نصر الدين لعياضي
نشر في مجلة الشروق الإماراتية: العدد – 1375 – 1387 – الصادر في 13 – 19 / 8/ 2018
وسط الاحتفاء بميلاد شبكة الانترنت وتكاثر تطبيقاتها وتعدّد منصاتها التقنية التي أصبحت تنافس وسائل الإعلام التقليدية في مجال نشر الأخبار وبثها، لفت بعض علماء الاجتماع النظر إلى التحول الخطير الذي بدأ يطرأ على الممارسات الإعلامية والثقافية في المجتمعات المعاصرة. إذ أكدوا أن لاحتكار وسائل الإعلام التقليديّة للأخبار منافع اجتماعية عديدة. لعل أبرزها ” تحشيد” جمهورها؛ أي جمع أكبر عدد من الناس في وقت واحد لاقتسام نشرة الأخبار ذاتها، ومشاهدة مباراة كرة القدم عينها، أو الاستماع إلى الأغنية ذاتها وتعويدهم على ذلك، ممّا يؤدي إلى صقل ذائقتهم الفنية وتوحيد اختياراتهم الثقافية. فما تبثه هذه الوسائل يعمل على تشكيل لُحمة ثقافية وفنية تنصهر فيها تجارب الناس الاجتماعية والعاطفية. لكن مع تزايد عدد مواقع التواصل الاجتماعي بدأ هذا الجمهور يتشذَّر ويتعدّد. فبات كل شخص مستقلا بممارسته الثقافيّة والفنيّة، ممّا يهدد اللحمة المذكورة بالتآكل فتضعف الروابط التي تشدّه أفراده.ومن هنا تعالت الأصوات المحذرة من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.
بالطبع، إن مسؤولي مواقع التواصل الاجتماعي استهجنوا هذه النظرة لنشاطها، بل سخروا من أصحابها. فأحد إطارات ” أيربنب”، وهي منصة إلكترونية جماعية تسمح لمالكي الشقق بتأجير سكناتهم للمصطفين الأجانب في أثناء الإجازات السنوية لمدة قصيرة والمنتشرة في 191 بلد، يؤكد بأنها تصبو إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام خلال السنوات العشر القادمة لأنها تمكن آلاف الأشخاص، الذين لم يكن بوسعهم الالتقاء بدونها، من التقارب والتعارف!
والكثير من رواد هذه المواقع يعتقدون أن الدعوة إلى الحذر من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يعني توجيههم إلى مغادرة القرن الواحد والعشرين و العودة إلى الماضي؛ أي أنه يمثل الدعوة إلى استعمال الشموع للإنارة بدل الكهرباء!
مرافعة
يرد “كال نيوبورت”، أستاذ المعلوماتية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، على هؤلاء الرواد في مرافعة طويلة حملت عنوان” لمَ عليك مغادرة شبكات التواصل الاجتماعي”. أصدرها في فيديو تعليمي لقي رواجا كبيرا. استهلها بالاعتراف أنه لم يسبق له أن فتح حسابا في وسائل التواصل الاجتماعي أبدا. ويؤكد أن هذا القرار الذي اتخذه لم يؤثر عليه كثيرا. فلازال يملك أصدقاءً، وعلى اطلاع على ما يجري في العالم، وقادرا على التواصل والتعاون مع نظرائه من الأستاذة والباحثين في مجال تخصصه العلمي ، ويتفاعل بشكل مستمر مع الأفكار المبدعة والمتميزة. لا يصف نفسه بالفقير في اختياراته الترفيهية إلا نادرا. والأكثر من هذا اعتقاده أنه أكثر سعادة حيث وجد الاستقرار في حياته. ونجح في حياته المهنية دون استخدام مواقع التواصل الاجتماعي
ويوضح اختياره هذا بالقول أنه ليس موقفا اجتماعيا كبيرا بل مجرد رفض لأحد أنواع الترفيه المتوفرة. ويعتقد أن هذا الأمر لا يجب أن يثير جدلا كبيرا لأنه يشبه من يختار المجلات للحصول على الإعلام والمعلومات بدل الصحف اليومية. ويضاهي اختيار من يفضل مشاهدة برامج القنوات التلفزيونية ذات الاشتراك المدفوع بدل شبكة قنوات التلفزيون المفتوحة.
بعد هذا الاعتراف الشخصي، يؤكد “كال نيوبورت” أن الذين يعتقدون أن مواقع التواصل الاجتماعي مسلية، وأن من يستخدمها لا يخسر شيئا بل يكسب الكثير ما كان له أن يكسبه لو ظل بمعزل عنها، يجانبون الصواب. ويبرّر ذلك بالقول أن هذه المواقع استفادت من خدمات مهندسي الانتباه الذين وظفوا الأساليب التي تتبعها كازينوهات القمار في لاسفيغاس. فصممت على النمط الادماني تحقيقا للربح. ويستطرد قائلا: إنّ هذه المواقع لا تمثل تقنية أساسية بل مجرد مصدر من مصادر الترفيه المتوفرة بكثرة. ويصفه بالمصدر التافه والبغيض لو نظرنا إليه عن قرب أكثر! ويعلّل هذا الوصف بالقول أنه يجزأ انتباه الشخص بأقصى قدر ممكن طوال اليوم. فالشخص الذي يقضى سحابة يومه في حالة من الانتباه المتشظي: الالتفات بين حين وأخر إلى الرسائل التي تصله والتمعن في الصور أو اللهث وراء الأخبار المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي والتعليق عليها، أو الانتباه إلى ما يقوم به أصدقاؤها أو أفراد عائلته في هذه اللحظة أو تلك. فهذا التشتت في الانتباه يؤدي إلى التقليل من القدرات على التركيز بشكل مزمن.
أمراض
إننا لا نذهب إلى ما ذهب إليه “كال نيوبورت” في دعوته إلى الاستغناء عن مواقع التواصل الاجتماعي ، لأن كل شخص حر في اختياراته. ونكتفي بالإشارة إلى أن ما استعراضه من اضرار ناجمة عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ليست سوى جزءا من أمراض العصر التي شخصها الأطباء النفسانيون بمصطلحات علمية لازال بعضها يبحث عن مرادف له باللغة العربية، مع الأسف، مثل: ” السيلوغومانيا” أي “الاكتناز القهري” وهو سلوك يقضى بتخزين كل ما يصلنا عبر شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، و” تشيلاليا” وتتمثل في رغبة الشخص الجامحة في اشراك أصدقائه في مواقع التواصل الاجتماعي كل ما تقع عليه يده فيرسله لهم دون أن يتمكن هؤلاء من اللحاق به، ممّا يؤدي إلى نوع من الرفض الاجتماعي، و” المنوفوبيا الرقمية” أو الفردانية الرقمية” وهو نوع من الرهاب الذي يعزز إحساس الفرد بالعزلة نتيجة قلة التفاعل مع ما ينشره في مواقع التواصل الاجتماعي؛ وويرسخ ظنونه بأنه أصبح غير مرغوب من قبل أفراد الجماعة التي ينتمي إليها. و” القلق الاضطرابي العام” ؛ أي بالشعور بعدم معرفة هل يمكن الاستفادة بما يجرى في الحاضر على الشاشة أو حفظه في الشبكة والإبقاء عليه لوقت قادم، و” انفصام الشخصية الرقمية” التي تعني تضارب المعلومات التي يُعرف بها الشخص ذاته في حساباته المتعددة في أكثر من موقع في شبكات التواصل الاجتماعي. و ” رهاب الانغلاق” وهو نوع من الذعر الذي يشعر به الشخص عندما يكون عرض نطاق البث ضعيفا أو غير كاف أو عند بلوغ ذاكرة جهازه أقصى حد من قدراتها على التخزين.
نماذج
لقد حاولت بعض وسائل الإعلام العثور على من يعانون من أعراض هذه الأمراض. ففي الذكرى العاشرة لتأسيس موقع شبكة الفيسبوك طلبت صحيفة ” لوموند” الفرنسية، على سبيل المثال، من قرائها أن يسردوا لها كيف تغيرت علاقتهم بهذا الموقع خلال عقد من الزمن، وكيف يرونها في المستقبل. فكانت الاجابات مختلفة تؤكد بشكل أو بأخر ما أصبحوا يعانون منه. فإحدى القارئات تعترف أن هذا الموقع يعد مصدرا للأخبار والتشارك والاتصال لكنه أيضا عامل قلق اجتماعي وتبعية. واعترف قارئ آخر بأن مواقع التواصل الاجتماعي جعلته يعاني الخوف من فقدان شيء ما أو تفويت فرصة ما. إذ يخشى عدم علمه بحفل يحضره جميع أصدقائه ، أو عدم الانتباه لحدث أصبح حديث الجميع. وتشكو إحدى القارئات من الاحباط الذي أصبحت تعاني منه بعد أن شعرت أنها لن تكون في مستوى صديقاتها اللواتي يستعرضن حياتهن في موقع الفيسبوك. ولعل أخطر اعتراف هو ذاك الذي قدمته احدى القارئات التي أكدت أنها الغت اشتراكها في هذا الموقع، دون أسف، لأنها فقدت السيطرة على الصورة التي كونتها على نفسها وروجتها في هذا الفضاء الافتراضي.
لعل هذه الاعترافات تؤكد الحقيقة التي ما انفك علماء الاجتماع يذكروننا بها، وهي أن الاتصال ما بين الأشخاص عبر الكمبيوتر أو اللوح الإلكتروني يسقط الحذر وحتّى التحفظ الذي يطبع الاتصال المباشر وجها لوجه ويسمح لمن يملك حسابا في هذه المواقع أن يأخذ راحته في نحت الصورة التي يهوى أن يظهر بها للغير.
يؤكد “توماس زوبر” و”ألكسندر دي اسنارد”، في كتابهما الذي اختار له عنوانا مستفزا ” :الفيسبوك قتلني”، أن هذا الموقع جعلنا نلهث وراء المستعجل حدّ الإدمان ، ولا نستطيع الانفلات من الغير الذي يتصل بنا في كل لحظة وفي كل مكان. وأصبحنا مريدي الشفافية. لقد أعادت التكنولوجيا الراهنة صياغتنا فأصبحنا نعيش تحت أنظار الآخرين ومراقبتهم. نركض في كل الاتجاهات في الفضاء الافتراضي بعد أن فقدنا الاستعداد الدائم للخوض في الحديث المستفيض مع أي شخص. وهذا الأمر انعكس بشكل جلي على حياة الأشخاص العادين المستخدمين بكثافة لمواقع التواصل الاجتماعي. ففي دراسة حديثة في الولايات المتحدة الأمريكية تَبيّن أن 57% من مستخدمي الانترنت ثرثارين في الشبكة أكثر من حياتهم اليومية في الواقع العملي. وربما تقترب الشعوب العربية من هذه النسبة أو تتجاوزها إذا نظرنا إلى الأشخاص وهم يمتطون وسائل النقل الجماعي، إذ نلاحظ أن كل راكب يضع سماعات الهاتف الذكي في أذنيه ليغرق في عالمه الخاص، أو يبحلق في شاشة دون أن يدري ما يجري حوله. لقد كانت الثرثرة والتطفل على الغير تؤثث هذه الوسائل في زمن مضى.
لكن هل كل سبق ذكره يبرهن على أن مواقع التواصل فقدت ما يجعلها اجتماعية؟ بالفعل يقول البعض، ويضيفون المزيد من الحجج، مثل فسخ علاقة الصداقة بين الأصدقاء في الحياة اليومية وليس الافتراضية فقط نتيجة عدم رد أحدهم على رسالة صديقه الصوتية التي أرسلها له عبر موقع الفيسبوك وهو يتمعن الإشارة الخضراء التي تثبت أن صاحبه يتصفح حسابه في الموقع ذاته في تلك الأثناء. أو الاحباط الذي يعاني منه قطاع واسع من مستخدمي الانترنت المحرمين من أبسط الأشياء أو حتى القنوط من وضعهم وهم يتابعون صور أصدقائهم في أفخم المطاعم أو الفنادق أو في سفريات سياحية أو يقودون أفخم السيارات عبر صفحاتهم في موقع شبكة الفيسبوك. فما هو شعور تلك التي الفتاة التي حرمت من الزواج عندما تتلقى “وابل” من الصور من صديقتها وهي تعيش أحلى لحظات شهر العسل. بالطبع، قد ينسى البعض أن المرء يتجمّل كثيرا ويتظاهر بما ليس له أو فيه أمام عدسة الكاميرا التي تنقل صوره للغير. لكن ما ينفع الشخص الذي لا يملك حتى ما يتجمّل به إن أدرك ذلك. ربما سينعزل في حياته عن الناس؟
الصداقة الهشة
قال القدماء أن لا صديق لمن هو صديق الجميع. فالصداقة تفترض الثقة الكبرى المتبادلة ، والنزاهة، والحميمية. إنها أكبر من محادثة شخص أو التخاطب معه. إنها معاشرة، وممارسة وحياة مشتركة. لكن الروابط الافتراضية التي تتجلى في مواقع التواصل الاجتماعي أفرغت الصداقة من هذا المضمون، وجعلتها تقتصر على النقر على ايقونة التي تعني قبول الشخص وإضافته إلى قائمة الأصدقاء ونسيانه بعد الإضافة وتبادل بعض المنشورات والتعبير الإيقوني عن الإعجاب في بعض المرات التي قد تكون متباعدة. لكن حتّى هذه الصداقات الرخوة التي تبدو سطحية من المفروض أن تقرّب الأشخاص لكنها قد تعمل على إبعادهم عن بعضهم. فمن لا يلتفت إلى منشوراته في مواقع التواصل الاجتماعي؛ أي لم ينل قدرا كبيرا من ” الإعجاب” يُرضى به غروره يشعر باليأس ويقل تفاعله مع الغير وينتهي به المطاف إلى الانزواء. قد يلوم البعض هذا الشخص لأنه أعطى لإيقونة “الإعجاب ” قيمة أكبر مما يستحق. لكن البعض الأخر يرى أن قيمة الأشخاص اصبحت تقاس في عصر مواقع شبكات التواصل بحجم هذه الايقونات وبعدد المتابعين لمنشوراتهم. أننا نعيش حياتنا بشكل مكثف في الواب. وأن وصفها بالافتراضية ضرب من التضليل لأن ما هو رقمي ليس سوى الاستمرار في الحياة بطرق آخرى. هذه الحقيقة تنبهنا إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تعيدنا إلى طفولتنا. فالطفل ينتظر دائما من يثنى على سلوكه ويعبر عن رضاه عنه وقد يصاب بالحزن وحتّى الكآبة إن اهمل ولم يلتفت إليه أحد.
طفولة متأخرة
وتتجلى العودة إلى الطفولة أيضا على مستوى التفريط في الخصوصية. فالأطفال لا خصوصية لهم، قد يتجولون في البيت تارة عاريا ولا يملكون أي سر يحفظون عليه. لكن مع نموهم العقلي يبدأون في إدراك أهمية خصوصيتهم. إن مواقع التواصل الاجتماعي تجعل الفرد يتنازل عن هذه الخصوصية إلى درجة أنه يفقد السيطرة عليها. والشخص الذي يتجرد من خصوصيته وتصبح ” “أسراره ” على كل لسان يضحى أكثر هشاشة اجتماعيا. والغريب في الأمر أن الشخص الذي ينشر كل صغيرة وكبيرة عن يومياته في مواقع التواصل الاجتماعي، ويوثقها بالصور، يشتكي من التلصص وحتّى التجسس على حياته الخاصة!
لقد أكد أكثر من باحث أن مواقع التواصل الاجتماعي تشجع الأفراد على الانغلاق بدل الانفتاح ، أي تجمع الأشخاص الذين يؤمنون بالأفكار ذاتها، وينأون عن الأشخاص الذين يخالفونهم الرأي وينتهون إلى التعصب لرأيهم، و التهجم بأقسى الألفاظ على من يخافونه. لذا نلاحظ بأن بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى منبر للقدح والحقد والكراهية. وهذا ما حدا بالفيلسوف ” جون رونسون” صاحب كتاب ” العار” إلى القول بأن أروع شيء في مواقع التواصل الاجتماعي يكمن في كونها منحت صوتا للذين لا صوت لهم، فلا يجب أن نحوّلها إلى عالم تكون فيه أفضل حيلة للعيش هو العودة إلى التزام الصمت.
لقد اهتم الكثير من الباحثين بتطور خطاب مؤسس شركة الفيسبوك “مارك زوكربيرغ “عن موقعه ولاحظوا بأنه أضحى يتعامل مع مستخدمي هذا الموقع كأنهم علامات تجارية وليسوا أشخاصا، بدليل أن أيقونة ” أحب” قد ابتكرت تلبية لرغبة المعلنين في معرفة رأي المستهلكين في السلع التي يروجونها، ثم تم سحب هذا الابتكار على البشر. وبهذا أضحت إدارة العلاقات الشخصية أقرب في هذا الموقع إلى نمط إدارة المؤسسات التجارية.
قد نكتشف بالتدريج إن موقع شبكة الفيسبوك يقدم المجتمع في صورته المثالية الخالية من النزاع، أو بالأحرى المجتمع المالك للأدوات القادرة على تطهيره من أي نزاع من خلال مسحه وإلغاء أصحابه. فإن لم يعجبك تعليق شخص ما، أو صورة ما أرسلها لك صديق، أن اختلف معك في الرأي، فلا تناقشه ولا تحاول أن تبحث معه عن أرضية للتفاهم، بل اسرع إلى إلغائه من حسابك وأنفيه من ” مملكتك. فهل بهذه الطريقة نؤسس للحياة معا رغم اختلافاتنا في حياتنا اليومية الواقعية؟