مع العالم النفساني والفيلسوف “ميغيل بنسياغ” : لا أخ أكبر في الإعلام.
حديث أدلى به لمجلة ” Media” الفرنسية في عددها الصادر في يونيو 2004
ترجمة د. نصر الدين لعياضي

ميغيل بنسياغ فيلسوف ومحلل نفساني فرنسي من أصول أرجنتينية، أستاذ بجامعة ليل الفرنسية، ومشرف على مخبر بحث حول العلوم الاجتماعية بالأرجنتين. كان يعبر عن أرائه الفلسفية حول الثقافة والإنسان والمجتمع في البرنامج الصباحي الذي تبثه ” إذاعة فرنسا الدولية”. لقد اصدر العديد من المؤلفات التي تعبر عن توجهاته الفكرية وإنتاجه العلمي، نذكر منها: “الشغف الحزين: الآلام النفسية والأزمة الاجتماعية”، و” لن أكون وحيدا أبدا: ظاهرة الهاتف الجوال”. ولعل الكتاب الذي ألفه بمعية الصحافية الفرنسية فلورنس أوبناس، والموسوم ” صناعة الإعلام: الصحافيون وإيديولوجية الاتصال” يُعّد من أبرز مؤلفاته التي أثارت الكثير من الجدل وسط الصحافيين والمثقفين. و”الهشاشة” هو أخر مؤلف أصدره “.
وفي ما يلي نص الحوار الذي أدلى به إلى مجلة ” ميديا”، في يونيو 2004، حول الرهانات الاجتماعية والثقافية للصحافة في العصر الحالي الذي أرتينا أن نترجمه للقارئ العربي نظرا لأصالة أفكاره التي تسعى إلى إحداث قطيعة مع النزعة اليقينية التي طغت على الحديث عن وسائل الإعلام والمجتمع.
لقد قلتم إن الكلمة كانت “مقدسة” بالأمس، بينما نلاحظ اليوم أن المعلومات التي تقدمها الصحافة أصبحت في نظر من يقرأونها خاطئة بالضرورة أو مشكوك في صحتها. فبماذا تفسرون هذا الأمر؟
تعاني الصحافة اليوم من أثار ما يسمى بما بعد الحداثة، حيث أصبح لكل شخص حقيقته. إننا نعيش في غمرة نظام خطير جدا. نظام لا نقول عنه ديمقراطي، بل نظام “ديمقراطوي” تتساوى فيه كل الآراء. إننا نعيش مغالطة شاملة. فالأفكار التي يخلص إليه شخص اشتغل على موضوع معين لمدة عشرين سنة تتساوى مع ما يقوله أي شخص نكرة في مقهى شعبي. إنه وضع عام يعيشه مجتمعنا. ففي هذا الإطار فإن الصحافة الملتزمة، التي تزن جيدا كلماتها حتى تكون أكثر قربا من الأحداث، لا تسوى سوى ما تساويه وجهة نظر أي شخص. إننا لا نأخذ بعين الاعتبار العمل والجهد الذي بذلته هذه الصحيفة. فكل شيء تحول إلى رأي. فمن هذا المنظور فالصحافة لم تتغير بل أهمية الكلمة هي التي تغيرت، والمكتوبة منها على وجه التحديد. والأمر لا يتعلق بعوامل داخلية مرتبطة بالصحيفة. فنحن بالأحرى أمام مدحلة بخارية داست كل الكلمة، فأفقدتها أهميتها.
إنكم تسخرون من أطروحات بعض المثقفين التي تنص على تواطؤ الصحافيين مع دوائر السلطة. ومن جهة أخرى، ترفضون فكرة المؤامرة ومنع الصحافيين من التطرق لبعض المواضيع واعتبارها محرمة، أي أنك تسخر من فكرة الأخ الأكبر الذي يحرك خيوط الصحافة؟
إنني أمقت هذه النظرة التشكيكية المفرطة، رغم أن فكرة الأخ الأكبر الذي يحرك الخيوط تعد تفاؤلية في آخر المطاف. فلو وُجد الأخ الأكبر لأصبح العالم أكثر بساطة. ففي عالم الصحافة يوجد، بكل تأكيد، نوع من المحاباة والشللية، والاتصال الهاتفي ببعض الصحافيين، ودعوتهم لمأدبة عشاء قصد استمالة مواقفهم أو للتخفيف من حدّتها. لكن كل هذا لا يفسر أبدا أن اللغة فقدت سلطتها وجُردت من جوهرها. وهذا هو الأمر الذي يعاني منه مجتمعنا. فلم نعد نملك لغة تكون فيها لهذه الكلمة أو تلك معناها الدقيق. فكل شيء أصبح متعدد المعاني كما نقول الآن. فكل كلمة تدل على معنى معين وضده. فلا يوجد خبر يملك الحقيقة. إننا نربض أمام المذياع و شاشة التلفزيون في انتظار الخبر الذي يكذب سابقه.
إنكم تؤكدون دائما على ” القواعد الخاصة” بوسائل الإعلام التي تعمل على انتقاء الأحداث لتنشر ما تراه مهما وتتجاهل البقية؟ فعلى أي أساس يتم هذا الانتقاء؟ وبناءًا على أي افتراضات.
إن الصحافة تعكس العالم الذي يتزايد فيه تهافت الرجال والنساء على الآنية. إنني محلل نفساني وأرى أنه لا وزن لأي شيء أمام وجبة غداء يوم الأحد لدى الحماة. إن العالم الواقعي بمشاكله الخطيرة هو تجريد. والصحافة يجب أن تحيا، ويوجد لدى بعض الصحف اتجاها يتأكد شيئا فشيئا لمعالجة هذه المشاكل الصغيرة.
لكن الجمهور الواسع يملك انطباعا بأن الصحافيين في وسائل الانصال الجماهيري الكبرى تعالج، دائما، المشاكل ذاتها في الوقت ذاته.
نعم، هذا الأمر نسميه بعدد الأموات في الكلومتر. فخبر خاص بعشرة قتلى في برلين يساوى خبر عن مقتل خمسة ألاف شخص في بومباي، ناهيك عن عددهم في دولة إفريقية. لكن هذا الأمر يتناسب مع الظاهرة الكونية التي تجعل كل ما يجري في ” حصننا” خبرا. وكل ما يجري في جريرة خالية من السكان ليس مهما بتاتا. والصحافيون يعكسون هذا النظام السائد في العالم. إذا لا توجد ، بكل تأكيد، أي إرادة إيديولوجية وراء هذا الأمر. فجنون العظمة التي تعبر عنه فكرة الأخ الأكبر هو محاولة للهروب من هذا الواقع، ومن تعقده.
يبدو أنكم ترون، عكس ما قلناه وكررناه منذ سنوات، بأن التنديد العلني والعام بوضع ما- بواسطة الصحافة على وجه التحديد- لا يغير شيئا في حدوث المأساة.
إن المجتمعات التي نعيش فيها ليست تفاعلية. بمعنى أن الإعلام والمعلومات موجودة، لكن إذا لم تصب الناس، فالسبب لا يعود للصحافيين الذين لم يبذلوا قصار جهدهم لتفسيرها وتوضيحها، بل للصعوبة التي يعاني منها الرجال والنساء في مجتمعنا. إنها صعوبة وجودية حقا. إننا نطلع على بعض الأحداث في العالم لكنها تظل بعيدة عنا. فهذه المسافة التي تفصل الأشخاص عن الأحداث- كل شخص منصرف إلى انشغالاته الآنية- جعلت تفاعل المجتمع معقدا. فالقول أننا لا ننفعل لأن وسائل الإعلام تكذب علينا أو لا تقول أي شيء هو غباء. فهناك أسباب عميقة تفسر لماذا تجد مجتمعاتنا صعوبة في التفاعل، والتدخل، و تحمل الواقع، ومواكبة الآني. فألم الضرس الذي يعاني منه شخص ما يشغله ويهمه أكثر من الكون كله. فالعالم أصبح نوعا من الديكور تعيش فيه حيوات الأشخاص الصغيرة جدا.
إذا، هل العلم بالأحداث لا يعني شيئا؟
بالفعل، إن المعلومات لذاتها لا تعني شيئا. لكن الأخطر أن تراكمها في شكل أخبار يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية، وتتمثل في نوع من اللذة الجهنمية. فالإعلام يمكن أن يصبح ضربا من العجز. هناك فرق بيّن بين المعلومات والمعرفة. فالمعرفة شيء يهيكلك، بينما المعلومات شيء يلتصق بك، ولكنه لا يغيرك. فالصحافة لا دور لها في إنتاج المعرفة، لأنها تنتج المعلومات والإعلام الوفي والمنتج بشكل جيد. فمسألة تحويل المعلومات والبيانات إلى معرفة تتوقف على جملة من العوامل ليست من مسؤولية الصحافة.
إذا، ألا يوجد نوع أخر ممكن من الصحافة؟
من الممكن أن توجد صحافة أخرى إن وجد رابط اجتماعي أخر. إن وجود صحافة لا يعكس حالة وعي ونمط معيشة مجتمع أمر لا يصدق. فإذا كان الجميع غير مبال بما يجري في “تنجانيـقا” (Tanganyika )* فلست أدرى لماذا ينفق مالك صحيفة أمواله ليبعث صحافييه إلى “تنجانيـقا” . فالرغبة في معرفة ما يجري في “تنجانيـقا” لا تصدر سوى عن الجسم الاجتماعي بفعل التضامن أو البحث أو يعبر عنها الأنتروبولوجيون.
لكن ألا يمكن أن تكون الصحافة سباقة؟
وهذا ما تقوم به جزئيا، حيث توجد صحافة تسعى دائما إلى توسيع دائرة مصالحها، وتجتهد في إظهار الأمور على أنها ليست بسيطة. فتعد مهمازا يهمز الناس. وتوجد، أيضا، صحافة تجعجع وسعيدة بما تقوم به. لكن من الصعب التعميم. ففي الصحيفة الواحدة يوجد صحافيون ينددون بحدود من يجعجع داخل ” قلعة” المجتمع، بينما ينظر آخرون إلى هذا التنديد نظرة سلبية إذ يعتقدون أن الأشياء المهمة هي التي تجري داخل هذه القلعة. ففي الصحافة يوجد الصنفان. فكلما قلت رغبة الصحف في الذهاب بعيدا للكشف عما يجري داخل المجتمع، قلت الإمكانيات العملية التي تسمح لصحافيين الراغبين في الإطلاع على ما هو أبعد لتحقيق رغبتهم.
هل تشعرون أن الصحافيين يطرحون هذه الأسئلة على أنفسهم؟
إننا نعيش في مجتمع ليس على ما يرام، وكذلك الأمر بالنسبة للصحافة. إنها تتحدث، أكثر فأكثر، عن ذاتها. إننا ندور جميعا في فراغ إلى حد ما. وهذا نسميه الزمن المظلم. ففي هذا الزمن يصعب على الصحف أن تكون كاشفة وتنير طريق الناس بمقالاتها، وتوقظهم. وفي هذا الزمن يكتفي الطبيب المختص في الأمراض العقلية بالتخفيف على المريض حتى لا يتفاقم مرضه. هذا هو الزمن المظلم الذي تقل فيه الرغبة ونترك الأشخاص يُصرعون لأنهم يعيشون في ظروف معقدة وغير واضحة. إنه زمن يتقدم فيه الرعب ويتحول إلى نوع مألوف ومبتذل.
هل هذا يزن بثقله على الصحف أكثر من الرأسمال الكبير، وأرباب الصحف أو العولمة؟
يكون الأمر جيدا لو كان هذا الأمر يتعلق بأرباب الصحف ورأسمال، فساعتها نعرف المشكل. بكل تأكيد إن أرباب العمل ورأسمال الكبير يتفقان جيدا على تجنب الحديث عن منع الأدوية الجنيسة في إفريقيا أو التطرق أليها بشكل مقتضب، أو التزام الصمت تجاه التلوث البيئي الذي تتسبب فيه الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 50%، أو ترحيل الصناعة إلى أندونسيا. بالطبع إن رأسمال الكبير يتلذذ بهذا الوضع. فالتلذذ من هذه الوضعية أو الاستفادة منها لا يعني بتاتا التحكم فيها. وهذا ما يجب أن يعرفه اليساريون ويفهمونه. فأن يكون هناك منتفعون لا يعني بأن هؤلاء يسيطرون على الوضع.
لقد صرحتم بأن ” الصحافيين قد اضاعوا جماعيا ثورتهم” فماذا تقصدون بهذه الجملة؟
إنه تلميح إلى ما يسمى ” ثورة الحوليات”. لقد أدرك المؤرخون منذ قرن أن التاريخ ليس تاريخ ملوك فرنسا، وليس تاريخ التمثلات. فالتاريخ ينجم عن عدد هائل من الأحداث الصغرى. وقد رأى المؤرخون أنه من الواجب اخذ كل هذه الأحداث بعين الاعتبار. بينما ظل الصحافيون، وخاصة الذين يشتغلون في المجال الجيو- سياسي بمنأى عن كل الأحداث الصغيرة وكأنهم يعيشون في عصر سبق ثورة الحوليات. إنهم يتعاملون مع التمثلات representations وكأنها أشياء فعلية. ففي الغالب ، إن الأحداث الصغرى هي التي تؤسس لتلك الكبرى و لا تهم سوى البعض في مجال الجيو- سياسي.
ألا نطلب الكثير من الصحف؟
إن معظم النقد الموجه إلى الصحافة يغالى، ضمنيا، في سلطتها. لكنني أوجه حديثي، في هذا المقام إلى أوربا. وأقول يجب على كوبا أن تمتلك الكثير من الشجاعة حتى تنشر خبرا ضد سياسة كاسترو. لكن بالمقابل يجب أن نمتلك الشجاعة ذاتها ونذهب إلى كوبا لعرض كتاب ينقد الصحافة الغربية.
——————————————————–
- تنجانيـقا اسم دولة استقلت عن بريطانيا في 9 يونيو 1962 واتحدت مع جزيرة زنجبار عام 1964 ليكونا جمهورية تنزانيا الاتحادية – المترجم.
الإشهار السياسي: صداع الدول المزمن
نصر الدين لعياضي
هل أصبحت دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرون تعاني من صداع مزمن اسمه الإشهار السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي؟ يبدو أنها لم تقتنع بالإجراءات المتخذة للحدّ من الإشهار السياسي في مواقع التواصل الاجتماعي بعد النداء العاجل الذي وجهته إلى المؤسسات الرقميّة الكبرى، وتحديدا إلى شركة الفيسبوك، وتويتر، وغوغل، قبل أربعة أشهر من انتخاب أعضاء البرلمان الأوروبي. لقد أدركت لجنة هذا الاتحاد أن هذا الإشهار أصبح يشكل خطرا على الناخب الأوربي بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، بل يمكن أن يهدّد مالكي سلطة القرار في البلدان الأوربية. كيف لا وهى ترى أن آثار الإشهار السياسي الذي نشرته مواقع التواصل الاجتماعي لم تقف عند تخويف الناخب البريطاني، وحثّه على للتصويت لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوربي في الاستفتاء الذي جرى في 23 يونيو 2016. لقد قدرت الشركة الأمريكية المختصة في مجال الإعلام والانترنت، “بزفيد” Buzzfeed، أن القوى السّياسيّة المتصارعة في بريطانيا صرفت 1.1 مليون يورو على الإشهار السياسي الموجه للمواطنين البريطانيين قصد إرسال رسائل لنوابهم يطالبونهم فيها برفض المشروع الذي تقدمت به رئيسة الوزراء السابقة ، ” تيريزا ماي” قبل أيام قلائل من التصويت عليه يوم 15 يناير 2019. التصويت الذي انتهى باستبعاد المشروع المذكور واستقالة الحكومة. وصرفت القوى السّياسيّة المطالبة بإعادة الاستفتاء على القانون المتعلق انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي 250 ألف دولار على الإشهار السياسي عبر موقع الفيسبوك وحده! ربما ما يقلق أكثر في الإشهار السياسي ليس المبالغ المالية الضخمة التي صرفت من أجله، بل أن قسطا كبيرا من هذا الإشهار كان مجهول المصدر! ومن المتوقع أن يتكرّر هذا السيناريو في بريطانيا في المستقبل إذا علمنا أن قسطا كبيرا من الإشهار السياسي الذي استهدف الناخبين البريطانيين في حملة الاستفتاء على الانسحاب من الاتحاد الأوربي- البركسيت في يونيو 2016 كان كاذبا وبُثّ بأسماء مستعارة “.
لم تقع بريطانيا وحدها ضحية الإشهار السّياسيّ المزيّف. ففي الولايات المتحدة الأمريكيّة لازال الاتهام يلاحق موقع الفيسبوك لـــ” تساهله ” مع الإشهار السياسي الموجه إلى الأمريكيين، والذي يعتقد أنه ساعد الرئيس الأمريكي الحالي على الوصول إلى البيت الأبيض الأمريكي. فأيرلندا ، تعرضت هي الأخرى، إلى موجة من الإشهار السياسي في الاستفتاء على مشروع قانون الإجهاض الذي جرى في مايو 2018.
الخلط
قد تختلط الأمور على القارئ الكريم ، ويتداخل فى ذهنه الخبر السياسي والدعاية والإشهار السياسي. ولتوضيح الفرق بينهم يمكن القول أن الخبر السياسي هو التبليغ عن حدث ذي طابع سياسي. وتُعرّف الدعاية بأنها بثّ ونشر ما من شأنه يشجع القبول بفكرة أو موقف أو نظرية سياسية. وهدفها هو التأثير على الرأي العام، وتغيير تصوره للأحداث والأشخاص. وتجنّيده لتبني هذه الفكرة أو لمناصرة أصحابها. أما الإشهار السياسي فيدل على الأفعال ذات الطابع التجاري المروجة للأفكار أو لشخصيات سياسية أو برامج أو مواقف سياسية. ربما لا يفهم البعض سر القلق من الإشهار السياسي ووصفه بالصداع طالما أنه يلتقى مع الدعاية في الهدف. إن السر لا يتلخص في أن الدافع لنشر الإشهار السياسي هو مالي قبل أن يكون سياسيا ، وأن دافع الدعاية سياسي بحت ، بيد أن مصدر القلق لا يكمن في المال، مهما ارتفع مبلغه، الذي يدفع مقابل بث هذا الإشهار ، بل في الخصوصية التي يكتسبها عندما يبثّ عبر مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة: الفيسبوك، تويتر، انستغرام، اليوتيوب وغيرها. إذ يمكن لمموّله ، شخص طبيعي أو معنوي ( هيئة ، مؤسسة)، أن يختفي وراء اسم مستعار. ويستطيع موقع التواصل الاجتماعي أن يمنح له الفرصة في اختيار ما يشاء من المعايير، نذكر منها انتقاء الشريحة التي يستهدفها ، مثل النساء أو الرجال، أو فئات عمرية دون سن معين، أو ذوي الدخل المعين أو الأشخاص الذين نقروا على زر ” أحب” هذا المحتوى أو ذاك. وهذا يعني تمكين المشهر من تصميم إشهاره السياسي وفق خصوصيات ناخبين معينين، من المحتمل أن يكونوا مجهولين من قبل المرشحين ذاتهم ناهيك عن بقية الناخبين.
الحدود
يرى البعض أن هناك نوعا من المبالغة في تقدير تأثير الإشهار السياسي على نتائج الانتخابات والاستفتاءات الشعبية في البلدان الأوربية، وحتّى في الولايات المتحدة الأمريكية. وذلك لأنهم يؤمنون يعجزه على تغيير اختيار الناخبين الذين حسموا أمرهم وقرروا منح صوتهم للمترشح الذي يتفق مع آرائهم ومواقفهم أو لصالح المشروع الذي يرونه مناسبا لهم. توضح أستاذة الاتصال ، “كثلين هال جميسون”، هذا الرأي في كتابها المعنون بـ ” سيبر وار” الحرب السيبرنية ” بالقول أن جميع المواطنين يقاومون الاتصال السياسي إلى حد كبير، لكن الاشخاص الذين يشعرون بعدم الارتياح إذا طُلب منهم أن يختاروا ، والذين يؤجلون اتخاذ القرار على من يصوتون إلى أخر دقيقة هم أكثر تأثرا بالاتصال السياسي. وشركات الواب الكبرى تستهدف هؤلاء الأشخاص ذوى المواقف والآراء الهشة بإشهارها السياسي بمقابل مالي يكاد لا يذكر.
إن تجربة الإشهار المدسوس في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك ، في حملة الانتخابات الرئاسية الأمريكية في 2016 تدعونا إلى التفكير في الإشهار السياسي من زاوية مغايرة. فالإشهار السياسي الذي مُوِّلته روسيا استهدف الناخبين الديمقراطيين التقليدين تحديدا، والزنوج القاطنين في الأحياء السكنيّة الفقيرة. ولم يرم إقناعهم بالتصويت لصالح المترشح الجمهوري ، بل سعي إلى ثنيهم على التصويت أصلا ، وذلك من خلال إقناعهم بعدم الجدوى من الانتخابات. والكل يعلم اليوم أن صد هذه الشريحة عن التصويت أضّعف ” هيلالي كلنتون” وخدم المرشح الجمهوري .
موقف وموقف
فاجأ مدير عام موقع شبكة تيوتر، جاك دورسي، بقية مواقع التواصل الاجتماعي: فيسبوك، يوتيوب، وسناب شات، وغيرها، عندما أعلن أنه سيحظر بثّ الإشهار السياسي في موقعه بدءًا من 22 نوفمبر الماضي. وعلّل قراره هذا القول أن بثّ هذا الإشهار الذي يستهدف أشخاص بعينهم قد يلغي قدرتهم على اتخاذ القرار. وهذا الإلغاء الذي يحركه المال يشكل خطورة فعلية على المجتمع ، ولا صلة له بحرية التعبير. فدفع الأموال من أجل زيادة تأثير الخطاب السياسي تترتب عنه نتائج لا تستطيع الإمكانيات التي تتمتع بها الديمقراطية اليوم على إدارتها . نتائج قد تؤثر على حياة ملايين الأشخاص. وكأن ” جاك دروسي” بقوله هذا يستهدف شركة الفيسبوك قبل أن تعلن عن موقفها صراحة من الإشهار السياسي.
صرح المدير العام لشركة الفيسبوك، مارك زوكربيرغ، أنه لن يمنع نشر الإشهار السّياسيّ في موقعه. وعلّل موقفه هذا بالقول أن ما يجنى من أموال من هذا الإشهار لا يبرّر كل هذا الجدل الذي اثير عنه ، متمنيا أن يفتح هذا الجدل النقاش عن مستقبل وسائل الاتصال المعاصرة في المجتمع. وأكد على أن أهمية الإشهار السياسي تكمن في مضاعفته للخطابات السّياسيّة ، خاصة تلك التي يدلي بها المترشحون في الانتخابات المحلية ، وكل الذين يسعون لرفع التحدي في الانتخابات ، والمجموعات التي تدافع عن بعض القضايا التي لا تحظى بأي اهتمام إعلامي سوى هذا الإشهار. فحظر الإشهار السياسي يعني تقديم خدمة للأشخاص المتربعين على سدة الحكم، والذين اختارت وسائل الإعلام التقليدية تغطية نشاطهم. إن موقف ” مارك زوكريبرغ” من الإشهار السياسي ليس جديدا. فقد سبق وأن دافع عنه في أكتوبر 2018 أمام طلبة جامعة “جورج تاون” بواشنطن وأساتذتها . لقد أكد ساعتها أنه يرفض أن يكون ” قاضيّا في محاكمة الحقيقة” . ولن يقف ضد حرية تعبير 2.4 مليار مشترك في مواقع شركته وتطبيقاتها المختلفة: أنستغرام، وواتسات، وميسنجر. ويعتقد أن المواطنين الذين يعبرون على آرائهم جهرا وأمام الملأ يشكلون قوة في عالمنا ، بل سلطة خامسة تضاف إلى هيئات السلطة السياسية في مجتمعاتنا المعاصرة.
تدابير
يُعتقد أن شركة الفيسبوك قد استفادت من تجاربها السابقة، ومن الغرامة التى أجبرت على دفعها، والمقدرة بــ 500 ألف يورو ، بسبب قلة الإجراءات المتخذة لحماية بيانات مستخدميها! وهي البيانات التي جمعتها شركة ” كامبرج أناليتيكا” واستفادت منها بطريقة غير شرعية. هذا ما يوحي به الإعلان على لسان مديرها العام يوم 21 أكتوبر الماضي عن القيام بجملة من الإجراءات والتدابير الكفيلة بضمان شفافية الإشهار السّياسيّ وحماية الديمقراطيّة في الانتخابات الرئاسيّة الأمريكيّة التي تجرى في السنة القادمة. و يمكن أن نذكر منها الكشف عن السلوك المشبوه في بعض صفحات الموقع. وفي هذا الإطار يقول مارك زوكربيرغ أنه ألغي بعض الحسابات التي انشأها أشخاص من روسيا وإيران. ويعتقد أنها كانت تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية. وأنشأ نظام ” فيسبوك بروتكت” Facebook Protect، لحماية المترشحين ومساعديهم من خصومهم السياسيين، ومن كل القراصنة الذين يمكن أن يستولوا على بياناتهم الشخصية وعلى المعلومات الخاصة بمعارفهم وأصدقائهم بطرق غير شرعية، ويستغلونها ضدهم. ويستعملونها في نشر الأخبار المزيفة.
ويعمل الفيسبوك على نشر معلومات عن المنظمات وحتّى الدول المشرفة على إدارة الصفحات المشبوهة وهذا حتّى يكون مستخدم الفيسبوك حذرا في تعامله مع الصفحات التي يعتقد أنها مستقلة ومحايدة. لقد أضاف موقع الفيسبوك هذه الخدمة إلى تلك التي كانت متوفرة سابقا والتي تكشف عن أي تغيير يطرأ على مسمى صفحات الفيسبوك والبلد الذي أنشئت فيه. وقد ذهب مدير عام الفيسبوك في محاربته الإشهار السياسي إلى حد اتاحة الفرصة لكل مستخدمي موقعه لمعرفة ما أنفقه كل مرشح في الانتخابات للرئاسية الأمريكية المقبلة من مال على الإشهار السّياسيّ، وفي كل ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية عبر كل موقع الفيسبوك وأنستغرام، ومسنجر.
أما بخصوص الأخبار المزيفة، فقد وعد المدير العام لشركة الفيسبوك بتوسيمها من أجل لفت الانتباه إلى أنها تفتقد المصداقية. وإذا أصر مستخدم الفيسبوك على الإطلاع عليها رغم التوسيم فيصله إشعار بأن المتعاونين مع موقع الفيسبوك تَحَرّوا عن صحة هذا الخبر واعتبروه مزيفا.
وقد سبق لموقعي الفيسبوك وغوغل بأن تعهدا بأنهما سيضعان العدّة التقنيَة ذاتها المستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية تحت تصرف الدول الأوربية من أجل مراجعة أرشيفها المتعلق بالإشهار السّياسيّ: من؟ نشر ماذا؟ ومن أي مكان؟
تعقد
يرى المختصون بأن موضوع الإشهار السياسي معقد جدا. فإن كانت ممارسته في الحملات الانتخابية واضحة، بهذا القدر أو ذاك. فإنه يصعب في بعض الأحيان تمييزه عن غيره من الإشهار السّياسيّ الذي يبث في مواعيد غير انتخابية. وتبدو الحدود التي تفصله عن إعلام المواطن غامضة. الأمر يتعلق بالإشهار الذي تموله الحكومات خارج الحملات الانتخابيّة والتي يصعب الحكم عليه هل يندرج ضمن مسؤوليات الدولة على إعلام المواطنين أم أنه عبارة عن إشهار سياسي يروج ، بشكل ضمني” للحزب السياسي الحاكم؟ السؤال ذاته يطرح على الإشهار الذي تمولها الجمعيات ذات النفع العام على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل تلك التي قامت بها منظمة ” السلام الأخضر” الفرنسية المتعلقة بمخاطر المحطة النووية في إقليم “الدروم” الواقع جنوب شرق فرنسا. ومخاطر استخراج المعادن من أعماق المحيطات. والإشهار الذي يبثه بين الحين والأخر الاتحاد القومي الأمريكي للأسلحة عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتي يعارض فيه أي مبادرة لحظر بيع الأسلحة النارية الشخصية. وغيرها من الإعلانات المسببة للصداع ، خاصة تلك التي تدعو إلى الاقصاء والميز العنصرى على أسس عرقية أو دينية، والتي تسهم في تقسيم المجتمع. لكن مواقع التواصل الاجتماعي لم تحدّد بعد موقفها منها.
ويبدو أن هذا الغموض سيعمر طويلا في ظل التأخر في إصدار القوانين المنظمة للإشهار السياسي في جلّ دول العالم.
ففرنسا التي تملك ترسانة من القوانين الزاجرة في المجال الإعلامي، وتحظر بث الإشهار السياسي الموجه للناخبين عبر شبكة الانترنت في الحملات الانتخابية، لم تصدر أي نص قانوني من شأنه أن يرفع اللبس عن الإشهار السياسي، خاصة ذاك الذي يضر بالمصلحة الوطنية ويهدّد وحدة الأمة ، ويميزه عن إعلام المواطن. وألمانيا المتشددة في حماية المعلومات الشخصية، تبيح بثّ الإشهار السياسي بشرط ألا يتعارض مع مبادئ الدستور الألماني. بينما تعاني بريطانيا، التي كانت ضحية إنزال شديد للإشهار السياسي الكاذب، كما ذكرنا أعلاه، من غياب القوانين المنظمة للإشهار السياسي. ولم تمنع، على الأقل، بثّه خلال الحملات الانتخابية. إنها المعاناة ذاتها التي يشتكي منها مواطنو بلدان أوربا الشرقية.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد نموذجا في حرية الإعلام ، يخضع البث الإذاعي والتلفزيوني إلى مراقبة اللجنة الفيدرالية للاتصال. إذ يذكر أن الشبكات التلفزيونية الأمريكية الكبرى، مثل ” سي أن أن ” CNN ، و الأن بي سي NBC، وحتى قناة “فوكس نيوز” قد رفضت بث إشهار سياسي يسيء إلى “جو بايدن” المرشح الديمقراطي للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020. وهذا في اطار الحملة الانتخابية التي يخوضها الرئيس الأمريكي الحالي للاستمرار في الحكم لعهدة انتخابية ثانية. بينما ترك المشرع الأمريكي المجال لمواقع التواصل الاجتماعي لنشر هذا الإشهار أو رفضه.
أما البلدان العربية فيبدو أنها لم تعان بعد من هذا الصداع المذكور. وإن كانت بعضها قد شرعت في التفكير فيه بصوت مسموع خلال إعداد مدونات لأخلاقيات الإعلام.