اليوم ندعوك لتقديم محاضرة عن أخلاقيات الإعلام.

شكرتها على الالتفاتة الكريمة. وعبرت لها عن استعدادي لتقديمها. وأوضحت لها أن موضوع الأخلاقيات أصبح مستهلكا. وليس لدي ما أضيفه إلى ما قدمه الأساتذة المحاضرون الذين سبقوني. لكنني اقترحت عليها موضوعا أخر يتعلق بالرهانات المهنية والاجتماعية والأخلاقية في استخدام  وسائل الإعلام لمواقع التواصل الاجتماعي. وسيطرح موضوع الأخلاقيات في سياق الحديث. وكان هذا الموضوع آنذاك حديث الساعة، ومصدرانشغال وسائل الإعلام وصحافييها .ولا يزال كذلك.

وذكّرتها بأن الوزارة تدفع للمحاضرين القادمين من خارج  الوطن ثمن تذكرة الطائرة ( وهذا أمر طبيعي). وتضع تحت تصرفهم سيارة الوزارة مع ضيافة كاملة في فندق خمسة نجوم (وهذا منطقي). ولا أشك بأن الكرم  يتأخر عن هذه المناسبة ( وهذا من شيم الجزائري). بينما محاضرتي لا تكلف شربة ماء. لذا أطلب من الوزارة أن تتكرم وتصرف لي مكافأة مالية نظير أتعابي. إن طلبي هذا لا يعبر عن احساسي بالغرور بأن ما أقوله أصبح ماركة مسجلة لها مقابلها المالي، بل يأتي من باب التوضيح  بأن تقديم محاضرة يأخذ مني وقتا لإعدادها ، والإطلاع على ما هو جديد عن موضوعها. والوقوف على ما وصل إليه التفكير فيه على مستوى العالم.  ووظيفتي في الجامعة تفرض عليّ شراء كتب من الخارج بالعملة الصعبة. وتجديد الاشتراك في المجلات العلمية المتخصصة. ودفع تكاليف المشاركة في الملتقيات العلمية التي تعقد في الخارج. فلم يحدث أبدا أن استفاد العبد الضعيف الذي يحدثك بدينار واحد من الجامعة خارج راتبه الذي يذهب قسط كبير منه لما ذكرته.

استمعت إليّ بأدب واهتمام. وأنهت مكالمتها بالقول، سأرفع مقترحك وطلبك إلى صاحب القرار. وأعيد الاتصال بك من جديد.

نسيت هذه المكالمة. ولم أتذكرها إلا بعد حوالي أسبوعين على ما أظن عندما أخبرني أحد الطلبة أنه شارك في محاضرة نظمتها وزارة الاتصال. ألقتها أستاذة جامعية قدمت من بلجيكا. وكان موضوعها ذاته الذي اقترحته على السيدة التي اتصلت بي!

في الحقيقة لم يدفعني الفضول إلى الاهتمام بالمحاضرات التي كانت الوزارة تقيمها على مرمى حجر من مقر عملي. لقد لجأت الوزارة إلى الجامعة لتنظيم هذه المحاضرات قصد الاستعانة بالطلبة للتغطية على غياب الصحافيين.  فهؤلاء يعرفون أن هدف الوزارة من هذه المحاضرات يتمثل في استغلال الأساتذة المحاضرين، خاصة أن بعضهم من الأسماء الوازنة في علوم الإعلام والاتصال، لاعتلاء المنصة لــ “تشنّف” آذان الحضور بخطبة ممجوجة ومكررة تلقنهم فيها درسا في الأخلاق! وتجدّد تهديدها المجتر بحرمان أي صحيفة أو وسيلة إعلامية من عائدات الإشهار إن لم تلتزم بأخلاقيات العمل الصحفي.

لقد تحوّلت هذه المحاضرات إلى مبرر وجود الوزارة المذكورة. فاستغلتها للإقناع بأنه بالإمكان بناء مجتمع الأخلاق في ظل غياب مجتمع القانون أو باختراقه. بدليل أنها تصدت بشجاعة منقطعة النظير لفسخ عقد شراء صحيفة الخبر وقناتها التلفزيونية المقبورة بحجة أن القانون لا يسمح لمن اشتراها بامتلاك صحيفتين في آن واحد، والشاري يملك صحيفة ناطقة باللغة الفرنسية. ونجحت في ذلك، بل أبدعت ، والحق يقال، في الكيل بمكيالين لأن أحد اثرياء النظام، على الأقل، كان يملك صحيفتين وقانتين تلفزيونتين!

ماذا لو اعفتنا الوزارة المذكورة من الثرثرة عن أخلاقيات الإعلام في ذاك الوقت. واكتفت بإجراء واحد وسهل جدا يتمثل في الكف عن تمويل بعض الصحف بعائدات الإشهار التي لا تستطيع نشره لأنها ببساطة توقفت عن الصدور؟  لو فعلت ذلك لحررتنا من سذاجة الحديث عن أخلاقيات الإعلام. ولمّا وقفنا فاغري الأفواه  من مبلغ  4000 مليار دينار جزائري الذي قال العربي ونوغي، المدير العام للوكالة الوطنية للنشر والإشهار ، أن الصحف الجزائرية استفادت منه كعائد من الإشهار خلال السنوات الأربع الفارطة،وفق ما جاء في وكالة الأنباء الجزائرية. لقد فصل المبلغ بالقول أن مالكي 40 صحيفة لا صلة لهم بعالم الصحافة والإعلام استنفعوا بنصيب وافر منه! منهم من يملك صحيفتين أو أكثر بالعنوان ذاته!  “وأسبوعيات يصدرها 3 مرات في الأسبوع ! وصحف لا يسحبها من المطبعة ولا توزع بتاتا!

نشكر السيد العربي ونوغي الذي أكد لنا بأن العلّة في التفاصيل. ونبهنا ضمنيّا بأن كل حديث عن أخلاقيات الإعلام لا ينزل صاحبه إلى الميدان ويقترب أكثر من تفاصيل عالم الصحافة والإعلام وتحولاته هو مجرد ثرثرة. ألا يقال بأن الأخلاقيات هي ” الأخلاق التطبيقية”؟

 

اعتذار

أعتذر للطلبة الأعزاء عن عدم الرد على طلباتهم المتعلقة بتحكيم استمارة تحليل المحتوى أو صحيفة الاستبيان

لم أعثر لحد الآن في الدراسات والبحوث الأجنبية على من لجأ صاحبها إلى تحكيم استمارته أو صحيفة استبيانه.  وحاولت الإطلاع على الكتب والمراجع الأجنبية في مجال المنهجية فلم أجد ما يثبت الضرورة العلمية لمثل هذا التحكيم. لذا استنتجت بأنها مجرد بدعة لا تستند إلى أي أساس علمي.

قد يقول قائل وما الحرج لو أن الطالب أو الباحث لجأ إلى مثل هذا التحكيم من أجل الاستئناس برأي خبير أو باحث متمرس  حتى يتحكم أكثر في استخدام أدوات بحثه  ويستثمرها بشكل جيدا.

بالفعل، لا وجود لأي حرج في ذلك  لولا الأسباب التالية:

1-. يكتفي الطالب في الغالب  بالذكر اسماء الأساتذة والباحثين الذين حكموا أدوات بحثهم دون أن يهتموا بآراء المحكمين. ولا يصححوا حتى  الأخطاء التي أشاروا إليها. ويرد أحدهما في بعض الأحيان بالقول أن أستاذه المشرف رفض أي تغيير في أسئلة الاستبيان أو استمارة تحليل المضمون. ورغم هذا لا يتردد في وضع اسم المحكم الذي أهمل ملاحظاته في قائمة المحكمين!

2-  يعتقد بعض الساتذة المشرفين على البحوث- سامحهم الله- أن اللجوء إلى المحكمين يعفيهم من متابعة بحوث الطلبة الذين يشرفون عليهم ومن مراجعة  اسئلة استبيان أو صحيفة تحليل المضمون. ويكتفون بالإشهار بأسماء المحكمين في وجه أعضاء لجنة مناقشة بحوث طلبتهم يحصنهم من كل نقد.

3- لاحظت أن بعض الطلبة لم يكلفوا أنفسهم مشقة الاطلاع على ما هو الاستبيان وما هي ضرورة استخدامه ، وشروط وضع الأسئلة والأجوبة ومستلزمات إخراجه. بل يعتمدون على المحكم لعل يراجع الاستبيان أو صحيفة تحليل المحتوى برمتها ويعيد صياغتها من جديد!

4- لقد سبق لي أن اطلعت على بعض ما أرسل لي من الاستبيانات التي وضعها الطلبة أو استمارات تحليل المضمون. وطلبت من أصحابها أن يرسلوا لي إشكالية بحثوهم وفرضياتهم وأهداف بحثهم. وبعد مراجعة دقيقة لكل ما أرسل لي. نبهتهم بأن أداة البحث المختارة لا تحقق لهم الأهداف المرسومة أو أنها غير مناسبة لمعالجة إشكالية بحثوهم. وقد واجهت في هذه الحالة موقفين. الموقف الأول: لا يرد  صاحب الطلب على ملاحظتك بتاتا. ويستكثر فيك كلمة شكرا. وهذا الموقف أصبح عاديا. الموقف الثاني، يحاول صاحبه أن يأخذ من وقتك الكثير ويجرك في سجال عقيم يثبت أنك لم تفهم بحثه. وبعد أخذ ورد يعترف لك بأنه قضى سنوات طوال في إنجازه. وأنه غير مستعد لإجراء أي تغيير لأن الوقت لم يعد لصالحه!

لكل ما سبق أجدد اعتذاري معتمدا على تفهمكم

توضيح وتعقيب على التساؤلات والاستفسارات

عن المحاضرة

في البداية أجدّد شكري وتقديري للساهرين على صفحة آفاق في الإعلام والاتصال على مبادرتهم الطيبة. وأشكر الطلبة والأساتذة من داخل الوطن وخارجه على متابعتهم  للمحاضرة التي قدمتها ليلة الأربعاء الموافق لـ 6 ماي 2020، وعلى صبرهم لأن مدة المحاضرة تجاوزت الساعة ونصف.

كما اعتذر على الخلل التقني الذي طرأ في نهاية المحاضرة. فتوقف البث دون أن أختتمها.  فاستجابة لمن طلب توضيح النقطة الأخيرة من المحاضرة أقول أن أبرز نتيجة توصلت إليها معدة أطروحة الدكتوراه  الموسومة : تحليل تطور عالم الصحافة المكتوبة من خلال دراسة الممارسات المعاصرة الناشئة التي يجمعها مفهوم الصحافة التساهمية، هي ضرورة إعادة التأطير لفهم الظاهرة المدروسة. و لم تستلهم مفهوم إعادة التأطير Recadrage  من نظرية التأطير الإعلامي  framing Media المعروفة لدى دارسي الإعلام، بل استلهمتها من مدرسة بالو ألتو Palo Alto المشهورة، والتي ترى أنه عندما يصبح النفاذ المباشر لظاهرة ما غير فعال، ولا يسمح بفهمها بشكل أفضل، لابد من تغيير الإطار الذي ننظر من خلاله إليها. وهذا ما قامت به هذه المدرسة في علاج المصابين بمرض انفصام الشخصية. فإعادة التأطير  تشبه، في هذا المقام  ما يسميه الابستمولوجيون بتغيير البرادغم.

من الصعب الإجابة عن كل التساؤلات والاستفسارات التي طرحت عليّ لكثرتها من جهة، ولتقاطعها من جهة أخرى. لذا سأحاول الاجابة عنها عبر النقاط التالية:

  • عنوان المحاضرة هو : في الترقيع المنهجي في علوم الإعلام والاتصال

البعض امتعض من مفهوم الترقيع  نظرا لما يحمله من تضمينات سلبية وتحقيرية في الثقافة الشعبية الجزائرية.  في الحقيقة لم أجد كلمة أقرب للكلمة الفرنسية Bricolage  سوى الترقيع.  بعض الناطقين باللغة الانجليزية حافظوا على الكلمة الفرنسية في استعمالاتهم اليومية. وغالبيتهم استغنت عنها بـ ” Do it Your self “. وتكتب بالحروف الأولى DIY اختصارا.

في الحقيقة ترددت كثيرا في استعمال كلمة بديلة في اللغة العربية وهي: الترميق”  وتعني في قواميس اللغة العربية: المبالغة في عمل ما دون اتقانه. وهذا المعنى يبعدنا المعنى المقصود من Bricolage الذي دخل العلوم الانسانية منذ 1960، واستخدم في الانتربولوجيا، والأدب، وعلم النفس والتربية تحديدا، وخاصة في علم التسيير. ولم يصل إلى علوم الإعلام إلا حديثا، أي خلال بضع سنوات فقط.

وتردّدت أيضا في استعمال ” الاستنهاج” كبديل للترقيع. وذلك لأن الاستنهاج يعني أن ما قام به الباحث من ” ترقيع” تحول إلى منهج. وهذا القول غير دقيق من وجهة نظري، إذ من المحتمل أن يتحول بعض الترقيع إلى  أداة منهجية إن ترسخت في الممارسة. وفي هذه الحالة تندرج ضمن الأدوات المنهجية التوافقية على قول الأستاذ العياشي عنصر، الذي تفضل مشكور بتصويب ترجمة Conventionnel. وبهذا لا يصبح ترقيعا. أؤكد مرة أخرى أن الترقيع  يملك قيمة نبيلة في العلوم الاجتماعية والإنسانية ويحيل إلى الابتكار والتجديد والبراعة والحذاقة.

البعض اقترح استخدام التناهج بدل الترقيع. أخشى أن يكون التناهج مقابلا للمصطلح الفرنسي  Interdisciplinarité، مثلما ترجمه الاستاذ محمد غانم، في مقدمة العدد الثالثة من المجلة الجزائرية في الأنتروبولوجيا  والعلوم الاجتماعية ، الصادر في 1998. وبالتالي ينحرف المعنى المقصود من الترقيع الذي ذكرناه أعلاه.

  • من يريد التأكد من تصنيف المقاربات المنهجية للممارسة الإعلامية الراهنة – أي طريقة حصول الناس على الأخبار الصحفية، الذي قدمه الباحثان Serge proulex، و Julien Rueff ، فهي أربعة: المقاربات التوافقية ( المناهج الكمية والكيفية)، ومقاربة الإثنوغرافيا في/ عبر شبكة الانترنت، ومقاربة الحوسبة، والمناهج الرقمية Digital Methods.

لكل شخص الحق في الاختلاف مع هذا التصنيف  مثلما فعلت. المهم يكون اختلافه مؤسسا فقط.

  • البعض استغرب من ذكر المناهج المختلطة التي تجمع المناهج الكمية والكيفية في محاضرتي. وربطها – لست أدري كيف- بأنني أسير على درب الداعين إلى أسلمة العلوم! بمعنى أخر إنني أروم ، ضمنيا، النزعة التلفيقية. لست بحاجة إلى التأكيد بأن المناهج المختلطة ليس من بنات أفكاري. وللإطلاع على مبررات وجودها يمكن العودة إلى المراجع الأساسية، نذكر منها:

Marc Corbière et Nadine Larivière (Sous la direction de( : MÉTHODES QUALITATIVES, QUANTITATIVES ET MIXTES Dans la recherche en sciences humaines; sociale et de santé; presse de l’université du Québec 2014 , 720 pages

على الصعيد العملي الكثير من رسائل الدكتوراه ومذكرات الماستر والبحوث المنشورة في المجلات العلمية باللغات الأجنبية استخدمت المناهج المختلطة. وقد قدمت مثلا عنها في المحاضرة. وأقصد المذكرة التي تناولت موضوع ” السيلفي”

  • عقب البعض على وصفي بالميديا الهجينة بالقول : “ما هو سائد اليوم”. إن كان هذا التعقيب يقصد به التداخل الحاصل اليوم في وسائل الإعلام بين الميديا التقليدية والميديا الجديدة  فإنه صائب جدا. إننا نتابع  اليوم البرامج والإخبارية والمنوعات عبر التلفزيون الاجتماعي، الذي يجمع بعض ما هو موجود في التلفزيون الكلاسيكي وخصائص مواقع التواصل الاجتماعي.
  • تساءل البعض: أليس من الأجدى القول المنهج المتكامل. نعم لقد استخدم هذا المصطلح في السابق ، وكان يقصد به تكامل المناهج التوافقية. أما العصر الراهن، الذي اصبحت فيه الظاهرة الإعلامية والاتصالية أكثر تعقيدا، فقد منح مبررا لظهور مفهومي ” المنهج الهجين” والترقيع المنهجي”.
  • أكد بعض السائلين أنه لم ير أي ترقيع منهجي في النموذج الأول الذي قدمته في المحاضرة، أي المذكرة التي عالجت موضوع السيلفي”. ربما لم ينتبه إلى فطنة الباحثة في إنشاء صفحة في موقع Tumblr أو لم يقدر أهمية هذا الموقع مقارنة ببقية مواقع التواصل الاجتماعية: الفيسبوك وتويتر وسنابشات. لقد أكدت الباحثة أنها لجأت إلى الترقيع المنهجي في بحثها. وما يضفي المصداقية على ما أكدته. أنها استطاعت أن تحوّل الصفحة التي أنشأتها إلى ما يشبه العينة الضابطة أو المجموعة الضابطة في البحوث التجريبية أو المخبرية. وبفضلها تمكنت من توجيه عدتها المنهجية بما جمعته من بيانات، وما استنتجته من ملاحظات على التفاعلات في هذه الصفحة.
  • البعض يتساءل ألم يحن الوقت بعد لتطليق المناهج برمتها والابتعاد عنها في إعداد البحوث؟ في الحقيقة يوجد البعض من دعوا في السابق إلى ـ ” La transdiciplinarité “، اي عبر المنهجيات. والقصد منها تجاوز المنهجيات وتخطيها. لا أنصح بتبنى هذه الدعوة . وأنبه إلى خطورتها لأنها تنسف إحدى مبادئ علمية العلوم.
  • البعض يتساءل أليس الترقيع المنهجي علاجا لعجز الباحث عن توظيف، وليس اسقاط، النظرية في بحثه، ومنفذا للخروج من التيه والانفلات من الضوابط المنهجية. يبدو لي أن من يعجز عن توظيف النظرية في بحثه لا يستطيع أن ينجز بحثا. ولا يفيده الترقيع المنهجي. ربما العجز المذكور يعود إلى ما قالته أستاذة من كلية الإعلام في الجزائر، مشكورة . أي إلى تدريس المناهج كمادة تلقينية أو محفوظة بعيدة عن المعترك اليومي، ومفصولة عن الإشكاليات الإعلامية المعاصرة. واسمحوا لي أن أكرر ما قلته: من لم يستوعب المقاربات النظرية، خاصة الحديثة ويهضمها . ومن لا يتحكم في المناهج البحثية المعروفة والمتفق عليها أنصحه بالابتعاد عن الترقيع المنهجي لأنه يتهم بأنه يتفذلك منهجيا فقط.
  • إن القول بأن كل المناهج التقليدية ، أي التوافقية” فقدت صلاحيتها في دراسة الميديا الجديدة ولم يبق سوى المنهج الإثنوغرافي يجانب الصواب في اعتقادي. نعم يمكن أن نستعين بهذا المنهج في دراسة الهوية الرقمية لمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي. لكن ماذا لو كان موضوع البحث هو دور مواقع التواصل الاجتماعي في تطوير المشاركة السياسية ؟
  • يتساءل أحد الطلبة عن رائي في المنجز البحثي الجزائري في مجال علوم الإعلام والاتصال. أولا لست مطلعا على كل ما تم انجازه في مجال البحث في علوم الإعلام والاتصال، ثانيا، أخشى السقوط في التعميم القاتل. بل يمكن الإشارة فقط إلى أنني نشرت نصا عن غياب الأفق النظري في بحوث الإعلام في المنطقة العربية ، وأخر عن الابستمولوجيا والايديولوجيا في بحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية. ويمكن العثور عليهما في شبكة الانترنت. أعتقد أنني لا أضيف لما شعر به صديقي الدكتور كمال حجام، وهو يراجع بعض البحوث الإعلامية، وكتبه في احدى تدويناته. إنه الشعور ذاته الذي انتابني وأنا أراجع قسطا من البحوث العربية في مجال علوم الإعلام والاتصال، إذ لاحظت أن حوالي 80% منها استخدمت نظرية الاستخدامات والإشباعات. فهذه النظرية حاضرة في العديد من البحوث التي اطلعت عليها بصرف النظر عن مواضيعها! أعتقد أن هذه الملاحظة لا تتضمن أي اتهام لزملائي واصدقائي الأساتذة المؤطرين داخل الجزائر وخارجها لأن جزءا كبير منهم يشاطرني الرأي في أن ظروف التعليم في الجامعة دفع البحث الإعلامي ليتطابق مع عنوان كتاب الفيسلوف الايطالي: ” أن نقول الشيء نفسه تقريبا”.

أخيرا ، إن الترقيع المنهجي” ليس إعلانا عن موت المناهج التوافقية في بحوث الإعلام والاتصال، ولا يتضمن أي دعوة للاستغناء عنها. إنه إثراء لها بفتح ” كَوَّة” جديدة يتسلل منها الضوء لإنارة بعض الجوانب في الظاهرة المدروسة التي لم يصلها نور المقاربات المنهجية المعهودة. إنه ضرب من البراعة في ابتكار اساليب لجمع البيانات عن الظاهرة المدروسة لتجاوز بعض الصعوبات المنهجية سواء كانت كمية أو كيفية أو مختلطة أو للتحري في صحة المقاربات النظرية وإثرائها أو تفنيدها.

إن علوم الإعلام والاتصال تعيش اليوم ما عاشه التاريخ في مطلع القرن الماضي، والذي قال عنه ماكس فيبر ما يلي:

” هناك علوم كتب لها أن تظل فتية على الدوام. هذا حال التاريخ وكل المعارف التي تطرح عليها حركة الحضارة اللامتناهية  مشاكل جديدة.”[1]

[1] – M weber : Essais sur la theorie de la science, Premier essai :  l’objectivité de la connaissance dans les sciences  sociales ) 1904( ; Plon 1965. P 206

كوفيد 19 : ماذا سيغير فينا ؟

نصر الدين لعياضي

ماذا يفعل المرء الذي حكمت عليه جائحة “كوفيد 19″، التي تجتاح العالم، بالإقامة الجبرية في منزله حفاظا على حياته  وحياة غيره؟  سيشاهد الأفلام بدون شك، ويتابع برامج مختلف القنوات التلفزيونية التي تتخمه بالأخبار المأسوية. فترفع منسوب قلقه بارتفاع عدد المصابين بهذه الجائحة. وتزيد في خوفه بتزايد  ضحاياها.

سيتذكر المرء أن أكبر حليف لهذه الجائحة هو الخوف والهلع . إذا سيقاوم خوفه بالتفكير في الشخص الذي بنى أول سجن في التاريخ في القرن الثالث عشر ميلادي ليكون مؤسسة ” تأديبية””. ساعتها سيدرك أن أقسى عقوبة تسلط على الشخص هو حجره ؛ أي عزله فيزيائيا عن المجتمع. لكن هذه القسوة تتضاءل في نظره لأن عزل السجين إن كان مجرما يستهدف حماية المجتمع من الخطر الذي يمكن أن يشكله. لكن حجره ” الاختياري” في منزله هو حماية له أولا! ربما ستحرّره هذه الفكرة من وطأة القلق نسبيا لأن المنزل أصبح ملجأ صحيّا. ” فالخوف من هذه الجائحة أعاد إلى المنزل وظيفته البدائية: الحماية من خطر الانقراض تحت تهديد «حيوانات» مفترسة أو متوحشة سائبة في الجوار، مثلما يؤكد الفيلسوف التونسي فتحي المسكيني.

                             في معنى الحجر

يلفت نظرنا الفيلسوف الفرنسي، ميشال فوكو، في كتابه : “تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي”، الصادر في 1961 ، إلى أن العزل الفيزيائي والاجتماعي لم يمارس على المساجين فقط ، بل مورس أيضا على المجذومين،  لكن مع تراجع مرض الجذام في المجتمع حلّ محلهم المجانين. لكن أليس المجانين اليوم هم الذين يهيمون على وجهوهم أو “يتدافعون” في المتاجر من أجل الحصول على المزيد من المواد الغذائية لتكديسها. فيتمكّن منهم فيروس “كورونا”. في هذه الحالة يتساوى أبناء هذا البلد العربي أو ذاك وسكان لندن! إنه منطق العنزة التي تقبل ما عرضه عليها الذئب : منحها قنطار شعير ليأكلها ، مثلما تقول الحكاية التي تُروى للاطفال.  إن العقّال اليوم ” محجوزين ” وليسوا طلقاء يتسكعون في الشوارع. إنهم العاكفون في منازلهم. والاعتكاف خوفا من هذه الجائحة يدفع الكثيرين  إلى الوقوف على عتبة الزهد والتَّصَوُّفِ، بمعنى بالابْتِعَاد عَنْ مُخَالَطَة النَّاس.

                     من تفاصيل ” الطاعون”.

يُنصح  بقراءة الأدب في ” الحجر المنازلي” والروايات على وجه التحديد، خاصة تلك التي اتخذت من الأمراض والأوبئة موضوعها  لعلها ترفع المعنويات، وتخبر القارئ  كيف تعايش الناس مع الأوبئة وانتصروا عليها. فيزداد تفاؤله. ربما قرأ الكثيرون رواية ” الحب في زمن الكوليرا” لغارسيا ماركيز أو ” الطاعون” للكاتب الوجودي ألبير كامي. تسرد هذه الرواية تفاصيل يوميات الأوربيين في مدينة وهران، التي تقع غرب عاصمة الجزائر وتبعد عنها بــ 351 كلم، والتي اجتاحها وباء الطاعون في 1945. من التفاصيل الدالة التي التقطها الروائي نذكر غضب الأوربيين على أحد الكهنة، الذي أغلق أبواب أكبر كنيسة في المدينة في وجه من يأتون بأمواتهم للصلاة عليهم وتشعيهم إلى مثواهم الأخير خوفا من إصابته بالعدوى.  لقد بلغ غضب بعضهم درجة الانتقام من الكاهن. فصعدوا إلى سطح الكنسية، ونزعوا قرميدها ورموا من علوها بجثة أحد ضحايا الطاعون داخل الكنسية. لقد اتهم أحد الغاضبين الكاهن بضعف إيمانه الذي منعه من الصلاة على الأموات خوفا من العدوى . وذكّر الحاضرين بإمام احدى المساجد في مدينة مغربية قريبة من وهران. لقد كان يقوم بغسل أموات المسلمين ضحايا الطاعون، ولم تصبه العدوى! لكن من أين لهذا الغاضب معرفة الحقائق العلمية في الطب التي تؤكد وجود الحامل السليم للفيروس؟

لقد عزّزت الأوبئة التي فتكت بالبشرية عبر التاريخ النزعة القدرية. لم يجد المسيحيون ما يواجهون به ” الأنفلوانزا الإسبانية” التي كُنيت بالطاعون الأسود، واجتاحت أوربا خلال الفترة الممتدة من  ( 1918-1920) و قضت على حوالي 50 مليون شخص، سوى القول أنها عقاب سلطه الله عليهم لكثرة معاصيهم. العقاب لا يتعلق بالأوبئة فقط ، بل يشمل الكوارث الطبيعية، والحروب أيضا. لقد ذكر بورس سيلرنيك، أخصائي الأعصاب والأمراض العقلية الفرنسي، أنّ الكولومبين كانوا يشكرون الرب على عقابهم لسوء أعمالهم بعد كل مجزرة تحصد أرواح مواطنيهم. إنها نزعة قدرية تبرّئ الجناة.

                  المالتوسية الجديدة

حاولت بعض الدول أن تستثمر هذه النزعة ، مثل بريطانيا وهولندا قبل أن تتراجعا، والسويد. فدعت إلى سياسة ” مناعة القطيع” من أجل تحقيق الاصطفاء الصحي.  ويتطلب تطبيق هذه السياسة ترك المواطنين يعيشون حياتهم على سجيتهم ، أي دون حجرهم  أو إجبارهم على التقيد بالقواعد المعروفة للوقاية من العدوى. لقد قدر أن كل مصاب بالفيروس يعدي ما يعادل 2.5 من الأشخاص الأصحاء. وهذا يعني أن الوباء سيزول بمجرد أن يصيب 60 % من السكان. كانت ” مناعة القطيع” الحل الوحيد لمواجهة مرض الجدري الذي انتشر في القرون الوسطى، و” الأنفلونزا الإسبانية” في اجتاحت أوروبا في الحرب العالمية الأولى. و كانت حجة أنصار هذه السياسة تتلخص في القول أن العلوم الطبيّة لم تكن متطورة آنذاك، ولم تتوصل البشرية بعد إلى اختراع لقاح ضد الأوبئة. لذا رأت أنه لابد من التضحية  بمن لا يملكون مناعة قوية ويموتون حتّى وإن قدرت نسبتهم بـ 6% من مجمل المصابين. وهذا من أجل انقاذ بقية السكان. لكن ما هو مبرّر هذه السياسة اليوم؟ إنها النيوليبرالية التي أعادت الحياة لفكر توماس مالتوس ( 1766-1834) ، القسيس البريطاني الذي أصبح أستاذ الاقتصاد والذي كان يشكو من أن النمو السكاني يتزايد في الكرة الأرضية بمعدل يفوق معدل نمو المواد الغذائية، مما يؤدي إلى خلّل في النمو. وكان ينتظر من الحروب والأوبئة أن تتدخل لإحداث التوازن المطلوب.

إن المالوتسية الجديدة التي تتطلب انقاذ رأسمال قبل البشر يمكن أن تساعدنا على تفسير سبب ارتفاع نسبة الوفيات من مجمل عدد المصابين في الولايات المتحدة الأمريكية، مقارنة بألمانيا على سبيل المثال. فهذه الأخيرة قامت بفحص منتظم لسكانها من أجل التكفل بالمصابين منهم قبل أن يستشري المرض في أبدانهم. بينما قام ترامب بإلغاء بطاقة التأمين الصحي التي أقرها الرئيس الأمريكي السابق بعد وصوله إلى سد الحكم. قد يقول قائل  وكيف نفسر ارتفاع عدد الأموات في إيطاليا؟ يمكن الإشارة إلى عاملين أساسيين دون إبعاد العامل الاقتصادي. أولهما بيولوجي، ويتمثل في شيخوخة الإيطاليين. فالإحصائيات الرسميّة  تشير إلى أن ايطاليا من الدول الأوربية التي يعيش فيه أكبر عدد من المعمرين. فمعدل  الأعمار فيها بلغ 83.1 سنة. وثانيهما عامل اجتماعي، إذ يُعرف الإيطاليون بحبهم الشديد للحياة الجماعية، واختلاط بعضهم ببعض مما سهل انتقال فيروس الكورونا.

أزمة النيو ليبرالية.

لعل بعض حكام العالم سمعوا ما ردّده الصحافي والكاتب الفرنسي، برنار بيفو متندّرا  على  جائحة الكورونا. لقد قال عنها أنها ذات نزعة معادية للرأسمالية: تحب الذهب فرفعت قيمته بنسبة 8%  في الأسواق العالمية . وتكره رأسمال فألحقت أضرار بليغة بالبورصات العالمية. لذا قرر هؤلاء الحكام محاربة هذه الجائحة بما تكرهه.  فوجهوا عنايتهم الصحية لرأسمال والاقتصاد خوفا من انهياره قبل أن يعتنوا بالبشر!

لقد كشف وباء ” كوفيد 19″ أن النيوليبرالية الجديدة غير إنسانية. لقد دفعت إلى الوقوف ضد تدعيم السياسات الاجتماعية في العديد من بلدان العالم، خاصة في مجال الصحة العامة. فتراجعت الاعتمادات المالية المخصصة لمستشفيات القطاع العام ، وقلصت عدد العاملين فيها.  وها هي اليوم تدفع ثمن سياستها.

يذكرنا كمال بومنير، على لسان الفليسوف الفرنسي لوك فيري، بأن جائحة كورونا تعد مكسبا للكوكب الأرضي! وانتصارا لجمعيات حماية البيئة وأحزابها التي عبرت عن مخاوفها من دمار العالم جراء السياسة النيو ليبرالية التي عقلنت الاقتصاد بشكل مفرط . ودفعت بالإنتاج المادي إلى ذروة الزيادة على حساب الطبيعة. لكن يبدو أن هذه الجمعيات ليست الوحيدة التي تردّد في سرها الكلمة الألمانية: Schadenfreude، والتي  تعني حسب المترجم المذكور “الابتهاج بمصائب الآخرين” لأن الجائحة المذكورة بيّنت أنها كانت على صواب. قد تشاركها في الابتهاج الشركات الصيدلانية العالمية ووكلائها الذين يتعاركون في بلاطوهات التلفزيون وفي صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي كلما بدت بارقة أمل في استعمال دواء جديد رغبة منهم في احتكار العلاج.

الإنسان الأعلى

في هذه الظروف الأليمة يتجلى “الإنسان الأعلى”،  بمفهوم الفيلسوف الألماني نتشه الذي يراه متحرّرا  من الأخلاق والأديان، وحتّى من الفلسفة؛ أي الحكمة، فتنفجر قدراته اللاعقلانية. كيف لا وعدد المؤمنين بالمبدأ الميكيافلي : الغاية تبرّر الوسيلة في تزايد مضطرد؟

 رفع الرئيس الفرنسي شعار ” الانسحاب القومي” وهو يخاطب مواطنيه،  وكأنه كان يردّد ” من بعدي الطوفان” ، وهو القول الفرنسي المنسوب إلى مدام دي بومبادور عشيقة لويس الخامس عشر. يترجم هذا الشعار انطواء الدول على ذاتها في زمن الوباء الكوني. ويبرّر تلكؤ، وربما تقاعس، الاتحاد الأوربي في تقديم الإعانة المالية لإيطاليا وإسبانيا لمواجهة الوباء الذي أصبح يهدّد سكانهما بالفناء.

سقوط الأوهام

لقد اسقطت جائحة كوفيد 19 الكثير من الأوهام، تأتي في مقدمتها فلسفة ” الانسانية المتجاوزة” التي تؤمن بـ ” الخلود الصحي” نتيجة قوة الإنسان على قهر الشيخوخة والمرض. ألم يقل الكاتب وعضو الأكاديمية الفرنسية، أريك أورسينا:  بقدر ما تكون قويا يظهر ضعفك؟ من يشك في صحة هذا القول لينظر إلى وضع الولايات المتحدة، التي لا تحتاج إلى من يثبت قوتها العسكرية والاقتصادية وتفوقها العلمي. ها هو ضعفها يتحدث عنها، وهي تنتظر المساعدات  لمقاومة الجائحة المذكورة.

 وها هي البشرية اليوم تدفع ثمن ايمانها المطلق ” بما بعد الحداثة” التي سيّدت العقل الأداتي/ الوظيفي على حساب العقل التواصلي. وتنكرت لكل السرديات القديمة. ولم تهتم سوى بما هو يومي. ولم نحتف سوى بما هو آني. لكن الزمن “يتجمد” في الحجر الاجبارى الذي يختزل الكون في المنزل. و تلاشت الحياة اليومية وهي تقترب من العدم . فلا مناص من  التساؤل مع الفيلسوف الايطالي، جرجيو أغامبان : كيف أصبح الانسان المعاصر إنسانا عاريًّا وهو يواجه مصيره ، لا يفكر سوى في وجوده البيولوجي؟ يروم البقاء فقط متنازلا عن شروط حياته الطبيعية: أهله، وأصدقائه ، وحياته الاجتماعية وهواياته، وعمله، وطقوسه الحياتية خوفا من الإصابة بالمرض؟ وهل المجتمع الذي يعيش حالة الطوارئ الدائمة يمكن أن يكون حرا؟

يتساءل الفيلسوف السلوفيني، سلافوي جيجك، المثير للجدل: ماذا لو كانت ” وهان الصينية” مستقبلنا في عالم متشابك ومترابط؟ سؤال يطمح منظرو إيديولوجية الاتصال أن يتحقق عبر احتفائهم في كتابتهم بالإنسان المعاصر الذي يختزل عالمه في مسكنه. ولا يغادره إلا لماما: يشتغل عن بعد؛ أي في بيته. ويشارك في الاجتماعات والمؤتمرات دون أن يبرح مكانه. ويدفع فاتوراته عبر شبكة الانترنت، ويتسوق الكترونيا، ويقرأ الصحف ويشاهد الأفلام ويتواصل دون أن يغادر منزله. إنسان يُحجر برضاه دون تململ أو امتعاض.  يقول عالم الاجتماعي الفرنسي، ” ألان توران “، عن هذا المستقبل أنه يمثل نهاية المجتمعات.

              أي مستقبل؟

يحاول بعض الكتاب والاقتصاديين والسياسيين قراءة المستقبل من موقع اختصاصهم : ماذا بعد جائحة كوفيد 19 ؟  يتفقون على القول أنها تعيد ترتيب العالم الذي سيتغير لا محالة. ويتنبئون بزوال الأحادية القطبية بتراجع الولايات المتحدة الأمريكية ، وتفكك الاتحاد الأوربي، وانهيار الاقتصاد العالمي، وصعود الصين كقوة عالمية رائدة بعد انكسار النيوليبرالية. وأن الناجي من هذه الجائحة  سيكون مختلفا عما كان عليه قبل أخر شهر من السنة الماضية. هل هناك مبالغة في هذا الاتفاق؟ بعض التنبؤات استخلصت من دروس الماضي. ففي هذا الصدد يقول جاك أتالي، مستشار الرئيس الفرنسي السابق ميتران: أن كل جائحة تصيب البشرية تنتج نظاما خاصا بها من المعتقدات والرقابة. لقد أنتهى وباء الطاعون في القرن الرابع عشر بتجريد الكنسية من سلطتها السياسية والروحية لعجزها عن الحفاظ على صحة الناس. فحلّ الشرطي، الذي ينتمي إلى القوة الفاعلة في حماية حياة البشر والحفاظ على صحتهم، محلّ الكاهن. وحلّ الطبيب، الذي يتمتع بكفاءة علمية في الحفاظ على حياة الناس، محلّ الشرطي في نهاية القرن الثامن عشر.  وانتهى إلى قول ما يلي: ” إذا عجزت السلطات في البلدان الغربية عن التحكم في هذه المأساة البشرية  سيُطْعن في نظامها السياسي. وستكون أسسه الأيديولوجية وسلطته موضع تشكيك . وسيحل محلة نموذج يقوم على الثقة. ويستند إلى منظومة قيمية أخرى، بعد أن تجتاز البشرية فترة قاتمة.

رغم الخوف من الفترة القاتمة التي تحدث عنها جاك أتالي إلا أن الإنسان متفائل بطبعه رغم المآسي. هذا ما يقوله الروائي “ألبير كامي” في رواية الطاعون: « ما نتعلمه في خضم الكوارث هو أن لدى البشر من الأشياء ما يستحق الإعجاب أكثر مما لديهم مما يثير الاشمئزاز».

لكن ما يثير الاشمئزاز في محنة البشرية مع ” كوفيد 19″؟  إنه الاقتراح الذي تقدم به طبيبان فرنسيان عبر قناة  تلفزيونية فرنسية، والمتمثل في تجريب المصل المضاد لفيروس كورونا الذي يُخترع مستقبلا على الأفارقة قبل تلقيح الأوربيين به ! لقد فاق هذا الاقتراح ذاك التصريح الذي دعا فيه رئيس وزراء بريطانيا مواطنيه إلى وداع آبائهم وأجدادهم! فوباء كوفيد 19 يختار ضحاياه من كبار السن.

ربما ستتغير الكثير من الأشياء بعد أن تتغلب البشرية مجتمعة على هذه الجائحة ونتمنى أن يكون ذلك في أقرب وقت. لكن هل سيتم القضاء على الأنانية والجشع والعنصرية بمختلف أشكالها؟

هل يمكن الخروج من مملكة غوغل؟

                                                      نصر الدين لعياضي

هل يمكن الخروج من مملكة غوغل؟ القليل من يطرح هذا السؤال، لكن الصحافية ” كاشمير هيل” الخبيرة في التكنولوجيا الرقميّة، التي التحقت بالعمل في صحيفة نيويورك في السنة الماضية، لم تكتف بطرحه بل خاضت التجربة فعلا. لقد حاولت العيش دون الاستعانة بخدمات شركات “غافا”، التي تختصر بالحروف الأولى للشركات الأربعة المسيطرة على شبكة الانترنت، وهي: غوغل، وآبل، وفيسبوك، وأمازون. فاستغنت طيلة كل أسبوع عن خدمات كل شركة تباعا. لقد ارتأت خوض هذه التجربة بعد أن نشرت سلسة من المقالات المقلقة عن التغيرات التي أدخلتها التكنولوجيا الرقمية على حياتنا الخاصة استخلصتها من تجربتها الشخصيّة. إذ يذكر أنها حَوَّلت منزلها إلى بيت ذكي. ورصدت ما يرسله من بيانات ومعلومات شخصيّة.

لكن ” فرامسوفت”  Framasoft، وهي إحدى الجمعيات الفرنسيّة الناشطة في مجال التكنولوجيا الرقمية، حَوَّلت السؤال المذكور إلى الشعار التالي: ” لنحرّر الانترنت من سلطة غوغول”. فهل استطاعت أن تفعل ذلك؟

قبل الإجابة عن هذا السؤال يتوجب التعريف بهذه الجمعية وانجازاتها والدواعي التي دفعتها إلى رفع التحدي المتمثل في الاستغناء عن غوغل في استخدام شبكة الانترنت.

انطلقت هذه الجمعية على يد “كارولين أتابكيان”، أستاذة اللغة الفرنسيّة، و”ألكسيس كوفمان” أستاذ الرياضيات في مدرسة بالضاحية الباريسيّة. لقد أطلقا في نهاية تسعينات القرن الماضي مشروعا تعليميّا أسماه ” فرمنات”، وهو اختصار للحروف الأولى للكلمات اللاتنية ” لغة فرنسية، رياضيات. وأضافا لها عبارة  نت اختصارا لكلمة ” أنترانت” “intraNET”، أي الشبكة الداخلية، لأن مشروعهما تجسد عبرها.     وتضمن هذا المشروع جزءا يتعلق بجرد كامل لبرامج الكمبيوتر الحرة، أي المجانية، التي تشتغل وفق نظام “ويندوز” التي يحتاجها الأساتذة لتطوير كفاءتهم وتحسين أداءهم.

             البداية

لقد انطلق هذا المشروع من مبدأ الاعتراض على دفع المقابل المالي جراء استخدام بعض برامج الكمبيوتر. واستند في ذلك إلى الرياضيات إذ لم يتصور أصحابه تطور الهندسة لو اشْتُرط من كل مستخدم لنظرية فيثاغورس دفع ثمن استخدامه لها. فوجدوا في برامج الانترنت الحرة ضالتهما.

تحوّلت هذه الجمعية إلى ” فرماسوفت” في 2004 بعد أن تعززت قناعة أصحابها وأدركوا بأن الرهان في العالم الرقمي لا ينحصر في دفع مقابل مالي جراء استخدام برامج الكمبيوتر وشبكة الانترنت، بل يشمل أيضا الطابع المركزي لشبكة الانترنت الذي يسمح باستغلال بيانات ومعلومات مستخدميها لأغراض تجارية وأخرى مشبوهة. فوضعت هذه الجمعية نصب أعينها هدفا كبيرا يتمثل في إنشاء خدمات بديلة ومساوية لتلك التي تقدمها شركات ” غافا”؛ أي خدمات مجانية، وغير مركزية، وصائنة لحياة مستخدميها الشخصية. لذا سعت هذه الجمعية منذ إنشائها إلى الامتناع عن تجميع البيانات الشخصية عن مستخدمي برامجها الخاصة، والحد من تبعيتهم إلى الشركات الكبرى المسيطرة على ” الواب”.

إن التصدي لشركات ” غافا” يمثل تحديًّا كبيرا إن لم يكن ضربا من جنون جمعية متواضعة الإمكانيات. إنها تتكون من 35 عضوا متناثرين في المدن والقرى الفرنسية، منهم تسعة فقط موظفين مقابل أجر دائم والبقية متطوعين. ومواجهة الشركات المذكورة ليس بالأمر الهين لأن سيطرتها التقنيّة تتعدى نطاق شبكة الانترنت وتمتد إلى الذكاء الاصطناعي، والسيارات الذكيّة، والهواتف، وربط الأشياء المادية بشبكة الانترنت. وسيطرتها التقنيّة مستمدة من سطوتها الاقتصاديّة. ولتوضيح هذه السطوة يمكن الإشارة إلى أن شركة ” مايكروسفت” كانت الوحيدة التي تنتمي إلى الشركات الخمس المالكة لأكبر رأسمال في السوق العالمية في السنة 2001، وبعد 15 سنة، أي في السنة 2016 ، أصبحت الشركات الخمس المسيطرة على رأسمال السوق العالمية هي: آبل، ألفابي: الشركة المالكة لغوغل، و مايكروسفت ، وأمازون، والفيسبوك. هذا إضافة إلى سيطرة هاته الشركات على الصعيد السياسي والثقافي والتي توجت بما أصبح يعرف بــ ” ما بعد الرأسمالية” التي تقوم على ما أسمه العالم الاقتصادي الأمريكي، شوشانا زيبوف، بــ ” رأسمال المراقبة” الذي يكشف عن الدور الاقتصادي المتنامي لأشكال مراقبة السكان في تزايد تراكم رأسمال في مختلف القطاعات. فبعض المصادر تشير إلى أن جمع البيانات الشخصية حقق للولايات المتحدة الأمريكية رقم أعمال قدر بــ 200 مليار دولار أمريكي في السنة 2013 ؛ أي ما يعادل ثلاثة أضعاف المبلغ الذي تمنحه لمختلف أجهزتها الأمنية!

يقرّ مسؤول جمعية ” فرامسوفت” أن ما نقوم به يعد تحديا فعلا لكنه ليس جنونا بكل تأكيد. فعندما رفعت شعار ” لنحرر شبكة الانترنت من غوغل ” كانت بمثابة من يريد تسلق جبل الهيملايا بخُفّ مطاطي. لكنها رفعت التحدي لأنها تؤمن بأنه حتّى وإن كان احتمال الانهزام في المعركة كبيرا يجب خوضها. وبيّنت جمعية ” فرامسوفت” المتواضعة أنها تستطيع أن تتحرّر من خدمات بريد غوغل السريع ” جيميل” Gmail، ومحرك غوغل الذي يحلّل المواقع الإلكترونيّة في شبكة الانترنت، ” غوغل أنالتيكس” ، ووكالة غوغل الإشهارية ، وغيرها من البرامج وملحقات شركة ” ألفابي” المالكة لغوغل.

                                                            المنجزات

استطاعت شركة ” فرامسوفت” أن تبتكر وتطور37 برنامجا وخدمة في مجال الأنترنت خلال  السنوات الخمس الأخيرة من وجودها، اشترك فيها حوالي 600 ألف شخص كل شهر. فسمحت لهم بالاستغناء عن خدمات شركة “ألفابي”. ويمكن أن نذكر منها على سبيل المثال، وليس الحصر، ” تنتون روجي” Tonton Roger،  وهو محرك بحث بديل عن محركات البحث الثلاثة في آن واحد: غوغل، وياهو، وبنغ   Bing. وفرامادرايف” Framadrive ” عوضا عن برنامج ” دروببوكس” ” Dropbox”، وهو برنامج يخزن الملفات في شبكة الانترنت ويقوم باقتسامها بين مستخدميه. و” فرامابوكين” ، وهو البرنامج التي ابتكرته الجمعية المذكورة ليكون بديلا عن “غوغل بوكس” ينشر صفحات وفصول كاملة من الكتب. ويتيح لمستخدمه من تصفحها فقط. و”فرماكارت” وهي البديل المقترح لبرنامج غوغل مابس، أي المحرك المختص في الخرائط. و” فرامابيك” Framapic   المختص في تبادل الصور. وفرماباد FramaPad الذي يعرض 200 ألف ملف مكتوب للتداول ليكون بديلا عن برنامج غوغل دوكس Google Docs ، وفراماسفير” Framasphère ، المنصة الرقمية للتواصل الاجتماعي تجمع بين خدمات موقعي الفيسبوك وتويتر لتكون بديلا عنهما. للإشارة لقد بلغ عدد مستخدمي هذه المنصة قبل سنتين 32 ألف مستخدما. وغيرها من البرامج والمنصات.

قد يقول البعض أن عدد المشتركين في منصات جمعية ” فرماسوفت”  ومستخدمي برامجها وأدوات بحثها لازال متواضعا ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينافس الشركة المالكة لغوغل، ناهيك عن بقية شركات ” غافا”.

             لبديل ممكن

اعترف “كريستوف ماسوتي”، رئيس الجمعية المذكورة السابق، بهذه الحقيقة. وأكد بأن غاية جمعيته ليس الاستحواذ على أكبر عدد من مستخدمي شبكة الانترنت، بل تقديم الحجة بأن التحرّر من غوغل ممكن جدا. فطموح جمعيته ليس احتلال مكانة شركات الـ “غافا”، بل تقديم بديل ملموس عنها، والبرهان على أن سيطرتها التقنيّة والاقتصاديّة والثقافيّة ليست حتميّة وأزلية. وأن هناك حلولا أخرى للانفلات من الخضوع لمعيارية القرية العالمية التي يسيطر عليها الأمريكيون.

يتفق الناشطون في جمعية ” فرماسوفت” على القول أنهم لا ينافسون غوغل. فمنافسته تعني الانسياق لاستنساخ نموذجه وفق مبادئه، بينما يقوم مشروعهم على فلسفة مغايرة تقنيا واقتصاديا. فبرنامج ” بيرتيوب” PeerTube ، على سبيل المثال، الذي يشبه إلى حد كبير المنصات المعروفة في مجال بث الفيديوهات، والذي طورته الجمعية المذكورة يقدم تصورا مختلفا لشبكة الانترنت: شبكة غير مركزية ولا يراقبها سوى مستخدموها. فميزة هذا البرنامج أنه يستند إلى نموج ” الند للند” الذي يعني أن المستخدم يمكن أن يتحوّل إلى خادم، ويأوي شرائط الفيديو ويوزعها على نظرائه. ويسمح طابعه غير المركزي لكل مستخدم بمشاهدة شرائط الفيديو وحتّى تحمّيلها دون أن يشكو من التباطؤ المعهود الذي يلاحظه مستخدمو المنصات المشابهة عندما يتزايد عددهم أثناء مشاهدة إحدى فيديوهاتها في الوقت ذاته. ولا يعاني برنامج ” بيرتيوب” من العطل مثلما يحدث لخوادم منافسيه التقليديين: ” يوتيوب” ودلي موشن”.  هذا إضافة إلى أن محتوى ما يبثه يدار من قبل أصحاب المواقع، ولا تتحكم فيه الشركات الرقمية الكبرى.

يؤكد رئيس جمعية “فرماسوفت” أن البيانات الشخصية لمستخدمي برامجها ومنصاتها لا تُجَمع ولا تُباع وذلك لأن اقتصادها لا يقوم على الإعلان، بل يستند إلى العطاء والهبات. لقد قفز مبلغ هذه الهبات من 150 ألف يورو في 2013 إلى 415 ألف يورو في2017 قدمها خمسة ألاف شخص منهم ألف شخص تعودوا على تقديم هبات مالية منتظمة كل شهر.

لم تسع الجمعية المذكورة إلى طلب الإعانة من الحكومات الفرنسية المتعاقبة وذلك حفاظا على استقلالها، وخوفا من الضغط عليها ودفعها إلى تجميع المعلومات الشخصية عن مستخدميها لتوظف لأغراض مختلفة. ولم تمارس الحكومات الفرنسية أي ضغط على هذه الجمعية وغيرها من الجمعيات الناشطة في مجال اختراع برامج الكمبيوتر والانترنت الحرة لأنها بحاجة ماسة إلى مثل هذه الجمعيات حتّى تُحرّر جزئيا بعض مؤسساتها من التبعية لشركات الــ “غافا” من جهة، ومن أجل تعزيز قدراتها على التفاوض مع ممثلي هذه الشركات من أجل الحصول على خدماتها بكلفة أقل وبشروط معقولة، من جهة أخرى، مثلما فعلت وزيرة التعليم السابقة، نجاة فالو بلقاسم، في تعاقدها مع شركة “مايكروسفت” في نوفمبر 2015.

إن ما حقّقته هذه الجمعية من نجاح بفضل الناشطين في حقل برامج شبكة الانترنت الحرة، أدى إلى تزايد المبادرات في بعض البلدان الأوربية على حذت حذوها، مثل  أرضية ” أكس نت” X-net  التي تجمع كل الأنشطة الرامية إلى توفير العدّة التي يمكن أن تسهم في تحرير شبكة الانترنت من غوغل في إسبانيا. ومنصتي “ويهو.أست”Weho.st  و”ديستروت” Disroot في هولاندا، ومنصة “ألمند. أي أو” Allmende.io” في ألمانيا.

الانترنت السيادية

لم تتبن روسيا الإستراتيجيّة الفرنسيّة مع شركات “غافا”، بل سعت إلى تجسيد رؤيتها لما اسمته شبكة الانترنت السيادية بموجب القانون الذي دخل حيز التنفيذ في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. لقد اتجهت إلى تأسيس بنيتها القاعديّة التقنيّة المستقلة التي تسمح لها بعزل شبكة الانترنت المنتشرة في الأراضي الروسيّة عن الخوادم العالمية الموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربيّة. وبهذا الفصل تضمن روسيا استمرارية استخدام الانترنت في حالة الإعلان عن حصارها أو تعرضها لحرب إلكترونيّة عالميّة أو عندما تصاب الخوادم العالمية بعطب نتيجة زلزال أو حرب تجبرها على التوقف عن الخدمة.

طمأن ” ايفغني نوفيكوف”، الناطق الرسمي باسم وزارة الاتصالات الروسيّة، مستخدمي شبكة الانترنت في روسيا قائلا بأن التغيير الجاري في البنية التقنيّة الناقلة لخدماتها لا يؤثر على استخدامها لها، بل لا يشعرون به أصلا. لكن بعضهم لازال يخشى استغلال هذه الإستراتيجيا لممارسة الرقابة على شبكة الانترنت. إذ يعتقدون أن القاعدة التقنيّة المستخدمة تسمح للسلطات الروسيّة بتحليل البيانات المتدفقة عبر الخوادم الروسيّة والموجهة إلى المواقع والمنصات الإلكترونيّة المختلفة وغربلتها. وهذا ما حدا بالرئيس الأمريكي ” فيلادمير بوتين” إلى التأكيد على عدم وجود أي تناقض بين وجود شبكة “انترنت مسؤولة وحرة” في الوقت ذاته، في مؤتمره الصحفي السنوي الذي عقده في نهاية السنة المنصرمة.

ما سبق قوله لا يعني أن روسيا لم تسع إلى إنشاء مواقع للتواصل الاجتماعي ” وطنية”. لقد أنشأت موقع ” أودنولاسنيك ” Odnoklassnik ، ويعني ” زملاء الدراسة”، و ” موقعا أخر اختير له اسم مختصر من حرفين : “في ك” VK  ويُترجم بــ ” التواصل” في 2006. ويُعد هذا الأخير أكثر استخدما في روسيا حيث  قدر عدد مستخدميه بــأكثر من 276 مليون مستخدما. ويحتل المرتبة الأولى في بلاروسيا والمرتبة الثالثة في كزاخستان. لقد صمم على شكل موقع ” الفيسبوك”. وفي يونيو 2015 أنشأ خدمة خاصة بتقاسم الصور أطلق عليها مسمى ” سنابستر” Snapster ” يمكن تحمّيلها على هواتف ” آبل الذكية” وأنظمة أندرويد.    

إستراتيجيا مغايرة

لم تحذو الصين حذو روسيا وتسعى إلى بناء شبكة انترنت سيادية لمحدودية قدرتها التكنولوجيا القاعدية. لكنها عملت على تطوير قدراتها في مجال تطبيقات الكمبيوتر وبرامج شبكة الانترنت مما رشحها لتكون رائدة عالميا في مجال التجارة الرقمية، والدفع عن طريق الهاتف الذكي، ومواقع التواصل الاجتماعي. لقد أصبحت الشركات الصينية الكبرى المهيمنة على الاقتصاد الرقمي التي يرمز لها بحروفها الأولى: باتكس ” BATX” ، وهي “بايديو ” Baiduو” علي بابا” Alibaba و”تنسنت” Tencentو”إكينيومي” Xiaomi ” تهدّد عرش شركات “غافا” الأمريكيّة.

تُعدّ الصين البلد الأكثر تشبيكا بالانترنت، حيث بلغ عدد مستخدميها 854 مليون مشتركا في شهر أغسطس الماضي، متقدمة بذلك على الولايات المتحدة الأمريكية التي يبلغ عدد مستخدميها 300 مليون مستخدما. وقد شجعها هذا الوضع على تطوير مواقع تواصلها الاجتماعي. فالمنصة الرقمية الصينية المسماة ” توتياو” Toutiao” ومعناها ” عنوان اليوم” التي أنشأت في 2012  لتحاكي موقع ” غوغل نيوز” تفوقت عليه. إذ أصبحت تقدم الأخبار وشرائط الفيديو وفق حاجيات ورغبات مستخدميها الذين بلغ عددهم 120 مليون مستخدما نشيطا يوميا يقضون ما معدله 74 دقيقة في اليوم. وتجمع 1.2 مليونا مُنْتِجا للمحتوى: وسائل الإعلام التقليديّة، ووكالات حكوميّة، ومؤسسات اقتصادية وثقافية، وحتّى المشاهير والمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي.

ولم تستطع شركة ” يوبر” « Uber » الأمريكيّة منافسة نظيرتها الصينيّة ” ديدي” التي صُمّمت على منوالها لنقل الزبائن في سيارات خاصة، إذ تنازلت على نشاطها في الصين مقابل 20 % من رأسمالها. ووسعت “ديدي” نشاطها خارج الصين لتقدم خدمات أخرى عبر موقعها في شبكة الانترنت: تأجير السيارات، توفير سيارات كهربائية مع سائق، تأجير الدراجات الهوائية، توصيل الوجبات الغذائية إلى الزبائن.  لقد تغلبت على الشركات المشابهة في الهند، وأزاحت مثيلتها في سنغافورة، وإستونيا ، والبرازيل، وأخيرا وصلت إلى السوق المكسيكية.

هذا ناهيك عن بقية مواقع التواصل الاجتماعي، مثل ” تيك توك” الصيني الذي غزا المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربية.

أخيرا، هل يمكن القول أن نبوءة المدير السابق لشركة غوغل، ” ايرك شميت، في طريقها للتحقق. لقد تنبأ  بأن الانترنت ستُقسم إلى قسمين، قسم للولايات المتحدة والأخر للصين. هذا بعد أن لاحظ أن نموذج الانترنت الصيني أصبح أكثر شعبية في العالم.

 

التغريد في مملكة التلفزيون.

نصر الدين لعياضي

يأخذ موقع شبكة تويتر النصيب الأوفر من الحديث عن التلفزيون الاجتماعي أو التلفزيون التشاركي مثلما يسميه الناطقون باللغة الفرنسيّة. والسبب في ذلك لا يعود للمصداقية التي يتمتع بها هذا الموقع في أوساط الصحافيين وممتهني الإعلام وميلهم إلى اعتماده كمصدر إعلامي فحسب، بل لكونه أيضا من أنشط  مواقع التواصل الاجتماعي التي منحت للتلفزيون بعده التشاركي، وأثرت تجربة المشاهدين التلفزيونيّة.

لقد بدأت القوات التلفزيونية تستعين بالتغريدات في برامجها التلفزيونية بدءا من 2012، والسبب في ذلك لا يعود إلى تزايد عدد مستخدمي هذا الموقع لأن موقع الفيسبوك، على سبيل المثال، يتفوق عليه في هذا المجال ، بل لأن نصيب التلفزيون من المضامين التي تتداولها التغريدات ما انفك يتزايد. لقد قدر بعض المختصين بأن 50% من التغريدات التي أرسلها مستخدمو موقع شبكة تويتر الفرنسيون في السنة المذكورة أعلاه كانت ذات صلة ببرنامج من برامج التلفزيون: موضوعه،  مذيعيه وضيوفه. وقدّر المركز الفرسي لقياس المشاهدة التلفزيونيّة أن عدد التغريدات التي أرسلت إلى البرامج  التي بثها التلفزيون الفرنسي في السنة 2015  بلغ 70 مليون تغريدة!  رقم رهيب أليس كذلك؟

التنافس

مكنّت هذه التغريدات التلفزيون الفرنسي من تحقيق أمنيته الغالية والمتمثلة في الالتحاق بركب القنوات التلفزيونيّة الأمريكيّة. فالبرنامج المسمى بــ ” لي برول أي لي زاكت” Les paroles et les actes ،” الأقوال والأفعال”، الذي كانت تبثه قناته الثانية خلال الفترة الممتدة من 23 يونيو 2011 إلى 26 مايو 2016 “، تلقى حوالى 40063 تغريدة في إحدى حلقاته  حسب مؤسسة ميزاغراف ” Mesagraph”، شريكة التلفزيون الفرنسي في مجال قياس استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.

إن البرنامج التلفزيوني المذكور سياسي بامتياز، يستضيف شخصية سياسية بارزة في حوار يدوم ساعتين ونصف، يشارك فيه صحافيون من مختلف وسائل الإعلام الفرنسية ونشطاء في المجتمع المدني واخصائيون في مجالات مختلفة: الاقتصاد، التجارة، الزراعة، السكن، الصحة، العمل والتشغيل، الهجرة، الطاقة، وغيرها من المجالات.

إن العدد الأسبوعي للتغريدات التي ترسل إلى حساب هذا البرنامج في الفيسبوك يقترب من البرامج السّياسيّة الكبرى التي يبثّها التلفزيون الأمريكي، مثل البرنامج الشهير”  Meet the press ” ميت ذو برس” ” في لقاء الصحافة” الذي شرعت قناة ” أن بي سي” “NBC “ في بثه في 1947 والذي يتلقى 109717 تغريدة. وبرنامج “” “Fox News Sunday  فوكس نيوز ساندي” ” أخبار الأحد في فوكس نيوز” الذي شرعت في بثّه في 1996، والذي يتلقى 51940 تغريدة . وبرنامج Al Punto” “ البانتو” أي ” في آنه” الذي تبثهّ قناة ” أي بي سي” ABC للمشاهدين المنحدرين من جنوب القارة الأمريكيّة والذي يحظي بـ 41336 تغريدة.

لقد كانت القنوات التلفزيونيّة تتنافس لكسب أكبر عدد من المشاهدين. وهاهي رقعة المنافسة تتسع اليوم لتشمل عدد التغريدات التي تحصل عليها برامجها!  

قد يلاحظ القارئ الكريم أن هذه البرامج المذكورة كلها سياسيّة وبدأت تنافس برامج الرياضة وبرنامج تلفزيون الواقع، مثل “ستار أكاديمي” في عدد التغريدات! حيث لم يتجاوز عددها في أي برنامج من البرنامجين 20 مليون تغريدة طيلة السنة!

تعدّد الشاشات

يشترط التلفزيون الاجتماعي من المغرد أن يمتلك شاشتين على الأقل، شاشة التلفزيون التي يتابع عبرها البرنامج التلفزيوني وشاشة أخرى: لوح إلكتروني أو هاتف ذكي ليرسل عبر أحديهما تغريداته في شكل نص، لا يزيد عن 280 علامة بعد أن كان يقتصر على 140 علامة، أو صور أو فيديوهات أو روابط إلكترونية. فتظهر التغريدة في أسفل شاشة التلفزيون لبرهة لا تزيد عن اثنى عشرة ثانية.  ويمكن لأي مغرد أن يضع ” hashtag  ” هاشتاغ”، أي الوسم، الذي يعمل على توحيد التغريدات في محور أو في عبارة واحدة. ويعتبر هذا الوسم ككلمة مفتاحية ذات صلة بعنوان البرنامج التلفزيوني أو الموضوع الذي يطرحه للنقاش مما يسمح للمغردين بمتابعة الحوار على موقع شبكة تويتر والتعليق على ما جاء في البرنامج.

من المنطقي، بل من الضروري ألا ينشر أي برنامج تلفزيوني كل التغريدات التي تصله حتّى وإن كان في استطاعته فعل ذلك. فإن فعل فإنه يُدفن في سيل التغريدات ويُطمس. فالبرنامج التلفزيونيّ الفرنسيّ المذكور أعلاه لا يبث سوى حوالى 60 تغريدة  من بين ملايين التغريدات التي تصله عبر هاشتاغ ” وسمه”، حسب الباحث حسان عطيفي من جامعة التكنولوجيا بـمدينة ” تروا” Troyes الفرنسية. يتولى سبعة أشخاص مهمة انتقاء التغريدات التي تعتبر مهمة لعرضها على رئيسي التحرير للنظر في إمكانية بثّها عبر الشاشة عندما يتطرق البرنامج التلفزيوني إلى المحور الذي تثيره. وقد تساءل الكاتب ذاته عن معايير انتقاء التغريدات ملمحا إلى أنها تبطل الحديث عن موت حارس البوابة الإعلامية الذي راج بعد تزايد استخدام شبكة الانترنت وتدفق الأخبار في شرايينها. إنه الحديث الذي لم يأخذ في الحساب عملية تملّك وسائل الإعلام التّقليديّة لمنصات التواصل الاجتماعي.

                                                    انتقاء

استنتج الباحث حسان عطيفي جملة من القواعد التي يسترشد بها رئيسا تحرير البرنامج المذكور في عملية اختيار التغريدة التي تظهر على شاشة التلفزيون. منها على وجه التحديد اختيار عينة تمثيلية من التغريدات مع الحفاظ على التوازن في اتجاهاتها، أي عدم نشر التغريدات التي تعارض فقط الضيف أو تخالف رأيه، والامتناع عن نشر التغريدات التي تقدح أو تسبّ الضيف أو أحد المشاركين في الحوار. وكذا التغريدات التي تكون عبارة عن وصلات إلكترونيّة لصفحات ومواقع في شبكة الانترنت أو اقتباس ما قاله الضيف في البرنامج.  هذا إضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار الإكراهات التقنيّة، أي نشر التغريدات وفق فاصل زمني محدّد، وعدم إبراز التغريدة في الشاشة بطريقة تغطي وجه ضيف البرنامج.

أحدث اقحام التغريدات في متن البرامج التلفزيونيّة تغييرا في طريقة عمل التلفزيون وفي عقد الاتصال الضمني الذي يجمع مذيع البرنامج التلفزيوني وجمهوره وضيفه. فالتغريدات التي تظهر على شاشة التلفزيون يشاهدها مذيع البرنامج ويتابعها المشاهدون ولا يطلع عليها المشاركون في الحوار ولا الضيف رغم أنها موجهة إلى هذا الأخير! ويكتفي المذيع بقراءتها ويطلب من ضيفه التعليق عليها أو الرد على أصحابها. إن هذه الطريقة المتبعة في نشر التغريدات تنتج شكلا من التواصل غير المتكافئ إن صح التعبير. فالمغردون يعرفون الضيف الذي قدمه المذيع في بداية بث البرنامج ويطلعون على مساره المهني وربما الاجتماعي. وفي المقابل لا يعرف هذا الضيف أي شيء عن هوية الذين تنشر تغريداتهم. وهذا خلافا للاتصال الهاتفي في البرامج الإذاعية والتلفزيونية التي كان التواصل فيها مع الجمهور يتم عبر الهاتف، حيث يطلب المذيع من المتصل ذكر اسمه، والمنطقة التي يتصل منها، ومهنته في بعض الأحيان، وحتى سنه إن اقتضت الضرورة. إن حرمان الضيف والمشاركين من متابعة التغريدات التي تبثّ عبر الشاشة يضعف مبدأ التفاعلية التي هلّل لها الكثيرون منذ عقدين من الزمن. وذلك لأنها تظل محصورة بين مستخدمي موقع شبكة تويتر، ولا تسجل حضورا قويًّا في الشاشة. لذا لم يتردّد الباحث حسن عطيفي عن وصفها بالتفاعلية المخادعة! إذا ما الجدوى من نشر التغريدات في برامج التلفزيون؟

                                                          الإجابة

تختلف الإجابة عن هذا السؤال باختلاف مسارات المجيبين. فمدير قسم التلفزيون في مؤسسة قياس المشاهدة ” ميديا متري” Médiamétrie “، جوليان روسفالون، يرى أن القنوات التلفزيونيّة مهتمة برفع عدد مشاهديها. لذا تشجعهم على الانخراط في الحديث الرقمي عن البرامج التلفزيونيّة. ويرى نائب مدير الطبعات الإلكترونية في مؤسسة التلفزيون الفرنسي، من جهته: ( أن التغريد عبر شاشة التلفزيون يعدّ وسيلة من أجل تعويد الجمهور وجرّه إلى الحفاظ على صلته بالبرنامج التلفزيوني قبل بثّه، وفي أثناء بثّه، وبعد نهاية إرساله. فالتغريدة التي تبثّ عبر شاشة التلفزيون تولد جملة من التعليقات والتعقيبات بين مستخدمي شبكة الانترنت.)

إن التغريدات التي تبث في البرامج التلفزيونيّة  تؤكد على التناغم والتكامل بين خطاب البرنامج التلفزيوني وخطاب جزء من مشاهديه. وتدعو إلى التفكير في المنطق الذي يجعل ” الخطاب الخاص”، الذي تتضمنه تغريدات بعض المغردين، ينفذ إلى شاشة التلفزيون وينتشر في الفضاء العمومي.

يعتقد الكثير من الباحثين أن توظيف القنوات التلفزيونية لمواقع التواصل الاجتماعي، وشبكة تويتر تحديدا يندرج ضمن المسار الذي سلكه التلفزيون منذ مطلع تسعينات القرن الماضي. والذي دُشن ببرامج الحوار الاستعراضي ” Talk show ” وتلفزيون الواقع الذي أعطى الحق في الكلام للأشخاص العاديين والمغمورين، أي من عامة الناس الذين يأتون إلى الأستوديو لتقديم شهاداتهم العفوية على واقعهم المعيش.

ويعتقد البعض أن ” التغريد في مملكة التلفزيون” يندرج ضمن التحول العام الذي يشهده قطاع الإعلام والثقافة والتعليم، والذي يستند إلى فكرة التشارك في الإنتاج، وتقاسم المنتج، وتطبيق الذكاء الجماعي، كما هو مجسد في موسوعة ” ويكيبيديا” على سبيل المثال. وفي هذا التحوّل تغيرت مكانة الجمهور في المعادلة الإعلامية، إذ انتقل من جمهور مستهلك إلى جمهور مواطن. ومع تملك وسائل الإعلام التّقليديّة لمواقع التواصل الاجتماعي ظهر الجمهور الشاهد، والمناضل، والقاضي والمحلّل.

كيف نفكر في أخلاقيات الصحافة في المنطقة العربية؟

                                                     نصر الدين لعياضي

يعتقد البعض أن وهن الصحافة في المنطقة العربية وانحرافها يعود  أساسا إلى عدم احترام أخلاقيات الإعلام . يمكن أن نعتبر هذا الرأي بمثابة إجابة جيدة. لكن أين السؤال؟ 

تطلعنا بعض المنظمات المهنية وبعض الصحافيين بين الحين والآخر، على جملة من الانتهاكات لأخلاقيات الصحافة في هذا البلد العربي أو ذاك. فمن التحرش ببعض المتهمين في بعض القضايا التي لازالت في مرحلة التحقيق على مستوى الأجهزة الأمنية وتقمص دور القاضي الذي يحكم عليهم، مرورا ببث صور مهينة لأشخاص ساعة اعتقالهم بعد أن صدرت بحقهم مذكرات توقيف، وتثبيت التهم المنسوبة إليهم قبل امتثالهم أمام المحكمة، واستغلال صور أطفال قصر لأغراض تجارية ودعائية، وبثّ صور صادمة للقتل والتمثيل بالجثث التي تمارسها الجماعات المتطرفة، ونشر أخبار كاذبة دون تصحيحها[1]، واختلاق أحداث لا وجود لها في الواقع، ونشر مواد صحفية تمزج بشكل مشبوه بين الإشهار والإعلام، وتحريف المعلومات، والإفراط في نشر الأخبار مجهولة المصدر، والتحيز في نقل الأخبار وعدم الانصاف، والتحريض على ممارسة  العنف والميز العنصري،  وصولا إلى ابتزاز رجال المال والأعمال من أجل الحصول على امتيازات شخصية دون وجه حق أو دعم مالي للمؤسسة الإعلامية باسم الإشهار[2]. هذه بعض الأمثلة التي يبدو أنها تتفاقم في المستقبل القريب مع تعدّد حوامل الأخبار وانخراط أطراف جديدة في إنتاجها وبثّها.

إن الوعي بخطورة هذه الممارسات يختلف بين ممارسي الإعلام في هذا البلد العربي أو ذاك. فممتهنو الصحافة في بعض البلدان العربية يفتقدون المواثيق التي تؤطر النشاط الصحفي على الصعيد الأخلاقي ، وبعضهم بادروا بإصدارها مثلما حدث في المغرب وتونس. وأقدمت بعض المؤسسات الإعلام العربية، القليلة، على إصدار ميثاق أخلاقيات العمل الخاص بها. والسؤال الذي يمكن أن يطرحه البعض يتمثل فيما يلي: ما هو نصيب هذه المواثيق من النجاح في الحدّ من الممارسات المذكورة أعلاه التي تطعن في مشروعية العمل الصحفي؟

ربما يجرّنا هذا السؤال إلى سؤال أخر : ما هي الأسباب التي ساهمت في بروز هذه الممارسات وتلك التي ساعدت على استشرائها؟  فمن الصعوبة القضاء عليها دون معرفة أسبابها.

لتذليل هذه الصعوبة نميل إلى مراجعة الخطاب عن أخلاقيات الإعلام في المنطقة العربية وتحليله. وهذه مهمة ليست يسيرة نتيجة تعقد هذا الخطاب وتعدّد منتجيه ومصادره . لكن يمكن، من باب التبسيط، تصنيفه إلى فئتين : فئة الخطاب الجامعي، وفئة خطاب المهنيين والسياسيين والمثقفين.

خطابان.

لازال الدّرس الجامعي في العديد من الجامعات العربية يتناول موضوع أخلاقيات الإعلام من زاوية مذاهب الإعلام الكبرى: السلطوي، الليبرالي، والمسؤولية الاجتماعية والاشتراكي، وقد يضيف له البعض الإسلامي! ويثرى بشرح لنماذج من مواثيق أخلاقيات الإعلام التي صادقت عليها النقابات والمنظمات الصحفية الوطنية والدولية. ويعتقد بعض الطلاب: صحافيو المستقبل، أن هذا الدّرس لم يساعدهم كثيرا على مواجهة ما يعترضهم من قضايا ذات الصلة بأخلاقيات الصحافة في نشاطهم الميداني. هذا إضافة إلى أن المذاهب المذكورة قد تعجز عن تفسير الاختلاف في النظر إلى مسألة أخلاقيات الصحافة في البلدان التي تستمد ممارستها الإعلامية من الفلسفة الليبرالية ( فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية مثلا.) ويلاحظ أن بعض الأساتذة يدفعون بالدّرس الجامعي عن أخلاقيات الإعلام في اتجاه فلسفة الأخلاق وفق التّصوّر الكانطى، الذي يسمو بالواجب حتّى وإن كان ضد المنفعة. إنه التّصوّر الذي يؤكد على أن ( سيرتنا صحيحة إن كانت بغرض احترام القانون الأخلاقي، وليس لأننا نجني منفعة منها، أو لأن هذه السيرة  تكون لصالح سعادتنا. فالتصرف بحكم الواجب لا غير هو الذي يمنح قيمة أخلاقية لفعل ما (.[3] وينتهي هذا الدرس، مع الأسف، إما بتقديم “مواعظ” مهنية أو التنديد بسلوك الصحافة والصحافيين!

ينأى هذا التّصوّر عن واقع الممارسة الصحفيّة. ويسمو بالأخلاقيات عن العراك اليومي، ويجنب أصحابه المشاكل التي قد تترتب عن الحفر في العوامل التي تنتج الانحرافات في الممارسة الصحفية. لكنه يقع ، مع الأسف، في الخلط بين الأخلاق Morals والأخلاقيات Deontology. فالأخلاق تحيلنا إلى مجموعة من القيم والمبادئ التي نهتدى بها في حياتنا اليومية، وتمكّننا من التمييز بين الخير والشر، والعدل والظلم، والمقبول والمرفوض. بينما يعود مفهوم ” الأخلاقيات” إلى اللغة اليونانية ” دينوتس” ( deontos ) والتي تعني ” الواجب” وتتضمن جملة من الالتزامات التي يتطلب من الأشخاص القيام بها في عملهم؛[4] أي أنها مجموعة من التوصيات الأدبية والاعتبارية، ومدونة سلوكية يتبعها المحترفون في مهن محددة، ويستدلون بها في نشاطهم لأنها توجههم نحو ما هو أفضل للتصرف في مواقف وأوضاع معينة. يتبنونها بشكل طوعي ولا تفرض عليهم بالقوة لأنهم هم من سَنّوها.

                                                      تعارض

هل يمكن للأخلاقيات أن تتعارض مع الأخلاق؟ سؤال لا زال يثير الكثير من الجدل. فبعض الصحافيين ومنظماتهم المهنية يعتقدون أن الأخلاق تملي على المصور الصحفي، على سبيل المثال، التدخل لإنقاذ غريق حتّى وأن تطلب الأمر التخلي عن مهمته، بينما الأخلاقيات تتطلب منه أداء واجبه المهني والتقاط صور للغريق كالتزام مهني وتلبية للحق في الإعلام.

ويضع هذا التصور مسألة أخلاقيات الصحافة على كاهل الصحافي المطالب بالاحتكام إلى ضميره وتغليب واجبه حتّى وإن تعارض مع مصلحته. بينما يدرك الأخصائيون بأن (أخلاقيات الإعلام لا تختزل في الفعل الذي يقوم به الأشخاص المرئيون أكثر في حقل الإعلام: الصحافيون، والمصورون، والمخرجون، وفنيو التلفزيون. إنها ترتبط أيضا بالفعل الذي يقوم به قادة وسائل الإعلام ، والمؤسسات الإعلامية)[5].

أمام تقاعس بعض الأنظمة العربية عن تطبيق بعض بنود قوانين الإعلام التي سنّتها يتداخل في ذهن بعض الكُتّاب والمهنيين والسياسيين وحتّى النقابيين المفهومين التالين : القانون والأخلاقيات. هذا ما يتضح على سبيل المثال من إدراج بعضهم المساس بالحياة الخاصة للأشخاص العاديين ” و”التشهير بالغير” في خانة انتهاك أخلاقيات العمل الصحفي [6] ، بينما أدرجها المُشَرّع في خانة قوانين الإعلام في جلّ الدول العربيّة. كذلك الأمر بالنسبة لحق الرد الذي يُعدّ فصلا كاملا في قوانين الإعلام لكن لا تلتزم به جلّ وسائل الإعلام في المنطقة العربية،[7] ولا يندرج في باب الأخلاقيات. ويتأكد هذا الخلط أكثر في مواثيق أخلاقيات الإعلام التي صدرت في لبنان في 1958، و1974، و 1992، و 2006 التي أبرمت بعضها نقابة الصحافيين مع الحكومة. وجاء بعضها الآخر بعد اتفاق بين مجالس إدارة المؤسسات السمعية البصرية والحكومة. وتعتبر هذا المواثيق بمثابة وثائق تكرس التوافق بين السلطة السّياسيّة والصحافة لضمان حرية التعبير وتحدّيد مسؤوليات وسائل الإعلام في ظروف سياسية خاصة مر بها لبنان[8]. ولم تنبع من قاعات التحرير، ولم يصغها الصحافيون بقصد تنظيم مهنتهم وضبطها.

يمكن القول من باب توضيح الفرق بين القانون وأخلاقيات الإعلام بأن (القانون يحدّد مجمل القواعد التي تطبق في مجتمع معين. ويعاقب كل من لم يلتزم بها. ويروم إحداث الانسجام الإنساني في المجتمع، والتوافق بين مصالح جميع المواطنين، ويمنع حدوث النزاعات ويحلّها إن حدثت في إطار بعض القيم الأساسية الخاصة بمجتمع ما وثقافة معينة.)[9] إذا القانون يتسم بطابعه الزجري ويطبق على مهنة ما دون الحصول على موافقة مسبقة من أصحابها. بينما الأخلاقيات هي مجمل الواجبات والمعايير التي تضبط مهنة ما والتي يتفق عليها أصحابها. والسؤال المطروح هل أن الأخلاقيات تتعارض مع القانون؟ سؤال لازال يثير الكثير من الصراع بين السلطة القضائية وممثلي بعض المهن. فبعض المنظمات الطبيّة، على سبيل المثال، تجيز ممارسة ” القتل الرحيم” في مدوناتها الأخلاقية عندما تفقد الهيئة الطبيّة المشرفة على علاج المريض الأمل في شفائه، وتقرّ بأن الأفضل الرفق به وتخليصه من عذابه. بينما القانون يُجرّم القتل مهما كانت صفته  رحيما أو غير رحيم، سواء كان مُتَعَمِّداً أو دون قصد.

   أسباب

السؤال الذي يثار هو كالتالي: لماذا لا تحترم أخلاقيات الإعلام في الصحافة العربيّة؟                        يحصر بعض الصحافيين والنقابيين وأساتذة الصحافة الأسباب التي تقف وراء عدم الالتزام بأخلاقيات مهنة الصحافة في العديد من البلدان العربيّة، في العوامل التالية: القيود التي تفرضها السلطة السّياسيّة وجماعات الضغط على الصحافة، وخضوع الإعلام للأجندات السّياسيّة للدول، وهشاشة اقتصاد وسائل الإعلام وتبعيته للإشهار ، والخلط بين الإعلام والإشهار، ومزج الإعلام بالعلاقات العامة[10]، وثقافة المجتمع، والترهيب الذي تمارسه الجماعات المتطرفة[11]، ورؤية الصحافيين لذاتهم[12]، والتحاق من لا مهنة لهم بالعمل في قطاع الصحافة.[13] وضعف تكوين الصحافيين.[14]

لفهم الإخلال بأخلاقيات مهنة الصحافة في البلدان العربية بشكل أفضل، يجب النظر إلى السياق التاريخي الذي نشأت فيه هذه الصحافة وتطورت ، والذي يختلف عن السياق الذي نشأت فيه الصحافة الأجنبية في بلدان شمال أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. ففي هذه البلدان ظهرت الصحافة في سياق حرية الفكر والتعبير، مما يفترض وجود تعددية الرأي والفكر. وتطورت في ظل منافسة اقتصادية تؤطرها جملة من القوانين والتشريعات التي تتجدّد باستمرار بتطور المجتمعات ، وفي ظل تطور مجتمع مدني قوي تشارك فيه جمعيات الصحافيين ونقاباتهم التي لعبت دورا كبيرا في صياغة مواثيق أخلاقيات الإعلام. بينما ظهرت الصحافة في المنطقة العربيّة ضمن مشروع سياسي مناهض للاستعمار ، بدءًا بصحيفة “العروة الوثقى” التي أصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في باريس في 13 مارس 1884. وهذا يعني أنها صحافة نضال وتجنيد ضد العدو. فــفي عرفها “كل من ليس معها هو ضدها”؛ أي عدو وليس منافسا أو غريما تختلف معه في الرأي أو الموقف أو الإستراتيجيا ، بمعنى أنها صحافة أحادية الفكر تعتمد أكثر على مواد الرأي على حساب المعلومات والاستقصاء. تُخوّن كل ذي فكر مخالف و”تشيطنه”. فالمهم بالنسبة لها يكمن في مضمون الرسالة التي توصلها إلى الجمهور. ولا تولي الكثير من الاهتمام والعناية بالجوانب المرتبطة بأخلاقيات الإعلام ، مثل ضرورة التحرّي عن صحة المعلومات والأخبار ، وعدم الافراط في الاستناد إلى مصادر الأخبار المجهولة أو التستر عليها،  والإنصاف في المعالجة الصحفيّة للقضايا المختلفة، وعدم استعمال الأساليب المشينة للحصول على المعلومات. ضمن هذا السياق رسخت الممارسة الصحفيّة في العديد من البلدان العربية في ظل عدم الفصل بين السلطات: التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة، مستفيدة من تعثر الصحافيين في تنظيم مهنتهم وضبطها على غرار الفئات المهنيّة الأخرى: الأطباء ، والصيادلة، والمهندسين المعماريين، والمحامين، والقضاة، وغيرهم. واستندت الكثير من وسائل الإعلام الخاصة، التي انطلقت كمشاريع تجاريّة في العديد من البلدان العربيّة، إلى هذه الممارسات. وأضافت لها ما يوحي ” بالتراجع” في ممارسات أخلاقيات الإعلام، مثل ابتزاز الغير ومساومتهم للحصول على الإشهار أو على امتيازات مثلما ذكرت بعض النقابات.[15] وقد تفاقمت هذه ” الإضافات “، مع الأسف، بعد أن التحمت مصالح الجماعة المالكة لوسائل الإعلام والقوى السّياسيّة المتحكمة في صنع القرار. وجعلت من وسائل الإعلام أداة لتصفية الحسابات السّياسيّة كما حدث في الجزائر¨.

لعل القارئ الكريم يخالفنا الرأي بالقول أنه من الخطأ تقييم ممارسات أخلاقيات الإعلام في المنطقة العربية على ضوء مواثيق الشرف والمدونات الأخلاقية المعمول بها في المؤسسات الإعلامية الغربية. وذلك لأن الأخلاقيات معطى نسبي يخضع لتطور المجتمعات. ففي فرنسا على سبيل المثال أقدمت إدارة قناة التلفزيون الفرنسي الثانية على فصل مذيعة أخبار عن العمل في 1976 لأنها تجرأت وقدمت نشرة الأخبار وهي مرتدية تنّورة تظهر ركبتيها. واليوم لا أحد يعترض على صور المذيعات وضيفات البرامج التلفزيونية اللواتي ترتدين لباسا لا يخفي من مفاتنهن إلا القليل! لا سلطة ضبط السمعي البصري، ولا السلطات العمومية، ولا الصحافيين ولا المشاهدين. وتعبر أخلاقيات الإعلام عن الاختلاف الثقافي بين الشعوب وتعكس خصوصيات  كل شعب وقيمه. إذ يختلف موضوع الحياة الشخصية، على سيل المثال، في المجتمع الفرنسي عن المجتمع الأمريكي. لعل البعض يتذكر أن الصحافة الأمريكيّة لم تتردّد في نشر الملف الطبي للرئيس الأمريكي الراحل “رولاند ريغن” الذي تضمن صورا بالأشعة لجهازه الهضمي أثناء مرضه! بينما حكم القضاء الفرنسي بمنع توزيع كتاب “السر الكبير”، الذي ألفه كلود غولبي طبيب الرئيس الفرنسي السابق، فرانسوا متيران، الخاص بمعية الصحافي الفرنسي ميشال غونود. والذي يروى تفاصيل عن مرض الرئيس المذكور بعد أسبوع من وفاته.

اعتراض

قد يجد البعض أن ما سبق قوله يفتقد الدقة لأنهم يعتقدون أن الحديث عن أخلاقيات الإعلام لا يجدي نفعا في غياب ميثاق الشرف داخل المؤسسة الإعلامية أو على مستوى منظمات الصحافيين والهيئات الساهرة على تطبيقه . فالقول بأن أخلاقيات الإعلام تراجعت في المؤسسات الإعلامية يعني أن هذه المؤسسات كانت تملك ميثاقا للشرف المهني والتزمت فعلا بتطبيقه لكنها تراجعت عن تجسيده في الممارسة العملية لأسباب مجهولة. وهنا يكمن التغريب الذي يحوّل الشيء أو الظاهرة التي نريد دراستها من أمر “عاد جدا” ماثل مباشرة أمامنا إلى أمر مدهش غير متوقع.” ففي معنى من المعاني يصير الوضوح في حد ذاته غير مفهوم، على حين أن هذا لم يحدث إلا لكي يجعله مفهوما كل الفهم.” [16]

 وقد يلومنا البعض على التطرق لموضوع أخلاقيات “الإعلام العربي” دون الأخذ بعين الاعتبار تجدّدها وتطورها بتطور الطلب الاجتماعي واستشعار الصحافيين ورجال الإعلام الصعوبات الجديدة والمخاطر التي تهدّد مهنتهم. ويستدلون في ذلك بميثاق الوجبات المهنية للصحافيين الفرنسيين الذي صودق عليه في 1918. وتمّت مراجعته في 1938. وعُدّل في 2011  ليُضاف له مبدأ السر المهني لحماية مصادر الأخبار. وليحظر كل الأساليب غير النزيهة والمشينة للحصول على الأخبار والمعلومات.[17] وربما يبلغ اللوم مداه إن اقترن بالقول أن الكثير من وسائل الإعلام العربيّة، خاصة العموميّة، لا تحتاج إلى حماية السر المهني لأنّها لازالت “صحافة جالسة”، أي أن صحافييها لا يغادرون قاعات التحرير إلا لِمَامًا ، ينتظرون البيانات وبرقيات وكالات ألأنباء لنشرها. وإن غادروها فتظلّ مصادر معلوماتهم رسميّة في الغالب حتّى وإن تستّروا عليها. لعل بعض صحافيي وسائل “الإعلام العربية” المتشائمين لا يرون أي جدوى من حظر الأساليب المشبوهة للحصول على المعلومات والأخبار في مجتمع يعاني من فساد طبقته السّياسيّة ونخبته الاقتصاديّة. فالصحافة في نظرهم لا تنشط في بيئة معزولة عن المجتمع. ويحتمل أن ينمّ هذا الرأي عن نزعة تبريريّة يعزّزها القول بأنّ الصحافة مؤسسة اجتماعيّة وسياسيّة وثقافيّة ولا تشكل حالة استثنائيّة في أي مجتمع.

تأسيسا على ما سبق ذكره، هل يمكن أن تستدرك وسائل الإعلام العربيّة ” تأخرها” في تطبيق أخلاقيات العمل الإعلامي إن توفرت الشروط الضروريّة لذلك، مثل تنظيم مهنة الصحافة وتبني سياسة توظيف واضحة وتطبق على الجميع، وضمان حقوق الصحافيين بما يضمن لهم كرم المعيشة، وقيام الصحافيين ذاتهم بإصدار لوائح لأخلاقياتها ، وإخضاعهم للمساءلة من قبل نظرائهم. وإجبار المؤسسة الإعلامية على الرد على مساءلتها. وإنشاء هيئات مستقلة لضبط العمل الصحفي والبثّ الإذاعي والتلفزيوني تشمل ممثلي المجتمع المدني: محامين، قضاة، فنانين، مثقفين، وهذا تجسيدا لقناعة راسخة بأن الحق في الإعلام وصيانة حرية التعبير ومقاومة انحراف وسائل الإعلام كلها مهام لا تقع على كاهل وسائل الإعلام والسلطات العمومية وحدها لأنها تعد شأنا مجتمعيا.

تفاديا للسقوط في التعميم، يمكن القول أن هذا ” التأخر” متفاوت بين وسائل الإعلام العربيَة من جهة، وبين البلدان العربيّة من جهة أخرى. فهناك بعض البلدان استكملت شروط ضبط العمل الصحفي، وتعمل المنظمات الصحفية بجدّ على مراقبة الالتزام بأخلاقياته.

                                              هاجس كوني

لم يكف مجال الأخلاقيات عن التوسع والتمدّد. وهدفها لم يعد مقتصرا على تحديد الواجبات المهنيّة، بل أضحى يروم تنظيم النشاط الاقتصادي سواء بالحد من تدخل الدولة الملزم أو ترقية نشاط ما وتطبيع المنافسة.[18] لذا أصبحت الأخلاقيات تشكل هاجس كونيًّا متجددًّا بتعقد قطاعات النشاط الاقتصادي والاجتماعي والعلمي، وبتطور المهن. فهامش استقلالية الصحافة كمهنة نشأ محدودا وهشّا ويزداد هشّاشة بتضاعف الإكراهات الاقتصاديّة والسّياسيّة والتكنولوجيّة ، مما دفع بعض المختصين إلى الاعتقاد بأن أخلاقيات الإعلام تحوّلت إلى أمنية أو ضرب من الوهم اللذيذ  أمام الإخفاق في تحقيق{ التمفصل الضروري بين قواعد ما يجب ” إنجازه على أكمل وجه” ( وهو من صلب الأخلاقيات)، والشروط الملموسة ” لإنجازه” والتي لا تتزامن بالضرورة مع ” الخبرة والمهارات”}[19]

 يشكل هذا التمفصل تحديا كبيرا للصحافيين والمؤسسات الإعلامية  ذا أبعاد مختلفة: تكنولوجية واقتصادية وسياسية.

على الصعيد التكنولوجي: لازالت القنوات التلفزيونيّة تعاني من وطأة البث التلفزيوني المباشر. فالصحافي الموجود في مكان وقوع الحدث لينقله ساعة حدوثه لا يملك من الوقت ما يسمح له بالتحرّي في تفاصيله وسياقه وخلفياته. ولا يستطيع النأي قليلا عنه والتفكير المتروّي فيه. وإن حاول أن يفعل ذلك فالمنافسة بين القنوات التلفزيونيّة وبقية وسائط الاتصال لا ترحمه. أمام هذه المعاناة في تحقيق المطلب الأخلاقي: الدقة في نقل الأخبار والمعلومات، داهمت مواقع التواصل الاجتماعي المؤسسات الإعلامية وحاولت أن تغير قاعدة تعاملها مع الأخبار، بعد أن أصبحت تنشرها قبل التحقق في صحتها ومصداقيتها. بل تخلت عن هذه المهمة وأحالتها إلى مستخدمي هذه المواقع. وقد حاولت وسائل الإعلام مجاراة هذا التحوّل في العمل الصحفي وأصبحت تستعين بمستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي للتأكّد من صحة المعلومات قبل نشرها. غيرت هذه المواقع بعض القيم الإخباريّة ، مثل الواقعية والحقيقة، وجعلتها تُقاس بعدد الذين يطلعون على الخبر. فكلما ازدادوا ارتفعت مصداقيته! لقد ابتكرت هذه المواقع ” الأخبار الفيروسيّة”، أي التي تُعدي مثل الفيروس. فلا تراعي فيما تنشره الانصاف والنزاهة والواقعية والدقة لأنها تَتَعّمد الاستفزاز واستثارة العاطفة من أجل جذب اهتمام أكبر عدد من مستخدمي هذه المواقع ، ليكبسوا على أزرار: أحب أو أتقاسم  لرفع نصيبها من الإشهار.[20] وها هي وسائل الإعلام تواجه اليوم تحديًّا جديدا ممثلا في الأخبار المزيفة  Fake News ، وشرائط الفيديو المضللة Deep Fake. والقليل جدا من وسائل الإعلام العربية أعدّت العُدّة لمقاومتها.

على صعيد المؤسساتي: يمكن القول أن المؤسسة الإعلاميّة تعيش طفرة جينيّة. فرضت على الصحافي أن ينوع مهاراته ويطور كفاءته. فبعض المهن اندثرت، وانصهرت أخرى في مهنة واحدة. وظهرت مهن جديدة. تؤكد هذه الطفرة أن العمل الصحفي أصبح متلاحما. فالمادة الصحفية التي تنشر أو تبث هي ثمرة تعاون العديد من الأطراف. فمن الصعب القول أن هذه المادة الصحفية من إنتاج فلان بمفرده. فكل واحد يتكفل بمهمة أو يقوم بإنجاز جزء معين من المادة الصحفية: الموثق الذي يجمع البيانات والوثائق الورقيّة والرقميّة ، ومحلّل البيانات ، والمختص في الغرافيكس الذي يعطي بعدا مرئيا للمادة الصحفية سواء من خلال الأشكال والرسوم البيانيّة والمجسمات أو على صعيد الإخراج ككل ، والفني أو المهندس الذي يشرف على موقع الوسيلة الإعلامية في شبكة الانترنت وينشر المواد تباعا، والشخص الذي يتابع تعاليق الجمهور وتفاعلاته مع المادة المنشورة فينتقي منها ما يصبح جزءا أساسيا من متن المادة الصحفية.  هكذا انفتح المجال لتعدّدية المسؤولية على ما ينشر أو يبث فطرح صعوبة على صعيد أخلاقيات العمل الصحفي. فهذه الأخيرة  تنص على مبدأ  “التنسيب” imputability؛ أي تعيين الشخص الذي يمكن تحمّيله مسؤولية الإخلال بإحدى بنود ميثاق أخلاقيات الصحافة في هذه المادة الإعلاميّة أو تلك.

على الصعيد الاقتصادي: اشتد التوتر البنيويّ بين أهداف الصحافة كمهنة بكل ما تحمله من مثل وواقع المؤسسة الإعلامية الاقتصادي. ومع تفاقم الأزمة التي يعيشها قطاع الإعلام  ترتب عن هذا التّوتّر بعض التنازلات على صعيد أخلاقيات الإعلام، والتي يمكن ملاحظاتها على أكثر من مستوى، منها المزج بين الإعلام والإشهار وتأسيس ما أصبح يعرف ” بالربورتاج الإشهاري ” advertorial ” publireportage” في الصحافة المكتوبة أولا، ثم عمّ مختلف وسائل الإعلام. وInfotainment” ، التي تدل على اتجاه في معالجة مجمل البرامج – التلفزيونية والإذاعية- والإخبارية وفق أساليب الترفيه[21]. وهذا بقصد تقريب الأخبار من الجمهور وجعلها في متناول الجميع، وزيادة شعبية الوسيلة الإعلامية وبرامجها للحصول على أكبر عائد من الإشهار. وقد اتسع هذا الاتجاه بعد أن أصبحت شبكة الانترنت ومنصاتها الرقمية منافسا لوسائل الإعلام السمعية، والسمعية البصرية، في مجال الإشهار.

لقد انتهى التّوتّر المذكور بتسليم إدارة المؤسسات الإعلامية إلى إداريين قادمين من قطاعات مختلفة: البنوك، والبناء والإسكان، والتجارة الذين لا هم لهم سوى تعديل موازنة المؤسسة وتحقيق الأرباح. وقد دفع الصحافيون ثمن هذا التّوتّر: تسريح الكثير منهم، والتوجه إلى الاعتماد المتزايد على الصحافيين الناشئين الذين يتعاملون بالقطعة أو ضمن عقود عمل محدودة المدى والذين لا يسعفهم وضعهم المهني للدفاع عن أخلاقيات العمل الصحفي.

أخيرا، يمكن القول أن خلاص الصحافة من متاعبها لا يأتي من ترحيل مشاكل وسائل الإعلام المعقدة وتعليقها على مشجب ” غياب أخلاقيات العمل الصحفي”. وهذا لا يعني استصغار البعد الأخلاقي في الارتقاء بالعمل الصحفي، بل يقرّ بأن الإخلال بأخلاقيات العمل الصحفي ليست السبب الأساسي في  متاعب العمل الصحفي في المنطقة العربية. إنها نتيجة لجملة من العوامل يجب حصرها والبحث عن أسباب التي أدت إلى نسف الكثير من مبادئ أخلاقيات العمل الصحفي، والتفكير في أفضل السبل لمكافحتها ضمن هيئات الضبط الذاتي للمهنة، وتحرير هذه الأخيرة ضغط  المعادلة الثلاثية : السلطة والصحافيين وراسمال الخاص.  وجعل الصحافة، باعتبارها مهنة وليست منتجا، قضية الجميع، قضية المجتمع بأسره.

المراجع:

¨ يمكن القول من باب التحديد أن الجزائر لا تشكل استثناءً ، لأن هذا القول يشمل العديد من الصحف بما فيها تلك التي ظهرت في المهجر منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي. لقد أنُْشئت ووجهت لتصفية الحسابات بين الأنظمة العربية وليس لإعلام المواطن العربي بما تتطلبه أخلاقيات العمل الصحفي. وبهذا تكون استفادت من التراث الشعري الجاهلي واتجهت إما إلى المدح أوالهجاء!

[1] – يمكن أن نذكر على سبيل المثال الإعلان عن وفاة  الرئيس التونسي السابق، محمد الناصر، والإعلان المكرّر عن وفاة المجاهدة  الجزائرية جميلة بوحيرد  وتكذيبه أكثر من مرة.

[2] – أنظر على سبيل المثال البيان الذي نشرته نقابة الصحافيين الأردنيين والمنشور في صحيفة الرأي الأردنية يوم 6/11/2014

[3]-Philocours.com: La Morale Qu’est-ce qui rend une action bonne ? étude de la philosophie morale kantienne consulté le 21/11/2019 sur le site: http://www.philocours.com/new/cours/pages/cours-moralekant.html

[4]-La commission d’éthique  en science et technologie- Québec : Qu’est-ce que l’éthique, consulté le 20 –112019 sur le site : http://www.ethique.gouv.qc.ca/fr/

[5] – Cornu Daniel, L’éthique de l’information, Paris, PUF, 1997, p8

[6] – أنظر على سبيل المثال : سليمة لبال، شرف الصحافة العربية.. مواثيق حبر على ورق! صحيفة القبس- الكويت- الصادرة يوم  6 نوفمبر 2018  وبيان نقابة الصحافيين الأردنيين التي ذكرناها أعلاه.

[7] – يبدو أن عدم تمكين المواطنين من حق الرد في وسائل الإعلام العربية تحوّل إلى قاعدة عمل ولا يعد استثناء ً وهذا منذ عقود من الزمن. يذكر الكاتب الساخر، محمود السعدني أنه عندما صدر الحكم لصالحه في تهمة الإساءة إلى مسؤولي قطاع السينما بتبديد المال العام لم تقبل الصحف المصرية نشره بعد التشهير به.  فاضطر إلى نشره في الإعلانات المبوبة في جريدة الأهرام بمقابل مالي لكنه ظهر بخط صغير لا يُرى في موضع  إعلانات بيع السيارات المستعملة وتأجير الشقق المفروشة، أنظر كتابه الموسوم ” الولد الشقي في المنفى” مطبوعات أخبار اليوم د.ت مصر ص 18.                                                        لقد أخذت هذه الممارسة في الجزائر أبعادا أخرى أكثر خطورة. فعندما ترفض صحيفة ما نشر حق الرد لشخص ما. يلجأ هذا الأخير إلى صحيفة أخرى لنشره كنص إشهاري ويستغل الفرصة لينال من سمعة الصحيفة التي لم تلتزم بحق الرد المنصوص عليه في كل قوانين الإعلام الجزائرية. فترد هذه الأخيرة في صفحاتها على الصحيفة التي سمحت للغير بالنيل من سمعتها. وهكذا تندلع معركة القدح والذم بين الصحيفتين!

[8] – جورج صدقه: الأخلاق الإعلامية بين المبادئ والواقع، مؤسسة مهارات، بيرت، 2008، ص 68-71

[9] – La commission d’éthique, op cité

[10] – عصام سليمان الموسى:  أخلاقيات الإعلام في الأردن: مسألة لها خمسة جوانب، مسترجع بتاريخ 20/11/2019  من الموقع، https://urlz.fr/b9iA

[11] – Moukalled Diana:  Proceedings of Conference Media Ethics & Journalism in the Arab World: Theory, Practice & Challenges Ahead, Lebanese American University Beirut, Lebanon- Institute for Professional Journalists in cooperation with the Heinrich Böll Foundation  June 9–11, 2004

[12] عبد الوهاب بوخنوفة: دور الإعلام العربي في المرحلة الراهنة : دراسة في تصورات الصحفيين العرب، مداخلة في مؤتمر” الإعلام العربي وأسئلة التغيير في زمن التحوّلات ، كلية الإعلام والتوثيق ، بالتعاون مع دراسات إعلامية لبنانية، بيروت ،  5-7 مايو 2016

[13] – سليمة لبال، مرجع سابق

[14] –  للدلالة على ذلك يورد محمد شلبي أن وسائل الإعلام المختلفة، بما فيها العربية، نشرت يوم 5 فبراير 2003 خبر مفاده أن كاتب الدولة للخارجية الأمريكي، كولن باول عرض في مجلس الأمن صورا للأقمار الصناعية “تثبت” أن العراق يملك أسلحة دمار شامل. وقد فات على ذهن الصحافيين إدراج فعل ” قال ” ، لتصبح قال باول أنها تثبت…. وهذا حتى لا يبدو أن كٌتّاب الخبر يشاطرون ما ذكره  وزير الخارجية الأمريكي: أنظر:  عندما يغيب التحرّي في الوقائع تكون الصحافة أدنى من الهاوية صحيفة العرب الصادرة يوم الإثنين 22/07/2019 مسترجع بتاريخ 21/11/2019 من الموقع: https://urlz.fr/b9jJ

[15] – أنظر على سبيل المثال البيان الذي نشرته نقابة الصحافيين الأردنيين

[16] – محمد غنيم هلال : في النقد المسرحي ، دار العودة بيروت 1975، ص 68

[17] De Vulpillières  Eléonore : Ethique professionnelle du journaliste et critique du système médiatique : vers la refonte d’une profession; consulté le 21/11/2019 du ditehttp://eleonoredv.over-blog.com/2017/06/ethique-professionnelle-du-journaliste-et-critique-du-systeme-mediatique-vers-la-refonte-d-une-profession.html

[18] Decoopman Nicole – Droit et déontologie, contribution à l’étude des modes de régulation  consulté le 23/11/ 2019 sur le site: https://www.u-picardie.fr/curapp-revues/root/23/decoopman.pdf

[19] – Cornu Daniel: La déontologie entre l’évolution des pratiques, la sédimentation des idées reçues et la permanence des valeurs. Journalisme et objectifs commerciaux, consulté le 20/11/2019 sur le site: http://metamedias.blogspot.com/2005/07/la-dontologie-entre-lvolution-des.html

[20] – Aidan White Le journalisme éthique refait la Une, Courier de l’unesco Juillet – septembre 2017

[21] – We Are COM: Infotainment  consulté le 26/11/2019 sur le site: https://www.wearecom.fr/dictionnaire/infotainment/


مع العالم النفساني والفيلسوف “ميغيل بنسياغ” : لا أخ أكبر في الإعلام.

حديث أدلى به لمجلة ” Media” الفرنسية في عددها الصادر في يونيو 2004

ترجمة د. نصر الدين لعياضي

Portrait de Miguel Benasayag

 ميغيل بنسياغ فيلسوف ومحلل نفساني فرنسي من أصول أرجنتينية، أستاذ بجامعة ليل الفرنسية، ومشرف على مخبر بحث حول العلوم الاجتماعية بالأرجنتين. كان يعبر عن أرائه الفلسفية حول الثقافة والإنسان والمجتمع في البرنامج الصباحي الذي تبثه ” إذاعة فرنسا الدولية”. لقد اصدر العديد من المؤلفات التي تعبر عن توجهاته الفكرية وإنتاجه العلمي، نذكر منها: “الشغف الحزين: الآلام النفسية والأزمة الاجتماعية”، و” لن أكون وحيدا أبدا: ظاهرة الهاتف الجوال”. ولعل الكتاب الذي ألفه بمعية الصحافية الفرنسية فلورنس أوبناس، والموسوم ” صناعة الإعلام: الصحافيون وإيديولوجية الاتصال” يُعّد من أبرز مؤلفاته التي أثارت الكثير من الجدل وسط الصحافيين والمثقفين. و”الهشاشة” هو أخر مؤلف أصدره “.

وفي ما يلي نص الحوار الذي أدلى به إلى مجلة ” ميديا”، في يونيو 2004، حول الرهانات الاجتماعية والثقافية للصحافة في العصر الحالي الذي أرتينا أن نترجمه للقارئ العربي نظرا لأصالة أفكاره التي تسعى إلى إحداث قطيعة مع النزعة اليقينية التي طغت على الحديث عن وسائل الإعلام والمجتمع.

لقد قلتم إن الكلمة كانت “مقدسة” بالأمس، بينما نلاحظ اليوم أن المعلومات التي تقدمها الصحافة أصبحت في نظر من يقرأونها خاطئة بالضرورة أو مشكوك في صحتها. فبماذا تفسرون هذا الأمر؟

تعاني الصحافة اليوم من أثار ما يسمى بما بعد الحداثة، حيث أصبح لكل شخص حقيقته. إننا نعيش في غمرة نظام خطير جدا. نظام لا نقول عنه ديمقراطي، بل نظام “ديمقراطوي” تتساوى فيه كل الآراء. إننا نعيش مغالطة شاملة. فالأفكار التي يخلص إليه شخص اشتغل على  موضوع معين لمدة عشرين سنة تتساوى مع ما يقوله أي شخص نكرة في مقهى شعبي. إنه وضع عام يعيشه مجتمعنا. ففي هذا الإطار فإن الصحافة الملتزمة، التي تزن جيدا كلماتها حتى تكون أكثر قربا من الأحداث، لا تسوى سوى ما تساويه وجهة نظر أي شخص. إننا لا نأخذ بعين الاعتبار العمل والجهد الذي بذلته هذه الصحيفة. فكل شيء تحول إلى رأي. فمن هذا المنظور فالصحافة لم تتغير بل أهمية الكلمة هي التي تغيرت، والمكتوبة منها على وجه التحديد. والأمر لا يتعلق بعوامل داخلية مرتبطة بالصحيفة. فنحن بالأحرى أمام مدحلة بخارية داست كل الكلمة، فأفقدتها أهميتها.

إنكم تسخرون  من أطروحات بعض المثقفين التي تنص على تواطؤ الصحافيين مع دوائر السلطة. ومن جهة أخرى، ترفضون فكرة المؤامرة  ومنع الصحافيين من التطرق لبعض المواضيع واعتبارها محرمة، أي أنك تسخر من فكرة الأخ الأكبر الذي يحرك خيوط الصحافة؟

 إنني أمقت هذه النظرة التشكيكية المفرطة، رغم أن فكرة الأخ الأكبر الذي يحرك الخيوط تعد تفاؤلية في آخر المطاف. فلو وُجد الأخ الأكبر لأصبح العالم أكثر بساطة. ففي عالم الصحافة يوجد، بكل تأكيد، نوع من المحاباة والشللية، والاتصال الهاتفي ببعض الصحافيين، ودعوتهم لمأدبة عشاء قصد استمالة مواقفهم أو للتخفيف من حدّتها. لكن كل هذا لا يفسر أبدا أن اللغة فقدت سلطتها وجُردت من جوهرها. وهذا هو الأمر الذي يعاني منه مجتمعنا. فلم نعد نملك لغة تكون فيها لهذه الكلمة أو تلك معناها الدقيق. فكل شيء أصبح متعدد المعاني كما نقول الآن. فكل كلمة تدل على معنى معين وضده. فلا يوجد خبر يملك الحقيقة. إننا نربض أمام المذياع و شاشة التلفزيون في انتظار الخبر الذي يكذب سابقه.

إنكم تؤكدون دائما على ” القواعد الخاصة” بوسائل الإعلام التي تعمل على انتقاء الأحداث لتنشر ما تراه مهما وتتجاهل البقية؟ فعلى أي أساس يتم هذا الانتقاء؟ وبناءًا على أي افتراضات.

إن الصحافة تعكس العالم الذي يتزايد فيه تهافت الرجال والنساء على الآنية. إنني محلل نفساني وأرى أنه لا وزن لأي شيء أمام وجبة غداء يوم الأحد لدى الحماة. إن العالم الواقعي بمشاكله الخطيرة هو تجريد. والصحافة يجب أن تحيا، ويوجد لدى بعض الصحف اتجاها يتأكد شيئا فشيئا لمعالجة هذه المشاكل الصغيرة.

لكن الجمهور الواسع  يملك انطباعا بأن الصحافيين في وسائل الانصال الجماهيري الكبرى تعالج، دائما، المشاكل ذاتها في الوقت ذاته.

نعم، هذا الأمر نسميه بعدد الأموات في الكلومتر. فخبر خاص بعشرة قتلى في برلين يساوى  خبر عن مقتل خمسة ألاف شخص في بومباي، ناهيك عن عددهم في دولة إفريقية. لكن هذا الأمر يتناسب مع الظاهرة الكونية التي تجعل كل ما يجري في ” حصننا” خبرا. وكل ما يجري في جريرة خالية من السكان ليس مهما بتاتا. والصحافيون يعكسون هذا النظام السائد في العالم. إذا لا توجد ، بكل تأكيد، أي إرادة إيديولوجية وراء هذا الأمر. فجنون العظمة التي تعبر عنه فكرة الأخ الأكبر هو محاولة  للهروب من هذا الواقع، ومن تعقده.

يبدو أنكم ترون، عكس ما قلناه وكررناه منذ سنوات، بأن التنديد العلني والعام بوضع ما- بواسطة الصحافة على وجه التحديد- لا يغير شيئا في حدوث المأساة.

إن المجتمعات التي نعيش فيها ليست تفاعلية. بمعنى أن الإعلام والمعلومات موجودة، لكن إذا لم تصب الناس، فالسبب لا يعود للصحافيين الذين لم يبذلوا قصار جهدهم لتفسيرها وتوضيحها، بل للصعوبة التي يعاني منها الرجال والنساء في مجتمعنا. إنها صعوبة وجودية حقا. إننا نطلع على بعض الأحداث في العالم لكنها تظل بعيدة عنا. فهذه المسافة التي تفصل الأشخاص عن الأحداث- كل شخص منصرف إلى انشغالاته الآنية- جعلت تفاعل المجتمع معقدا. فالقول أننا لا ننفعل لأن وسائل الإعلام تكذب علينا أو لا تقول أي شيء هو غباء. فهناك أسباب عميقة تفسر لماذا تجد مجتمعاتنا صعوبة في التفاعل، والتدخل، و تحمل الواقع، ومواكبة الآني. فألم الضرس الذي يعاني منه شخص ما يشغله ويهمه أكثر من الكون كله. فالعالم أصبح نوعا من الديكور تعيش فيه حيوات الأشخاص الصغيرة جدا.

إذا، هل العلم بالأحداث لا يعني شيئا؟

بالفعل، إن المعلومات لذاتها لا تعني شيئا. لكن الأخطر أن تراكمها  في شكل أخبار يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، وتتمثل في نوع من اللذة الجهنمية. فالإعلام يمكن أن يصبح ضربا من العجز. هناك فرق بيّن بين المعلومات والمعرفة. فالمعرفة  شيء يهيكلك، بينما المعلومات شيء يلتصق بك، ولكنه لا يغيرك. فالصحافة لا دور لها في إنتاج المعرفة،  لأنها تنتج المعلومات والإعلام الوفي والمنتج بشكل جيد.  فمسألة تحويل المعلومات والبيانات إلى معرفة تتوقف على جملة من العوامل ليست من مسؤولية الصحافة.

إذا، ألا يوجد نوع  أخر ممكن من الصحافة؟

من الممكن أن توجد صحافة أخرى إن وجد رابط اجتماعي أخر. إن وجود صحافة لا يعكس حالة وعي ونمط معيشة مجتمع أمر لا يصدق.  فإذا كان الجميع غير مبال بما يجري في “تنجانيـقا” (Tanganyika )* فلست أدرى لماذا ينفق مالك صحيفة أمواله ليبعث صحافييه إلى “تنجانيـقا” . فالرغبة في معرفة ما يجري  في “تنجانيـقا” لا تصدر سوى عن الجسم الاجتماعي بفعل التضامن أو البحث أو يعبر عنها الأنتروبولوجيون.

لكن ألا يمكن أن تكون الصحافة سباقة؟

وهذا ما تقوم به جزئيا، حيث توجد صحافة تسعى دائما إلى توسيع دائرة مصالحها، وتجتهد في  إظهار الأمور على أنها ليست بسيطة. فتعد مهمازا يهمز الناس. وتوجد، أيضا، صحافة تجعجع وسعيدة بما تقوم به. لكن من الصعب التعميم. ففي الصحيفة الواحدة يوجد صحافيون ينددون بحدود من يجعجع داخل ” قلعة” المجتمع، بينما ينظر آخرون إلى هذا التنديد نظرة سلبية إذ يعتقدون أن الأشياء المهمة هي التي تجري داخل هذه القلعة. ففي الصحافة يوجد الصنفان. فكلما قلت رغبة الصحف في الذهاب بعيدا للكشف عما يجري داخل المجتمع، قلت الإمكانيات العملية التي تسمح لصحافيين الراغبين في الإطلاع على ما هو أبعد لتحقيق رغبتهم.

    هل تشعرون أن الصحافيين يطرحون هذه الأسئلة على أنفسهم؟

إننا نعيش في مجتمع ليس على ما يرام، وكذلك الأمر بالنسبة للصحافة. إنها تتحدث، أكثر فأكثر، عن ذاتها. إننا ندور جميعا في فراغ  إلى حد ما. وهذا نسميه الزمن المظلم. ففي هذا الزمن يصعب على الصحف أن تكون كاشفة وتنير طريق الناس بمقالاتها، وتوقظهم. وفي هذا الزمن يكتفي الطبيب المختص في الأمراض العقلية بالتخفيف على المريض حتى لا يتفاقم مرضه. هذا هو الزمن المظلم الذي تقل فيه الرغبة ونترك الأشخاص يُصرعون لأنهم يعيشون في ظروف معقدة وغير واضحة. إنه زمن يتقدم فيه الرعب ويتحول إلى نوع مألوف ومبتذل.

هل هذا يزن بثقله على الصحف أكثر من الرأسمال الكبير، وأرباب الصحف أو العولمة؟

يكون الأمر جيدا لو كان هذا الأمر يتعلق بأرباب الصحف ورأسمال، فساعتها نعرف المشكل. بكل تأكيد إن أرباب العمل ورأسمال الكبير يتفقان جيدا على تجنب الحديث عن منع الأدوية الجنيسة في إفريقيا أو التطرق أليها بشكل مقتضب، أو التزام الصمت تجاه التلوث البيئي الذي تتسبب فيه الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 50%، أو ترحيل الصناعة إلى أندونسيا. بالطبع إن رأسمال الكبير يتلذذ بهذا الوضع.  فالتلذذ من هذه الوضعية أو الاستفادة منها لا يعني بتاتا التحكم فيها. وهذا ما يجب أن يعرفه اليساريون  ويفهمونه. فأن يكون هناك منتفعون لا يعني بأن هؤلاء يسيطرون على الوضع.

لقد صرحتم بأن ” الصحافيين قد اضاعوا جماعيا ثورتهم” فماذا تقصدون بهذه الجملة؟

إنه تلميح إلى ما يسمى ” ثورة الحوليات”. لقد أدرك المؤرخون منذ قرن أن التاريخ ليس تاريخ ملوك فرنسا، وليس تاريخ التمثلات. فالتاريخ ينجم عن عدد هائل من الأحداث الصغرى. وقد رأى المؤرخون أنه  من الواجب اخذ كل هذه الأحداث بعين الاعتبار.  بينما ظل الصحافيون، وخاصة الذين يشتغلون في المجال الجيو- سياسي بمنأى عن كل الأحداث الصغيرة وكأنهم يعيشون في عصر سبق ثورة الحوليات. إنهم يتعاملون مع التمثلات representations  وكأنها أشياء فعلية. ففي الغالب ، إن الأحداث الصغرى هي التي تؤسس لتلك الكبرى و لا تهم سوى البعض في مجال الجيو- سياسي.

ألا نطلب الكثير من الصحف؟

إن معظم النقد الموجه إلى الصحافة يغالى، ضمنيا، في سلطتها. لكنني أوجه حديثي، في هذا المقام إلى أوربا. وأقول يجب على كوبا أن تمتلك الكثير من الشجاعة حتى تنشر  خبرا ضد سياسة كاسترو. لكن بالمقابل يجب أن نمتلك الشجاعة ذاتها ونذهب إلى كوبا لعرض كتاب ينقد الصحافة الغربية.

    ——————————————————–

  • تنجانيـقا اسم دولة استقلت عن بريطانيا في 9 يونيو 1962 واتحدت مع جزيرة زنجبار عام  1964  ليكونا جمهورية تنزانيا الاتحادية – المترجم.

 

الإشهار السياسي: صداع الدول المزمن

                                                        نصر الدين لعياضي

 

هل أصبحت دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرون تعاني من صداع مزمن اسمه الإشهار السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي؟ يبدو أنها لم تقتنع بالإجراءات المتخذة للحدّ من الإشهار السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي بعد النداء العاجل الذي وجهته إلى المؤسسات الرقميّة الكبرى، وتحديدا إلى شركة الفيسبوك، وتويتر، وغوغل، قبل أربعة أشهر من انتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي. لقد أدركت لجنة هذا الاتحاد أن هذا الإشهار أصبح يشكل خطرا على الناخب الأوربي بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، بل يمكن أن يهدّد مالكي سلطة القرار في البلدان الأوربية. كيف لا وهى ترى أن آثار الإشهار السياسي الذي نشرته مواقع التواصل الاجتماعي لم تقف عند تخويف الناخب البريطاني، وحثّه على للتصويت لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوربي في الاستفتاء الذي جرى  في 23 يونيو 2016. لقد قدرت الشركة الأمريكية المختصة في مجال الإعلام والانترنت، “بزفيد” Buzzfeed، أن القوى السّياسيّة المتصارعة في بريطانيا صرفت 1.1 مليون يورو على الإشهار السياسي الموجه للمواطنين البريطانيين قصد إرسال رسائل لنوابهم يطالبونهم فيها برفض المشروع الذي تقدمت به رئيسة الوزراء السابقة ، ” تيريزا ماي” قبل أيام قلائل من التصويت عليه  يوم 15 يناير 2019. التصويت الذي انتهى باستبعاد المشروع المذكور واستقالة الحكومة. وصرفت القوى السّياسيّة المطالبة بإعادة الاستفتاء على القانون المتعلق انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي 250 ألف دولار على الإشهار السياسي عبر موقع الفيسبوك وحده! ربما ما يقلق أكثر في الإشهار السياسي ليس المبالغ المالية الضخمة التي صرفت من أجله، بل أن قسطا كبيرا من هذا الإشهار كان مجهول المصدر! ومن المتوقع أن  يتكرّر هذا السيناريو في بريطانيا في المستقبل إذا علمنا أن قسطا كبيرا من الإشهار السياسي الذي استهدف الناخبين البريطانيين  في حملة الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوربي- البركسيت في يونيو 2016 كان كاذبا وبُثّ بأسماء مستعارة  “.

لم تقع بريطانيا وحدها ضحية الإشهار السّياسيّ المزيّف. ففي الولايات المتحدة الأمريكيّة لازال الاتهام يلاحق موقع الفيسبوك لـــ” تساهله ” مع الإشهار السياسي الموجه إلى الأمريكيين، والذي يعتقد أنه ساعد الرئيس الأمريكي الحالي على الوصول إلى البيت الأبيض الأمريكي. فأيرلندا ، تعرضت هي الأخرى، إلى موجة من الإشهار السياسي في الاستفتاء على مشروع قانون الإجهاض الذي جرى في مايو 2018.

                                        الخلط

قد تختلط الأمور على القارئ الكريم ، ويتداخل فى ذهنه الخبر السياسي والدعاية والإشهار السياسي. ولتوضيح الفرق بينهم يمكن القول أن الخبر السياسي هو التبليغ عن حدث ذي طابع سياسي. وتُعرّف الدعاية بأنها بثّ ونشر ما من شأنه يشجع القبول بفكرة أو موقف أو نظرية سياسية. وهدفها هو التأثير على الرأي العام، وتغيير تصوره للأحداث والأشخاص. وتجنّيده لتبني هذه الفكرة أو لمناصرة أصحابها. أما الإشهار السياسي فيدل على الأفعال ذات الطابع التجاري المروجة للأفكار أو لشخصيات سياسية أو برامج أو مواقف سياسية. ربما لا يفهم البعض سر القلق من الإشهار السياسي ووصفه بالصداع طالما أنه يلتقى مع الدعاية في الهدف. إن السر لا  يتلخص في أن الدافع لنشر الإشهار السياسي هو مالي قبل أن يكون سياسيا ، وأن دافع الدعاية سياسي بحت ، بيد أن مصدر القلق لا يكمن في المال، مهما ارتفع مبلغه، الذي يدفع مقابل بث هذا الإشهار ، بل في الخصوصية التي يكتسبها عندما يبثّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة: الفيسبوك، تويتر، انستغرام، اليوتيوب وغيرها. إذ يمكن لمموّله ، شخص طبيعي أو معنوي ( هيئة ، مؤسسة)، أن يختفي وراء اسم مستعار. ويستطيع موقع التواصل الاجتماعي أن يمنح له الفرصة في اختيار ما يشاء من المعايير، نذكر منها انتقاء الشريحة التي يستهدفها ، مثل النساء أو الرجال، أو فئات عمرية دون سن معين، أو ذوي الدخل المعين أو الأشخاص الذين نقروا على زر ” أحب” هذا المحتوى أو ذاك. وهذا يعني تمكين المشهر من تصميم إشهاره السياسي وفق خصوصيات ناخبين معينين، من المحتمل أن يكونوا مجهولين من قبل المرشحين ذاتهم ناهيك عن بقية الناخبين.

                                        الحدود

يرى البعض أن هناك نوعا من المبالغة في تقدير تأثير الإشهار السياسي على نتائج الانتخابات والاستفتاءات الشعبية في البلدان الأوربية،  وحتّى في الولايات المتحدة الأمريكية. وذلك لأنهم يؤمنون يعجزه على تغيير اختيار الناخبين الذين حسموا أمرهم وقرروا منح صوتهم للمترشح الذي يتفق مع آرائهم ومواقفهم أو لصالح المشروع الذي يرونه مناسبا لهم. توضح أستاذة الاتصال ، “كثلين هال جميسون”، هذا الرأي في كتابها المعنون بـ ” سيبر وار” الحرب السيبرنية ” بالقول أن جميع المواطنين يقاومون الاتصال السياسي إلى حد كبير، لكن الاشخاص الذين يشعرون بعدم الارتياح إذا طُلب منهم أن يختاروا ، والذين يؤجلون اتخاذ القرار على من يصوتون  إلى أخر دقيقة هم أكثر تأثرا بالاتصال السياسي. وشركات الواب الكبرى تستهدف هؤلاء الأشخاص ذوى المواقف والآراء الهشة بإشهارها السياسي بمقابل مالي يكاد لا يذكر.

 إن تجربة الإشهار المدسوس في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك ، في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016 تدعونا إلى التفكير في الإشهار السياسي من زاوية مغايرة. فالإشهار السياسي الذي مُوِّلته روسيا استهدف الناخبين الديمقراطيين التقليدين تحديدا، والزنوج القاطنين في الأحياء السكنيّة الفقيرة. ولم يرم إقناعهم بالتصويت لصالح  المترشح الجمهوري ، بل سعي إلى ثنيهم على التصويت أصلا ، وذلك من خلال إقناعهم بعدم الجدوى من الانتخابات. والكل يعلم اليوم أن صد هذه الشريحة عن التصويت أضّعف ” هيلالي كلنتون” وخدم المرشح الجمهوري .

                                        موقف وموقف

فاجأ مدير عام موقع شبكة تيوتر، جاك دورسي، بقية مواقع التواصل الاجتماعي: فيسبوك، يوتيوب، وسناب شات، وغيرها، عندما أعلن أنه سيحظر بثّ الإشهار السياسي في موقعه بدءًا من 22 نوفمبر الماضي. وعلّل قراره هذا القول أن بثّ هذا الإشهار الذي يستهدف أشخاص بعينهم قد يلغي قدرتهم على اتخاذ القرار. وهذا الإلغاء الذي يحركه المال يشكل خطورة فعلية على المجتمع ،  ولا صلة له بحرية التعبير. فدفع الأموال من أجل زيادة تأثير الخطاب السياسي تترتب عنه نتائج لا تستطيع الإمكانيات التي تتمتع بها الديمقراطية اليوم على إدارتها . نتائج قد تؤثر على حياة ملايين الأشخاص. وكأن ” جاك دروسي” بقوله هذا يستهدف شركة الفيسبوك قبل أن تعلن عن موقفها صراحة من الإشهار السياسي.

صرح المدير العام لشركة الفيسبوك، مارك زوكربيرغ،  أنه لن يمنع نشر الإشهار السّياسيّ   في موقعه. وعلّل موقفه هذا بالقول أن ما يجنى من أموال من هذا الإشهار لا يبرّر كل هذا الجدل الذي اثير عنه ، متمنيا أن يفتح هذا الجدل النقاش عن مستقبل وسائل الاتصال المعاصرة في المجتمع. وأكد على أن أهمية الإشهار السياسي تكمن في مضاعفته للخطابات السّياسيّة ، خاصة تلك التي يدلي بها المترشحون في الانتخابات المحلية ، وكل الذين يسعون لرفع التحدي في الانتخابات ، والمجموعات التي تدافع عن بعض القضايا التي لا تحظى بأي اهتمام إعلامي سوى هذا الإشهار. فحظر الإشهار السياسي يعني تقديم خدمة للأشخاص المتربعين على سدة الحكم، والذين اختارت وسائل الإعلام التقليدية تغطية نشاطهم. إن موقف ” مارك زوكريبرغ” من الإشهار السياسي ليس جديدا. فقد سبق وأن دافع عنه في أكتوبر 2018 أمام طلبة جامعة “جورج تاون” بواشنطن وأساتذتها . لقد أكد ساعتها أنه يرفض أن يكون ” قاضيّا في محاكمة  الحقيقة” . ولن يقف ضد حرية تعبير  2.4 مليار مشترك في مواقع شركته وتطبيقاتها المختلفة: أنستغرام، وواتسات، وميسنجر. ويعتقد أن المواطنين الذين يعبرون على آرائهم جهرا وأمام الملأ يشكلون قوة في عالمنا ، بل سلطة خامسة تضاف إلى هيئات السلطة السياسية في مجتمعاتنا المعاصرة.

تدابير

يُعتقد أن شركة الفيسبوك قد استفادت من تجاربها السابقة، ومن الغرامة التى أجبرت على دفعها، والمقدرة بــ 500 ألف يورو ، بسبب قلة الإجراءات المتخذة لحماية بيانات مستخدميها! وهي البيانات التي جمعتها شركة ” كامبرج أناليتيكا” واستفادت منها بطريقة غير شرعية. هذا ما يوحي به الإعلان على لسان مديرها العام يوم 21 أكتوبر الماضي عن القيام بجملة من الإجراءات والتدابير الكفيلة بضمان شفافية الإشهار السّياسيّ وحماية الديمقراطيّة في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة التي تجرى في السنة القادمة. و يمكن أن نذكر منها الكشف عن السلوك المشبوه في بعض صفحات الموقع. وفي هذا الإطار يقول مارك زوكربيرغ أنه ألغي بعض الحسابات التي انشأها أشخاص من روسيا وإيران. ويعتقد أنها كانت تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية. وأنشأ نظام ” فيسبوك  بروتكت” Facebook Protect، لحماية المترشحين ومساعديهم من خصومهم السياسيين، ومن كل القراصنة الذين يمكن أن  يستولوا على بياناتهم الشخصية وعلى المعلومات الخاصة بمعارفهم وأصدقائهم بطرق غير شرعية، ويستغلونها ضدهم. ويستعملونها في نشر الأخبار المزيفة.

ويعمل الفيسبوك على نشر معلومات عن المنظمات وحتّى الدول المشرفة على إدارة الصفحات المشبوهة وهذا حتّى يكون مستخدم الفيسبوك حذرا في تعامله مع الصفحات التي يعتقد أنها مستقلة ومحايدة. لقد أضاف موقع الفيسبوك هذه الخدمة إلى تلك التي كانت متوفرة سابقا والتي تكشف عن أي تغيير يطرأ على مسمى صفحات الفيسبوك والبلد الذي أنشئت فيه. وقد ذهب مدير عام الفيسبوك في محاربته الإشهار السياسي إلى حد اتاحة الفرصة لكل مستخدمي موقعه لمعرفة ما أنفقه كل مرشح في الانتخابات للرئاسية الأمريكية المقبلة من مال على الإشهار السّياسيّ، وفي كل ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية عبر كل موقع الفيسبوك وأنستغرام، ومسنجر.

أما بخصوص الأخبار المزيفة، فقد وعد المدير العام لشركة الفيسبوك بتوسيمها من أجل لفت الانتباه إلى أنها تفتقد المصداقية. وإذا أصر مستخدم الفيسبوك على الإطلاع عليها رغم التوسيم فيصله إشعار بأن المتعاونين مع موقع الفيسبوك تَحَرّوا عن صحة هذا الخبر واعتبروه مزيفا.

وقد سبق لموقعي الفيسبوك وغوغل بأن تعهدا بأنهما سيضعان العدّة التقنيَة ذاتها المستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية تحت تصرف الدول الأوربية من أجل مراجعة أرشيفها المتعلق بالإشهار السّياسيّ: من؟ نشر ماذا؟ ومن أي مكان؟

تعقد

يرى المختصون بأن موضوع الإشهار السياسي معقد جدا. فإن كانت ممارسته في الحملات الانتخابية واضحة، بهذا القدر أو ذاك. فإنه يصعب في بعض الأحيان تمييزه عن غيره من الإشهار السّياسيّ الذي يبث في مواعيد غير انتخابية. وتبدو الحدود التي تفصله عن إعلام المواطن غامضة. الأمر يتعلق بالإشهار الذي تموله الحكومات خارج الحملات الانتخابيّة والتي يصعب الحكم عليه هل يندرج ضمن مسؤوليات الدولة على إعلام المواطنين أم أنه عبارة عن إشهار سياسي يروج ، بشكل ضمني” للحزب السياسي الحاكم؟ السؤال ذاته يطرح على الإشهار الذي تمولها الجمعيات ذات النفع العام على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل تلك التي قامت بها منظمة ” السلام الأخضر” الفرنسية المتعلقة بمخاطر المحطة النووية في إقليم “الدروم” الواقع جنوب شرق فرنسا. ومخاطر استخراج المعادن من أعماق المحيطات.  والإشهار الذي يبثه بين الحين والأخر الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي يعارض فيه أي مبادرة لحظر بيع الأسلحة النارية الشخصية. وغيرها من الإعلانات المسببة للصداع ، خاصة تلك التي تدعو إلى الاقصاء والميز العنصرى على أسس عرقية أو دينية، والتي  تسهم في تقسيم المجتمع.  لكن مواقع التواصل الاجتماعي لم تحدّد بعد موقفها منها.

ويبدو أن هذا الغموض سيعمر طويلا في ظل التأخر في إصدار القوانين المنظمة للإشهار السياسي في جلّ دول العالم.

ففرنسا التي تملك ترسانة من القوانين الزاجرة في المجال الإعلامي، وتحظر بث الإشهار السياسي الموجه للناخبين عبر شبكة الانترنت في الحملات الانتخابية، لم تصدر أي نص قانوني من شأنه أن يرفع اللبس عن الإشهار السياسي، خاصة ذاك الذي يضر بالمصلحة الوطنية ويهدّد وحدة الأمة ، ويميزه عن إعلام المواطن. وألمانيا المتشددة في حماية المعلومات الشخصية، تبيح بثّ الإشهار السياسي بشرط ألا يتعارض مع مبادئ الدستور الألماني. بينما تعاني بريطانيا، التي كانت ضحية إنزال شديد للإشهار السياسي الكاذب، كما ذكرنا أعلاه، من غياب القوانين المنظمة للإشهار السياسي. ولم تمنع، على الأقل، بثّه خلال الحملات الانتخابية. إنها المعاناة ذاتها التي يشتكي منها مواطنو بلدان أوربا الشرقية.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد نموذجا في حرية الإعلام ، يخضع البث الإذاعي والتلفزيوني إلى مراقبة اللجنة الفيدرالية للاتصال. إذ يذكر أن الشبكات التلفزيونية الأمريكية الكبرى، مثل ” سي أن أن ” CNN ، و الأن بي سي NBC، وحتى قناة “فوكس نيوز” قد رفضت بث إشهار سياسي يسيء إلى “جو بايدن” المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020. وهذا في اطار الحملة الانتخابية التي يخوضها الرئيس الأمريكي الحالي للاستمرار في الحكم لعهدة انتخابية ثانية. بينما ترك المشرع الأمريكي المجال لمواقع التواصل الاجتماعي لنشر هذا الإشهار أو رفضه.

أما البلدان العربية فيبدو أنها لم تعان بعد من هذا الصداع المذكور. وإن كانت بعضها قد شرعت  في التفكير فيه بصوت مسموع خلال إعداد مدونات لأخلاقيات الإعلام.

الحراك الجزائري و”فيسبوك”


368

 

يطرح الحراك الشعبي الجزائري ضرورة مناقشة العلاقة بين الحركات الاجتماعية الواسعة ومواقع التواصل الاجتماعي، من جديد، ومساءلتها. المناقشة التي احتدّت في بداية الربيع العربي ظلت سجينة السؤال: هل حرّك موقعا فيسبوك وتويتر الشارع؟ لم يرتق السؤال إلى مراجعة مفهوم “الفضاء العمومي المعارض” الذي صاغه الفيلسوف أوسكار نغت، على ضوء أطر النقاش والتمثيل التي شكلتها الحركات الاجتماعية في الشارع، أو أنها في طور تشكيلها، واكتسحت الفضاء الافتراضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

 

أفرز النقاش بشأن دور مواقع التواصل الاجتماعي في ثورات الربيع العربي اتجاهين أساسيين: الأول راح يبحث عن جذورها “الرقمية”، مستأنسا، ولو ضمنا، بأطروحات الفيلسوف الكندي مارشال مكلوهان، التي تؤمن بالدور الحاسم للتكنولوجيا في تَشكُّل الدولة المركزيّة، وفي إحياء القوميات، واندلاع الحروب. ومنها انطلق هذا الاتجاه في التأكيد على قدرة شبكة الإنترنت على تحرير الأشخاص من الأنظمة الاستبداديّة. وحجتهم في ذلك أن إزاحة الرئيسين زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر عن سدة الحكم ما كانت لتتحقق لولا “فيسبوك” و”تويتر”.

 

واستند الاتجاه الثاني إلى تصور الكاتب الأميركي من أصول بيلاروسية، الأستاذ في جامعة ستانفورد، يفغيني مروزوف، والذي قلّل من دور مواقع التواصل الاجتماعي في النضال الديمقراطي والثوري. وراح يبحث عن حججه في الانتفاضات الشعبيّة في أكثر من بلد، بدءًا بمولدوفيا، مرورا بأوكرانيا، ووصولا إلى إيران في يونيو/ حزيران 2009. وتعجب كيف نسمي “الأحداث التي شهدتها هذه البلدان بثورة تويتر أو ثورة فيسبوك، ونؤكد في الوقت نفسه أن حكامها حرموا مواطنيهم من الاتصال بشبكة الإنترنت، في أحيان كثيرة، وراقبوا مواقع التواصل الاجتماعي، ولاحقوا نشطاءها! ويذكر أن طلب تأجيل صيانة موقع شبكة تويتر الذي تقدّمت به حكومة أوروبية إلى مديره يوم 15 يونيو/ حزيران 2009، من أجل إتاحة الفرصة للإيرانيين لاستخدامه في حراكهم الشعبي، لم يؤد سوى إلى زيادة عدد التغريدات التي أُرْسِل أغلبها من الولايات المتحدة الأميركيّة ودول أوروبا الغربيّة باللّغة الإنكليزيّة!

يمكن إيجاز رؤية مروزوف للعلاقة القائمة بين “الانتفاضات” الشعبيّة ومواقع التواصل الاجتماعي في القول إن من الصعوبة بمكان أن تترجم العلاقات الاجتماعية التي تُبْنَى عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى أفعال ونشاطات جماعيّة في أرض الواقع.

قد يتساءل بعضهم: كيف خرج آلاف الجزائريين في مسيراتٍ في شوارع كل المدن الجزائرية، تقريبا، في يوم واحد، والتوقيت نفسه استجابة لنداء “مجهول” في موقع فيسبوك؟ بصرف النظر عن خلفيات هذا السؤال، فإنه يقودنا إلى سؤال آخر: لماذا لم يخرج الجزائريون بالآلاف للتظاهر في الشوارع يوم 12 يناير/ كانون الثاني 2011، أي في عز “الربيع التونسي”، عندما وُجِه لهم نداء عبر “فيسبوك”؟

من الصعوبة الفصل بين الواقعي والافتراضي في الحراك الجزائري، فخروج ملايين الجزائريين إلى الشارع، منذ 22 فبراير/ شباط الماضي، هو وليد تراكمات من النضال والإحباط والغضب التي تجسّدت في سلسلة إضراباتٍ واحتجاجاتٍ بدأت بإقامة الحواجز في الطرقات، وإشعال النار في عجلات السيارات لمنع التنقل بين المدن والمحافظات، احتجاجا على رفع أسعار المواد الأساسيّة، أو للمطالبة بالحق في السكن والعمل، وإصلاح الطرقات، وتوصيل الغاز الطبيعي إلى سكان القرى. فأضحى هذا الاحتجاج أسلوب اتصال ومخاطبة النظام السياسي! هذا ما يؤكده تزايد عدد هذه “الانتفاضات” التي ظلت تحتفظ بطابعها المحلي، ولم ترتق إلى المستوى الوطني. إذ يذكر أن عددها قفز من 49 “انتفاضة” في 2006 إلى 131 انتفاضة في 2008. وعلى الرغم من سعي النظام إلى شراء السلم المدني، خصوصا بعد 2011، إلا أن حركات الاحتجاج لم تهدأ، بل تنوعت أشكالها في ظل محاولة إخماد صوتها بالقوة الخشنة والناعمة، أي وسائل الإعلام.

أمام اتساع عملية إقصاء قطاع واسع من الجزائريين، من شرائح اجتماعية مختلفة وقناعات سياسيّة متباينة، من مختلف الهيئات المنْتَخَبة، وأمام احتكار الفضاء العمومي، وإفراغ النشاط السياسي من محتواه، لم يبق أمام الشباب الجزائري سوى ملاعب كرة القدم، للتعبير عما يعانون من ظلم وضنك العيش، وتعسّف في استخدام السلطة وتلاعب بالقوانين. والتوجه الجماهيري إلى الفضاء الافتراضي للإفصاح عن سخطهم على الوضع عبر أغنيات الراب، وبث أهازيج أنصار الفرق الرياضية المعادية للسلطة، ونشر الصور التي تُكذّب الخطاب الرسمي، والوثائق التي تثبت حالات الفساد والرشاوى، وأخذت ناشريها إلى السجون. والسخرية من رغبة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، العاجز عن الحركة والكلام، في أن يستمر في السلطة بعد عشرين سنة من الحكم، السخرية بالرسم الكاريكاتوري والنكت والأشعار. ولكن ترشُّح بوتفليقة لعهدة خامسة كان الفتيل الذي أذكى غضب الجزائريين في الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي. لقد جَرحَ كبرياءهم واعتبروا ترشحه إهانة لهم ولتاريخهم.

كان النقل المباشر بالصوت والصورة للمسيرات عبر موقع فيسبوك الحلقة الأمتن التي ربطت الحراك الشعبي بالفضاء الافتراضي، فلم تقم مواقع التواصل الاجتماعي بإعلام الجزائريين فقط، في ظل ارتباك بعض وسائل الإعلام التقليديّة في التغطية الإخباريّة لأول مسيرة، وانحياز بعضها ضد الحراك، بدءًا من الجمعة الثالثة: 8 مارس/ آذار الماضي، بل قامت بدور توجيهي للحفاظ على الطابع السلمي للحراك.

لقد عزّزت مواقع التواصل الاجتماعي شعور الجزائريين بالانتماء إلى الوطن، وجعلتهم يكتشفون ذاتهم بعد سنواتٍ من الرعب والخوف واليأس، فأدركوا أنهم يشكلون وحدة في التنوع. هذا ما يعبر عنه تحليل الصور، وصور “السيلفي”، الملتقطة من قلب الحراك، والمتداولة عبر مواقع فيسبوك ويوتيوب وواتساب وفايبر. ليست هذه المواقع أرضيات شخصية فقط، بل جماعية أيضا، لأن الجزائريين لا يتردّدون في عرض ما يصل إليهم من صور وشعارات ونكت وأغان وأشعار على موقع فيسبوك على أفراد أسرهم غير المتصلين بشبكة الإنترنت، أو أنهم غير مشتركين في هذا الموقع. علما أن نصف الجزائريين تقريبا لا يملكون اشتراكا فيه.

غني عن القول إن مواقع التواصل الاجتماعي توسع مجال المرئي، وتجعل ما هو مرئي مقروءا، على حد قول الباحث فرنسوا جوست، وتمكّن المهمشين اجتماعيا والمقصيين سياسيا من انتزاع الحق في الاعتراف، فالسياسة في هذه المواقع تضاعف وجودها، وتعدّد أشكال تمثيلها. لقد جعلت هذه المواقع مسيرات الجمعة استعراضا وفُرْجَةً. والفرجة ليست “مشاهدةُ ما يُتَسلَّى به” فحسب، بل إنها أيضا “انكشاف الهم”، وانفلاتٌ عن معايير التعبير والاتصال وأشكالهما، وتملُّك حق القول بصوت مرفوع، والخروج عما هو امتثالي ومفروض من النظام السياسي.

تتسم مواقع التواصل الاجتماعي بسعتها غير المحدودة، فيتملّكها من يجنح إلى المزايدة على الحراك الشعبي، ويمارس التضليل والتشهير، ويُشكّك في نيات الكل، أو من يوعز له بفعل ذلك. وخطر هذا التملُّك في تناغم ذهنيّة الجزائري، وربما العربي، مع خصائص بعض مواقع التواصل الاجتماعي التي تتيح، بل تسعى، إلى الإحماض الذي يعني الافاضة في ما يؤنس الفرد من الحديث والكلام، والإحماض الرقمي حلقة أخرى في العلاقة الجدليّة بين الحراك الشعبي والفضاء الافتراضي.

دورة تكوينية لطلبة الدكتوراه بقسم الإعلام بكلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بأم البواقي حول مناهج البحث في الميديا الجديدة يومي 12 و13 /12/ 2017


الإعلام و رهانات التحول ..


سعدت باستضافة النادي الاعلامي لطلبة جامعة المسيلة للحديث عن الإعلام و رهانات التحول. بالامكان الاستماع لأبرز ما ورد من خلال الرابط أدناه: