نصر الدين لعياضي
من منكم يتذكر رقصة التحدي المجنون، التي سميت ” كيكي”. لقد اكتسحت مواقع التواصل الاجتماعي في السنة الماضية. وفتنت الشباب في العديد من البلدان. فشكلت تهديدا خطيرا على سلامتهم البدنية؟ يتمثل التحدي الذي تحمله هذه الرقصة في نزول الفتاة أو الفتى من سيارته وتركها تكمل سيرها دون سائق، والانصراف إلى الرقص بمحاذاة بابها المفتوح على أنغام أغنية ” في مشاعري” لمطرب الراب الكندي ” دريك غراهام”.
لعل الكثير من المراهقين نسوا هذا التحدي ، بعد أن اتجهوا ، زرافات ووحدان، إلى ” تيك توك” الذي يقترح عليهم خوض العديد من التحديات الغريبة والعجيبة ليتقاسمونها عبر مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة. لكن ما هو “تيك توك “هذا؟
إنها منصة رقمية للفيديوهات على الحوامل المتنقلة ، يتم تقاسمها على مواقع التشبيك الاجتماعي. اخترعتها الشركة الصينية ” بايت دنس” في سبتمبر 2016. وبعد سنة من انطلاقاتها قامت هذه الشركة بشراء شركة ” ميوزيكا.لي”، التي كانت توزع 13 مليون شريط فيديو يوميا، بحوالي مليار دولار. بلغ عدد مستخدمي في هذه المنصة في ظرف سنة 150 مليون مستخدما نشيطا يوميا، أي حوالي 500 مليون مستخدم في الشهر الواحد. وبهذا استطاعت أن يتفوق على بقية مواقع التواصل الاجتماعي: الفيسبوك، وتويتر، وإنستغرام ، إذ بلغ عدد تحميلات فيديوهاتها 48.5 مليون تحميلا!
الفكرة
ولدت فكرة ” تيك توك” من ملاحظة سلوك المراهقين الصينيين الشغوفين بالتقاط صورهم الشخصية بهواتفهم الذكية من جهة، وتمايلهم على أنغام الأغاني التي تصدح بها هذه الهواتف من جهة أخرى. فاتجه التفكير إلى اختراع منصة رقمية تجمع الرغبتين: الرقص وتصوير الذات ” سيلفي“. وتجسد فيما أصبح يُعرف بــ ” تك توك”. تقترح هذه المنصة على الشاب، الذي يقل سنه عن 16 عام، أن يسجل نفسه. ثم يختار أي أغنية من ألبوم الأغاني الذي توفرها. و يصور نفسه في شريط فيديو قصير لا يتجاوز 60 ثانية، ويرقص على ايقاعها بصوت صحابها لكنه يتمتم بكلماتها، أي الغناء وفق طريقة Play back . فيبدو أمام مشاهديه ومتابعيه وكأنه يلقيها بصوته. لقد سمحت هذه المنصة لمستخدمي الانترنت بمشاهدة الكثير من الفيديوهات التي تروّج لأنواع مختلفة من الموسيقى المكرّسة، ورفعت شعبيّة بعض الأغاني. لكنها نشرت أيضا بعض الفيديوهات التي جعلت من أصحابها مشاهير. مثل الشاب الأمريكي “جاكوب سرتوريس” الذي تحوّل إلى مغن مشهور بفضل شرائط الفيديو التي شرع في بثها عبر تطبيق ميوزيكا.لي وهو لم يتعد 15 سنة من عمره. والتوأمين الألمانيتين، ليزا ولينا، اللتان حصلتا على 30 مليون معجب بما أنتجتا من شرائط الفيديو التي تتلاعبان فيها، على أنغام الأغاني، بصورهما المتشابهتان حد التطابق. لقد دفعت بهما الشهرة المكتسبة إلى صك علامة تجارية للأزياء ، ففتحتا متاجر لها باسم ” جي1 مو71″.
تحديات بالجملة
لقد كان لفيديوهات هذه المنصة مفعول العدوى التي انتشرت في صفوف الشباب والمراهقين في البلدان الآسيوية أولا، مثل الصين واليابان، ثم بقية بلدان العالم بما فيها البلدان العربيّة. خاصة بعد أن اتاحت استخدام 34 لغة من لغات العالم. وغني عن القول أن اللّغة العربيّة تعدّ من اللّغات الأكثر استخداما لها. ليس هذا فحسب، بل أن هذه المنصة تلائم ، أكثر، مزاج المراهقين التواقين إلى رفع التحدي. فمن جملة التحديات الكثيرة والمتعددة التي سجلت في هذه المنصة نذكر: رقصة الأصابع، والمتمثلة في قيام المراهق بحركات سريعة ومتنوعة بأصابعه على ايقاع الموسيقى والمؤثرات البصرية بشكل يصعب تقليده لخفة حركاته وسرعتها. ورقصة الأضواء والتي يرسم فيها المراهق أشكال مختلفة، مثل القلوب، بالإنارة فقط، وتحت ايقاع موسيقي متسارع يساير سرعة الرسم. ولعبة الرقص على السلم التي تدفع المراهق إلى القيام بحركات تهريجية على سلالم العمارات والمباني تتناغم مع لحن الأغنية التي يختارها . ولعبة تبديل الملابس والتي تتلخص في قيام المراهق المتنافس بتغيير ملابسه على ايقاع أغنية يختارها. ففي كل لقطة مصورة سريعة يظهر بلباس مختلف. بمعنى أن الشاب المراهق يغير هندامه بسرعة فائقة حتى يبرز في كل لقطة في زيّ مغاير. وإن كان البعض يؤخذ على قائمة هذه التحديات خلوها من أي معنى، فهناك غيرها من التحديات التي تقترب كثيرا من الحَمَق إن لم يكن الحمق ذاته، مثل تحدي “أحمر الشفايف“ الذي يتطلب من الراغب في التحدي سواء كان فتاة أو فتى! وضع القليل من أحمر الشفاه على منطقة ما من شافته. ثم يمطّ شَفَتَيْهِ ويقبضهما حتى تتمدّد المادة الحمراء وتصبغ شفاهه كلها! ولعبة تقليد تعابير الوجه العجيبة التي يتبارى فيها الشباب عبر تقليد حركات الوجوه التي تظهر في الشاشة. وتشبه هذه اللعبة، إلى حد كبير، تحريك عضلات الوجه التي يقوم بها بعض الشباب أمام المرآة من أجل تخويف ذاتهم أو لتقليد مهرج السيرك. وتحدى دَلْق الماء الذي يتمثل في قيام الفتى أو الفتاة بالرقص على إيقاع اغنية مختارة حاملا دلو ماء فوق رأسه، وفي لحظة معينة من تصاعد لحن الأغنية يسكب الماء على جسده. وغيرها من التحديات التي يعتقد الكثير من الأشخاص أنها تافهة وطائشة كان الأطفال الصغار في الماضي لا يجنون من ورائها سوى توبيخ الآباء وعقابهم. أما اليوم فان المراهقين الذين يقومون بها عبر ” تيك توك” ينالون الإعجاب والاستحسان. والبعض من لا يستحسنها ويقتنع بخوائها يبرّرها بالقول مثلا إنها طريقة مسلية للقضاء على الضّجر والملل من الفراغ الذي يعيش فيه المراهقون.
تحذير
أمام تزايد الاقبال على التسجيل في منصة ” التيك توك” حذرت بعض السلطات في البلدان العربية، مثل وزارة التربية والتعليم الجزائرية، التلاميذ وأوليائهم وأساتذتهم من مخاطرها. وأكدت على أنه لا يوجد أي مبرر لعرض المراهقين إلى جملة من المخاطر غير محسوبة العواقب التي تحملها هذه المنصة، منها قلة الصرامة في تطبيق شروط التسجيل فيها واستخدامها. فرغم أنها مخصصة للمراهقين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 13 و16 سنة إلا أن من هم دون هذا السن استطاعوا السجيل فيها. هذا إضافة إلى أنها تسمح لكل مستخدم شبكة الانترنت بمشاهدة الفيديوهات التي تبثها والتعليق عليها. وهذا خلافا لمواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، مثل “سنابشات” و”الفيسبوك” التي لا يمكن لأي شخص أن يطلع على ما ينشره المشتركون فيها سِوًى أصدقاؤهم ، بمعنى أن المشترك في هذا الموقع يختار من يطلع على منشوراته. وقد لوحظ أن ” التيك توك” يسمح بنشر التعليقات السوقية وغير الأخلاقية على الفيديوهات التي يبثها. وقد نُسب هذا الأمر إلى قلة عدد المتدخلين في هذه المنصة ” لمراقبة ما ينشر من فيديوهات وتعليقات. حقيقة لقد أكد مسؤولو هذه المنصة أنها مزودة بعُدَّة رقمية لغربلة ومراقبة كل ما تبثه. وأن المؤسسة المشرفة عليها رفعت عدد الأشخاص الذين يقومون بهذه المهمة من 6 ألاف إلى 10 ألاف، بيد أن هذا الإجراء يعتبر غير كاف أمام تزايد عدد الشباب المتهافت عليها واتساع شعبيتها وسط المراهقين.
ويؤخذ على هذه المنصة، أيضا، ما تشترك فيه من مخاطر مع مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، مثل التعرض لبرامج التجسس ، والتلاعب ببيانات المراهقين وصورهم الشخصية، واستدراجهم لابتزازهم واخضاعهم لرغبات الراشدين من ذوي الأمراض النفسية والسلوك الشاذ. هذا إضافة إلى أن بعض المواقع الإعلامية، مثل موقع ” فيس” الأمريكي أشار إلى استعانة الحركات اليمينية المتطرفة بهذه المنصة لنشر أيديولوجيتها العنصرية من خلال التعليقات على الفيديوهات وأصحابها.
فلسفة
تبدو هذه المآخذ بسيطة جدا إذا لم ننظر إلى ” تيك توك” كمنظومة متكاملة تستند إلى فلسفة في الحياة ورؤية للعلاقات بين البشر. فخلافا لبقية مواقع التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك وتويتر التي تستخدم مصطلح ” الصديق” أو”المتابع” لنعت الشخص الذي يداوم على متابعة ما ينشره أصدقاؤه فيها، فإن هذه المنصة تسميه معجب، وهي الصفة المقتبسة من عالم ” صناعة الترفيه” ” الشو بزنس”. أما المراهق الذي يقبل التحدي ويسجله في فيديو ويبثه في هذه المنصة فلا تسميه مستخدما ولا مشتركا، بل ملهما ” Muser”. إن تزايد عدد المعجبين بما يقوم به هذا “الملهم” تتحوّل إلى تاج. وتدفع المتنافسين على التاج الذهبي. والظفر به ليس بالأمر الهين أمام الملايين الذين يستخدمون هذه المنصة.
إن تفكيك هذه المنظومة التي تستند إلى هذه المصطلحات يدفعنا إلى التساؤل عن نوع الإلهام الذي يلهمنا به هذا المراهق وهو يرقص و يَنِطّ فوق السلالم أو يَصُبّ الماء فوق رأسه أو يقوم بحركات تهريجية سخيفة.
إن فلسفة هذه المنصة الرقمية لا ترمي إلى تعزيز روح المنافسة لتحقيق النجاح، بل تمجد الفردانية والمنافسة من أجل اقصاء الغير. وهذا يعني استبعاد فكرة التعاون، وتحقيق النجاح مع الجماعة وبفضلها. ربما لم يبتدع ” تيك توك” هذه الفلسفة لأن برامج ” تلفزيون الواقع” قد سبقتها إليها ورسختها. وكل ما قام ويقوم به هو تعميمها في أوساط المراهقين، بعد أن كانت محصورة في فئة البالغين.
في نقدها لــ “تيك توك” تؤكد مجلة ” تيلي راما” الفرنسيّة أن هذه المنصة تسبح في محيط سطحي يمجد الجسد إلى حد العبادة. فعلى المراهقة التي تقبل التحدي المقترح أن تبذل المستحيل حتّى تبدو جميلة في عيون مستخدمي ” تيك توك” وتثير غيرة الغير. وهذا ما تؤكده التعليقات على الفيديوهات. لقد بلغت بعضهن درجة التَّعَرِّي مِنَ الثِّيَابِ أو الإفراط في استخدام مستحضرات التجميل من أجل رفع عدد المعجبين بهن ! إنه منطق اقتصاد ” الكبس” التي تحدثت عنه المجلة المذكورة وشرحته كالتالي: كلما تزايد عدد النقرات على الأيقونات ارتفع عدد المعجبين ، وكلما تزايد عدد هؤلاء تحوّلت المراهقة التي ترفع التحدي في “تيك توك” إلى هدف تجاري. ويقدر أحد المدونين الذى سمي بــ ” ملك الفئران”، من باب الكناية على شغفه بفأرة الكمبيوتر، بأن ” تيك توك” هو المنصة التي تلحق الضرر بالأطفال والمراهقين أكثر من غيرها من مواقع التواصل الاجتماعي لأنها تجر من يملكون الاستعداد للتأثير عليهم إلى الاقتناع بأنه يتوجب عليهم التشبّه بالآخرين ليصبحوا مثل بقية الناس. وهذا ما أدى إلى سقوط المراهقين في قبضة تقليد بعضهم في طريقة اللباس، والهندام، وتحليق الشعر وتزيّنه، والمشي والرقص إلى درجة استنساخ بعضهم. إنها ممارسة خطيرة ” تنبذ” الاختلاف من جهة، وتعسر العيش المشترك بين البشر في ظل اختلافاهم.
الحياة ليست لعبة
إن المتابع للتعليقات التي تتهاطل على الفيديوهات التي ينشرها المراهقون في هذه المنصة الرقمية يلاحظ أنها تنافى وقواعد اللياقة والأدب، وتجرح مشاعرهم وتحط من قيمتهم. ولسنا ندرى ما هو تأثير هذا التجريح على المراهق وهو في هذه المرحلة من العمر التي يسعى فيها إلى بناء ذاته وتشكيل هويته؟ ألا تؤثر على تقديره لذاته في المستقبل؟ ألا تزعزع ثقته في نفسه ؟
لم توسع التكنولوجيا الرقمية حقل التسلية فحسب، بل قامت بتسلية كل شيء أيضا، حتىّ حوّلته إلى لعبة. هذا ما نلاحظه في التعليم والإعلام والحرب. لقد أضحت هذه الأخيرة تبدو وكأنها مجرد لعبة من ألعاب الفيديو. ففي هذه البيئة الجديدة تنمو الخشية من احتمال أن يتعامل، المراهقون الذين يقبلون التحدي الذي يقترحه ” تيك توك”، مع الحياة اليومية كأنها لعبة، ولا يأخذونها مأخذ جد أو يظنون أن النجاح في الفضاء الافتراضي هو ذاته النجاح في الحياة!
قد يعترض البعض على كل ما سبق ذكره بالقول أن كل المراهقين ليسوا أغبياء، بل يوجد فيهم الفطن والحذر واللّبيب والناقد ، بدليل أن الكثير منهم يعلقون على الفيديوهات معبرين عن استيائهم من سطحيتها ويعارضون سخافتها. بالفعل توجد الكثير من التعليقات التي تسير في هذا الاتجاه لكن الكثير منها لم يخرج، مع الأسف، عن فلسفة ” تيك توك”، لأنه يلعن أصحاب الفيديوهات بأفحش الألفاظ، ويدينهم للون بشرتهم أو قامتهم أو لشكل جسدهم. وبهذا يسهم في ترسيخ الحكم على الأشخاص انطلاقا من معايير ذاتية وحتّى عنصرية. فهل يمكن أن نتخيل حالة المراهِقة التي يقال عنها أنها بشعة وخائبة ، ومدى الانكسار الذي تعاني منه في حياتها المستقبلية؟
حقيقة لقد سمحت ” تيك توك” لبعض المراهقين من التنفيس من ذاتهم، وتطوير مواهبهم في الغناء والرقص والمونتاج والتصوير وإخراج شرائط الفيديو. والسؤال المطروح كم هو عدد هؤلاء في جيش المعجبين الذين لم يأخذوا من هذه المنصة الرقمية سوى قشورها.
قد يحاجج البعض بالقول أن ” تيك توك” مجرد وعاء تقني يملأه المستخدم بما يريد. فالعِلَّة في “الملهم” وليس الأداة. فأبناء الحضارات الأخرى أدرجت ” منتجات” هذه المنصة، إن اعتبرناها منتجات”، في اختياراتها وتقاليدها الثّقافيّة. فالمراهقون الصينيون، على سبيل المثال، وظفوها لما يميلون إليه: الـــ ” المسرحيات الهزيلة” المستلهمة مما ورثوه من خيال الظل، ومحاكاة ” الكاميرا الخفية”. ويميل اليابانيون إلى الرقصات الجماعية. ففي ماذا وظفوها أبناء حضارتنا؟
ما العمل؟
إن التخويف من هذه المنصة أو غيرها من مواقع التواصل الاجتماعي لا يجدي نفعا لأنه لا يثني عن استخدامها. ووعظ الشباب وأوليائهم قد كشف، هو الأخر، عن حدوده. إذا ما العمل إن علمنا أن منع الشباب من استخدام هذه المنصة يبدو أمرا مستحيلا؟
نعتقد أن ما قاله الزعيم الراحل، نلسون مانديلا، يفيدنا كثيرا في هذا المقام. لقد صرح ذات مرة قائلا: لتعكس اختياراتكم آمالكم وليس مخاوفكم “. لذا لابد من العمل على مساعدة الآباء والأطفال والشباب على رفع كفاءتهم التقنية حتى يضمنون أدنى حد من حماية أنفسهم من خلال التّقيّد بلوائح الآمن والسلامة الموجودة في شبكة الانترنت ومختلف المنصات الرقمية. وحث الآباء على عدم التجسس على ما يقوم به أبناؤهم في مواقع التواصل الاجتماعي لأنه لا يجدي نفعا، بل من المحتمل أن يزيد في توتر علاقتهم بهم. والتوجه إلى إعلامهم بماهية هذه الشبكات والغاية العلنية والمخفية من وجودها. ومرافقتهم في تجربة استخدامها .وشرح الفكرة البسيطة التالية أن ما يوجد في هذه المنصة ليس كله صالحا، فالكثير منه مجرد فقّاعات. وليس المطلوب منا أن نقلد الآخرين ونستنسخهم حتى نكون موجودين في الحياة الافتراضية والواقعية.