حوار مع بيار ليفي أجراه معه جرمير ماشادو دا سيلفا
ترجمة نصر الدين لعياضي
نشر في مجلة ” Fronteiras do Pensamento” حدود الفكر” البرازيلية في مارس 2016، وأعاد نشره في مدونته باللغة الفرنسية.
بيار ليفي: فيلسوف وعالم اجتماع وباحث في علوم الإعلام والاتصال فرنسي. من مواليد تونس في 1956. يعتبر من المنظرين للتبعات الثقافية والمعرفية للتكنولوجيا الرقمية. نشر العشرات من الكتب حول الانترنت وآثارها الاجتماعية والثقافية والمجتمع الافتراضي والذكاء الجماعي، ترجمت كلها إلى العديد من اللغات العالمية. يشتغل حاليا أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة أوتاوا بكندا.
جرمير ماشادو دا سيلفا: كاتب ومترجم وصحافي وأستاذ الصحافة في جامعة برازيليا – من مؤلفاته: تكنولوجيات المخيال، وسائل الإعلام والثقافة في عصر الاتصال الشامل.
جرمير ماشادو دا سيلفا: استغرق تطور الانترنت وقتا أكثر مما هو متخيل. والانترنت بالنسبة لجميع الناس هي انفجار ” الواب ” Web” في تسعينات القرن الماضي. هل يمكن القول بطريقة ما أننا دخلنا منذ ثلاثين سنة في مخيال جديد، وهل ستحدث الكثير من الأشياء في المستقبل أم أن دورة التطور بلغت مداها ووصلت إلى السقف المحدد لها؟
بيار ليفي: لقد تطورت الانترنت بشكل سريع جدا، بل اسرع من أي نسق إعلامي أخر. لقد كانت نسبة المتصلين بشبكة الانترنت أقل من 1% من مجمل سكان العالم في 1990، ثم قفزت إلى 45% بعد جيل. إننا نتقدم بسرعة تقترب من نسبة 50% وتزيد.
نحن في بداية ثورة الوسيط الخوارزميّ فقط. ستعيش الأجيال القادمة تحولات كبرى. فالمعلوماتية الحاضرة في كل وقت وكل الأمكنة والمتاحة باستمرار ستعمم. وولوج تحاليل البيانات الضخمة – التي هي اليوم بيد الحكومات والمؤسسات الكبرى – ستدمقرط ونحصل أكثر فأكثر على صور إدارتنا الجماعية في آنيتها. هناك العديد من الأمثلة التي تؤكد هذا التوجه. وسيتمحور التعليم حول التكوين النقدي للانتقاء الجماعي للمعلومات ونشرها واقتسامها. و يصبح الفضاء العام دوليا وينتظم في ” سحاب سيميائي” في مواقع الشبكات الاجتماعية. وينتقل شكل الدولة من ” دولة-أمة” إلى دولة السرب في اقليم ذي سيادة و شريحة دون حدود في الفضاء الإعلامي الموجود في كل مكان وزمان، والنقود ستشفر ، وغيرها…
جرمير ماشادو دا سيلفا: نتحدث كثيرا عن انترنت الأشياء وعن ” الكل انترنت”. فهل هذا الأمر يعد تحولا أم أنه نوع من التعجيل والتصعيد التكنولوجي؟
بيار ليفي: يمكن دراسة الانترنت من جانبين متميزين على صعيد المفهوم لكنهما غير منفصلين عمليا ومترابطين. فمن جهة يوجد ” الفضاء الإعلامي للبيانات، الخوارزمات التي هي غير مادية ومتواجدة في كل وقت وفي كل الأمكنة: إنها ” سحب”. ومن جهة أخرى توجد أجهزة الاستشعار والاستقبال، الهواتف الذكية، والأدوات الصغيرة، والمنظومات التكنولوجية المحمولة المختلفة، والكمبيوترات، ومراكز البيانات، والروبوهات، وكل ما هو فيزيائي ويمكن، بالضرورة، تعيين مكانه: ” العتاد”. فلا يمكن للسحب أن تشتغل دون هذه الأجهزة والأدوات. فالانترنت هي التفاعل الدائم بين الموجود في مكان ما وغير المرتبط بمكان معين، بين العتاد والسحب. فكل هذا يعتبر، بشكل ما، منطقيا ومستنبطا من الأتمتة والتحريك الرمزي بواسطة الأنظمة الإلكترونية، لكننا مقبلون على الشعور بأثر هذا التفاعل في حياتنا اليومية.
جرمير ماشادو دا سيلفا: لقد اطلق العنان للتوقعات والتنبؤات مع الانترنت. لازلنا نتحدث عن مستقبل الصحف الورقية والكتاب. فالبعض يقول أن الورق يتساكن مع الحوامل الرقمية الجديدة والبعض الأخر يقول أن نهاية المطبوع مسألة وقت فقط. فهل تعد حجج كل طرف جدية ؟ ألا تؤخذ العاطفة وأثر الحنين بعين الاعتبار كثيرا بالنسبة إلى الورق، ؟ هل المسألة مسألة جيل؟
بيار ليفي: اعتقد أن نهاية الصحف الورقية مسألة وقت. أما بالنسبة إلى البحث العلمي، والتربية والمعلومات والإعلام ستنتقل كلها إلى التكنولوجيا الرقمية. وبالمقابل أتخيل أن من يقرأ الروايات والكتب النادرة على الورق سيظل موجودا، مثل استمرار وجود سوق صغير للفنيل- الأسطوانات القديمة التي يحركها ذراع في عالم الموسيقا. أنا شخصيا أحب قراءة الكتب على الورق والأخبار في شبكة الانترنت ( في موقع شبكة تويتر على وجه التحديد) لكن الرهان لا يتعلق بما أفضله… إن كهربة أو بالأحرى خوارزمية القراءة والكتابة لا مفر منه.
جرمير ماشادو دا سيلفا: ما هو أكبر تحوّل أو النقطة الأساسية في هذا التحوّل بعد ثلاثين سنة من المبتكرات، مثل مواقع الشبكات الاجتماعية، ؟
بيار ليفي: لم تحدث نقلة تقنية كبرى منذ ظهور الواب في منتصف التسعينات. فما جرى يتمثل في العديد من التطورات الصغيرة. يبدو أن أكبر انزياح على الصعيد الاجتماعي والسياسي يتمثل في الانتقال من فضاء عمومي تسيطر عليه الصحافة والإذاعة والتلفزيون إلى فضاء عمومي تسطر عليه ” الويكيات” ” wikis – يقصد بها المواقع الإلكترونية التي يمكن لمستخدميها وزوارها إضافة المحتويات دون قيود في الغالب وتعديلها – المترجم- والمدونات الإلكترونية، ومواقع الشبكات الاجتماعية، وأنظمة انتقاء المحتويات وتوزيعها حيث يمكن الناس أن يعبّروا. وهذا يعني أن الاحتكار الثقافي الذي يمارسه الصحافيون والناشرون ورجال السياسة والأساتذة هو في طور التآكل. فالتوازن الجديد لم يتحقق لكن التوازن القديم لم يعد قائما.
جرمير ماشادو دا سيلفا: تحدثت منذ مدة عن الذكاء الجماعي، وجماعية الذكاء. بيد أننا نرى أن الانترنت وشبكاتها الاجتماعية تُستَخدم للخير والشر لنشر الأفكار المتطرفة للحركات الجهادية. فهل يمكن أن نتحدث عن ” ذكاء الانترنت الجماعي للشر” أو عن أداة الحماقة الكونية؟
بيار ليفي: أتحدث عن الذكاء الجماعي من أجل الإشارة إلى ازدياد القدرات الإدراكية بصفة عامة وتشجيعها: ازدياد الذاكرة الجماعية، وإمكانيات التنسيق وإنشاء الشبكات، وفرص التعاون في التدريب، وفتح المجال للنفاذ إلى الإعلام والمعلومات، وغيرها. أعتقد أن هذا الجانب مؤكد وعلى كل الفاعلين في الميدان الفكري والاجتماعي المسؤولين أن يستفيدوا من هذه الإمكانات في مجال التربية، وإدارة المعارف في المؤسسات والإدارات من أجل المداولات السياسية الرقمية، وغيرها. لكن يجب أن ننظر إلى اختراع الانترنت ضمن استمرارية اختراع الكتابة والمطبعة. إنها ترفع قدرات الإنسان في التعامل والاستخدام الرمزي. وتكمن في قلب هذه القدرات اللغة التي لا تتوقف على تقنية خاصة لأنها وجدت منذ ميلاد الجنس البشري. فبفضل اللغة يوجد الفن، والثقافة، والقيم، وتعقدت المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… ومن يذكر اللغة يذكر أيضا الكذب والتضليل. ومن يذكر القيم يذكر أيضا الجمال والقبح. فمن السخافة أن نتخيل أداة تزيد في سلطات اللغة بصفة عامة ولا تنقل سوى ما هو حقيقي، والخَيِّر والجميل. حقيقي بالنسبة إلى من؟ وخَيّر بالنسبة إلى من؟ إن الحقيقي لا يبرز إلا عبر حوار وجهات النظر المفتوح لوجهات النظر. فضلا عن لو حاولنا أن نجعل من الانترنت آلة إنتاج الحقيقي، والخير والجميل فإننا نصل سوى إلى مشروع شمولي يكون الفشل مآله.
جرمير ماشادو دا سيلفا: إن العنف اللفظي كبير في مواقع الشبكات الاجتماعية، إذ يتم فيها التهجم على الأشخاص والشتم. وينقسم فيها العالم بين اليمين واليسار، وبين الطيبين والسيئين ، جماعتنا وجماعتهم. يوجد الكثير من الصحافيين الذين اوقفوا تعليقات القراء المشبعة بالعنصرية، والتهديدات و السَّبّ. فهل نحن في مرحلة التعلم والتَّمَرُّن على استخدام هذه الأدوات؟
بيار ليفي: إذا شتمني شخص ما أو بعث لي كلاما يصدمني عبر موقع شبكة تويتر أحذف اسمه من قائمة أصدقائي وأتباعي وكفى! فلا توجد بشرية كاملة. وبالمقابل إن مستخدم الانترنت ليس قاصرا. إنه يملك سلطة كبرى ومسؤولية عظيمة. القضية بالنسبة إلى المعلمين، على وجه الخصوص، تتمثل في تربية مستخدمي الانترنت. يجب أن نتعلم كيف نحدد الأولويات، وأن ندير اهتمامنا وأن يكون اختيارنا حصيفا لمصادر الأخبار التي نلجأ إليها وننقدها، ونولى أهمية للثقافة ، ونتعلم تشخيص السرديات وتناقضاتها، وغيرها من الأشياء. هذه هو تعلم الرقمية الجديد والتربية عليها؛ أي أن نصبح مسؤولين!
جرمير ماشادو دا سيلفا: إن القضايا التي حظيت بنقاش أكثر بخصوص الانترنت تتعلق بحقوق المؤلف ومجانية المحتويات. إن الانترناتيين يميلون إلى المطالبة بمجانية كل ما ينشر في شبكة الانترنت. لكن للإعلام كلفة مالية، فمن يدفع الثمن؟ هل هو الإشهار؟ إن الصحف تغلق مواقعها؟ هل آن الأوان فعلا لدفع مقابل مالي على ما ” نستهلكه” في شبكة الانترنت؟
بيار ليفي: ليس من المستحيل أن نجبر المستخدمين على دفع مقابل مالي من أجل الحصول على خدمات جيدة في شبكة الانترنت. هذا من جهة، ومن جهة نعم الإشهار، وخاصة بيع الأخبار التي ينتجها المستخدمون لشركات التسويق تشكل اليوم الطريقة الأساسية لتمويل الخدمات عبر شبكة الانترنت. تعاني حقوق المؤلف من أزمة في مجال الموسيقا وأكثر فأكثر في مجال الأفلام. أريد أن أشير على وجه التحديد إلى ميدان البحث والتعليم حيث يظهر الناشرون من الآن فصاعدا كمكبح أساسي لتقاسم المعارف. إن المقابل المادي للإبداع في عصر الوسيط الخوارزمي مشكل معقد لا أملك بخصوصه أي حل مقبول في كل الحالات.
جرمير ماشادو دا سيلفا: تحدثت أيضا عن الديمقراطية الافتراضية. هل يمكن القول أننا نتقدم اليوم نحو عصر جديد من الدمقرطة؟
بيار ليفي: نعم في حالة إمكانية بلوغ مصادر الأخبار والمعلومات أكثر تنوعا من الماضي، حيث يمكن للجميع التعبير والتوجه إلى جمهور واسع، وأخير، من السهل جدا أن ينسق المواطنون وينتظموا من أجل النقاش، والمداولات والفعل. ويمكن أن يكون لهذه “الديمقراطية الافتراضية” قاعدة محلية، مثلما هو الأمر في بعض مشاريع ” المدن الذكية” لكن الفضاء العام تًدَوَّل وزالت حدوده أيضا. فمن الممكن متابعة الحياة السياسية على سبيل المثال في العديد من الدول مباشرة أو العيش في تناغم مع مجمل ما يجري في الكوكب الأرضي من وجهات النظر أو المواضيع التي تهمنا. ولا يمكن أن نغفل بروز الحملات السياسية التي تستخدم كل تقنيات تحليل المعطيات و ” الملامح العامة” التي توظف في حملات التسويق، وكذا عملية الرصد، وحتى تضليل الرأي العام العالمي الذي تمارسه أجهزة المخابرات في مواقع الشبكات الاجتماعية.
جرمير ماشادو دا سيلفا: هل يمكن القول أن الانترنت قد غير طريقة تفكيرنا وقراءتنا وأسلوب بنائنا للمعرفة؟
بيار ليفي: بكل تأكيد، إن وجود القواميس في متناول اليد بشكل آني ، و الموسوعات ) منها موسوعة وكيبيديا)، والكتب التي يمكن الإطلاع عليها مجانا أو بمقابل مالي، والفيديوهات التربوية المتعددة، شكل مكتبات ضخمة في خدمة الجميع في كل مكان. هذا فضلا عن الاشتراك في العديد من مواقع ” الواب” المتخصصة والتواصل مع الأشخاص المهتمين بالمواضيع ذاتها عبر مواقع الشبكات من أجل التعاون في بناء معارف بطريقة تشاركية. إن تطوير أنواع جديدة من الشبكات التعاونية أو للتدريب في مجال التعليم تشهد على التغيير المذكور.
جرمير ماشادو دا سيلفا: تقول أغنية برازيلية: رغم كل ما قمنا به وعشناه فإننا دائما الأشخاص ذاتهم نعيش مثلما عاش آباؤنا”. فهل حقيقة أننا دائما الأشخاص ذاتهم أم أن الانترنت غيرتنا وفصلتنا عن حياة آبائنا؟
بيار ليفي: نحن دائم بشر نحيا ونموت، سعداء أو تعساء. فالشرط الإنساني الأساسي لا يتغير بينما وثقافتنا المادية والفكرية هي التي تتغير. لقد تضاعفت قدرتنا على الاتصال وتوزعت على المجتمع بأسره. تطور إدراكنا للعالم الذي يحيط بنا وازداد دقة. واتسعت ذاكرتنا. و ستغير قدراتنا على تحليل الأوضاع المعقدة انطلاقا من فيض البيانات قريبا علاقتنا بالمحيط البيولوجي والاجتماعي. وتزداد قدراتنا على الحساب بفضل كمية البيانات المتوفرة، فمن المحتمل أن تشهد العلوم الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين ثورة شبيهة بالثورة التي شهدتها العلوم الطبيعية في القرن السابع عشر. نحن الأشخاص ذاتهم لكننا نتغير.