الوسائط المتعددة وتطبيقاتها في الإعلام والثقافة والتربية، تأليف ميشال أنجلو، ترجمة نصر الدين لعياضي و الصادق رابح، دار [ الكتاب الجامعي، العين، الإمارات العربية 2004


الاتصال .. تراكم الوقائع وأوهام الحتمية باتريس فليشي، ترجمة : د. نصر الدين لعياضي


 نشر بمجلة الرافد الإماراتية عدد 189- مايو 2013

يحيلنا تعريف الاتصال عبر وسائل الإعلام إلى أنظمة تقنية، بيد أن «أدوات الاتصال» لم تشكل أبداً موضوعاً مهماً في بحوث الاتصال وإن كانت هناك بعض الاستثناءات. فقد طرح علم اجتماع الإعلام الأمريكي موضوع التقنية أكثر من مرة في الخمسينيات من القرن الماضي. وقصة هذا الطرح. وبعد عقد من هذا التاريخ، منحت أبحاث المفكر الكندي، مرشال مكلوهان، مكانة مركزية «لآلات الاتصال»، إذ أكدت أن وسائل الإعلام حددت بشكل كبير تاريخ مجتمعاتنا. ولئن كان الاعتراض على تنبؤات مكلوهان واسعاً فالمؤرخون أعادوا التفكير في تأثير وسائل الإعلام بطرق مختلفة وبصرامة لم تكن أبدا من الخصائص البارزة في كتابات مكلوهان.
وفي الستينيات من القرن الماضي، تشكلت مدرسة جديدة لتاريخ التقنية بالولايات المتحدة الأمريكية تحدوها رغبة في صياغة مقاربة شاملة تضع حدا للقطيعة التقليدية بين تاريخ التقنيات والتاريخ الاجتماعي. واهتم بعض باحثي هذه المدرسة بتقنيات الاتصال.

من انتقال المعلومات عبر مرحلتين إلى انتقالها عبر عدة مراحل
انطلق أول تفكير في تأثير وسائل الإعلام في المجال السياسي من مخطط بسيط جداً يرى أن الجمهور مشتت ومفتت، ويخضع فرديا لتأثير الصحافة والإذاعة. ففي 1944 أظهر الباحث «بول لازرسفيلد» في كتابه الموسوم: The people’s choice (اختيار شعب) أن العلاقات بين الأشخاص تشكل مُنخُلاً لنشاط وسائل الإعلام.1 ومن هذا المخطط ظهرت نظرية تدفق المعلومات عبر مرحلتين والتي بلورها الباحث «إليهو كيتز» في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي. وكان في تلك الأثناء قد أجرى بحثا عن توزيع دواء على أطباء أمريكيين. فعرض النتائج التي توصل إليها وقارنها بنتائج أبحاث كلاسيكية حول علم اجتماع الابتكارات، خاصة البحث المتعلق بتوزيع الذُّرة الهجينة في ولاية «إيوا» الأمريكية؛ فهذا البحث ميز بين العناصر المكلفة بالإعلام عن المبتكرات وتلك الساهرة على منح شرعية لها. فوسائل الإعلام تستخدم للإعلام عن المبتكرات بينما الاتصال الشخصي يمنحها الشرعية.2 هكذا نرى أن الدور المنوط بقادة الرأي الذين يقومون بدور مصاحب للمبتكرات لدى جماعة بشرية يتحولون إلى عناصر فاعلة في التغيير الاجتماعي. لقد استند الباحث الأمريكي «ارفيت روجرز»، في كل أبحاثه حول انتشار المبتكرات، إلى الأفاق التي حددها هذا الدور. إذ رأى أن الأشخاص الأوائل الذين يتبنون التقنيات الجديدة يتحولون إلى قادة رأي. إنهم أشخاص منفتحون على العالم الخارجي، وكبار «مستهلكي» مواد وسائل الاتصال الجماهيري. وهنا تطرح إشكالية تأثير وسائل الإعلام.
يرسم الباحثون، في غالبية أبحاثهم حول المبتكرات التقنية، منحنيات انتشارها، حسب الزمن وارتفاع نسبة تبني التكنولوجيات الجديدة. يأخذ هذا المنحنى في الغالب شكل حرف S (نمو بطيء، ثم متسارع وصولاً إلى سقف التبني). ويبرر الباحث كيتز هذا المنحنى بأن الأشخاص الأوائل الذين تبنوا التكنولوجيا يؤثرون على المحيطين بهم، ثم يؤثر هؤلاء على المرتبطين بهم، وهكذا دواليك. إن إنشاء منظومة توسعية (تتوافق مع انتقال المعلومات عبر مرحلتين) تسمح بشرح منحنى البث أو التوزيع).
لقد كتب ملفن دوفلور في مقدمة مقاله الموسوم: (الاتصال الجماهيري والتغيير الاجتماعي) ما يلي: (في الوقت الذي تسعى معظم الدراسات حول الاتصال الجماهيري إلى الكشف عن أساليب تأثير وسائل الإعلام على المجتمع، أقترح دراسة الطريقة التي يؤثر بها المجتمع على وسائل الإعلام. 3 لكن مهما غيرنا اتجاه مخطط تأثير وسائل الإعلام فإن هذا الباحث يظل متمسكاً بمنهج منحنيات البث أو التوزيع.
لقد درس هذا الكاتب منحنيات أربع وسائل إعلام كبرى، وهي: الصحافة، والسينما، والإذاعة، والتلفزيون. والإحصائيات التي تقدمها هذه الدراسات تسمح كلها. بكل تأكيد، برسم منحنيات في شكل (S). لكن بالنسبة للصحافة، على وجه التحديد، يجب أن نلاحظ بدقة أن تفسير مسار التوزيع أو البث، الذي دام قرناً، بظواهر التأثير المتبادل يمكن أن يكون صعباً.
إننا نواجه في هذا المقام صعوبة يعرفها الاقتصاديون جيداً: فنظريات تحليل الاقتصاد الجزئي يمكن أن تستخدم كقاعدة لتحليل الاقتصاد الكلي. ولفهم منحنيات التوزيع أو البث، فإن دراسة نظرية انتقال المعلومات عبر مرحلتين، وقادة الرأي، يمكن أن تشكل قاعدة نظرية للتفكير التاريخي في انتشار وسائل الإعلام.
فإذا بقينا على المستوى الكلي فإن نموذج المنحنى في شكل (S) لا يعطينا أي مؤشر عن تطور وسيلة الإعلام. فالنمو يمكن أن يكون سريعا، بهذا القدر أو ذاك. والتشبع الذي يصل فيه منحنى (S) وبلوغه أعلى مستوياته، يتم في بعض الأحيان، عكس كل التوقعات وقد يتجاوزها.
وهكذا، فإن منتجي جهاز المذياع لم يكونوا يتوقعون عند تسويقه أن ربة البيت تشتري أكثر من جهاز واحد.
إذا انتقلنا إلى مستوى التحليل الجزئي فأول نقد يمكن أن نوجهه إلى نموذج انتشار المبتكرات هو كونها ذات اتجاه أحادي؛ فأصحاب هذا النموذج يرون أن الذين يتبنون التكنولوجية ساكنون إزاء العرض التكنولوجي شأنهم في ذلك شأن مستهلكي «وسائل الإعلام». إنهم يقبلون المبتكرات التكنولوجية أو يرفضونها. فالتكنولوجية تعتبر، في نظرهم، علبة سوداء لا يمكن أن تُعدل أو تتغير. والوسط الاجتماعي الذي يستقبل المبتكر التكنولوجي هو وحده الذي يمكن أن يتغير حتى يتقبل المبتكر التكنولوجي ويتبناه. وإذا كان التفاوت بين القيم الثقافية التي يحملها المبتكر التكنولوجي وقيم المجموعة التي تستقبله كبيرا، فإنها ترفضه بالجملة.
حقيقة، يمكن أن نميّز في مسار انتقال المعلومات عبر مرحلتين مجموعة فرعية؛ إنها مجموعة قادة الرأي الذين يميلون أكثر للابتكار، ويصبحون بالتالي، عناصر تغيير في الوسط الذي يستقبل هذه المبتكرات. إن قادة الرأي هؤلاء لم يتم تحديدهم بمدى انخراطهم في التقنيات الجديدة لكن بانفتاحهم على ما هو خارج الجماعة التي ينتمون إليها (الأطباء العاملون في المستشفى، والفلاحون الذين يذهبون أكثر فأكثر للمدينة…)
إن لقادة الرأي ميلاً عامّاً للابتكارات ولتبني التكنولوجية الجديدة مهما كانت. وهذا النموذج مطبوع بالسياق الأصلي الذي يستخدم فيه: وضعية استعمارية، عملية مركزية لعصرنة الفلاحة. إنه يبدو غير ملائم للوضعيات التي يكون فيها بث التقنيات أكثر انتشاراً.
إن نظرية الباحثين: روجرس وكيتز التي تم تعديلها بعد الأخذ بعين الاعتبار التفاعل بين ما هو تقني وما هو اجتماعي تجد اليوم صداها لدى علم الاجتماع الفرنسي. لقد حاول الباحث دومنيك بولي4 أن يترجم أفكار الباحث روجرس بالجملة التالية، التي استعارها من الباحثين: ميشال كالو وبرينو لاتور: (يصبح قادة الرأي الناطقين الرسميّين باسم المبتكرات. فالمرحلة الأولى من الابتكار يقابلها مسار من الاهتمام به. وعلى ضوء هذه الحقيقة يمكن أن نسجل الشغف بالشبكات الاجتماعية الذي برز مؤخرا. 5 وهكذا يتجه التفكير إلى أن علم الاجتماع والتقنية سيلتقيان مرة أخرى، مثلما حدث في الخمسينيات من القرن الماضي.

الحتمية التقنية
لقد تطرقت المدرسة، التي سماها البعض مدرسة طورنطو، إلى مسألة تأثير وسائل الإعلام لكن بطريقة أخرى. لقد جمعت هذه المدرسة باحثين قادمين من مشارب مختلفة جداً: المؤرخ هارولد إنيس، والباحث مارشال مكلوهان الذي يصعب تصنيفه. لقد اهتم هارولد أنيس بتاريخ النمط المكتوب ضمن أفق يذكرنا بذاك الذي حدده المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي. لقد درس تشكيل الإمبراطوريات وانهيارها. فرأى أن تطور الحضارات ارتبط بتاريخ المؤسسات الكبرى للمعرفة، وتاريخ الاختراعات في مجال الاتصال.
لقد ربط هارولد إنيس، على سبيل المثال، انتشار ورق البرديّ بتطور الإمبراطورية الرومانية وبالسلطة البيروقراطية. ورأى أن استعمال جلود الحيوانات للكتابة عزز السلطة الدينية، ونقل أماكن العلم إلى الأديرة. أما الورق فقد نمىّ التجارة في إيطاليا وفي شمال أوروبا.
استلهم مكلوهان كثيرا من أطروحات هارولد إنيس في أعماله ونشرها وعممها. ففي مقولته المشهورة: «الرسالة هي الوسيلة» نعثر على الفكرة التي مفادها أن كل وسيلة اتصال تُهَيْكل أنماط المعرفة، وأشكال التنظيم الاجتماعي بصفة عامة. فإذا كان مكلوهان يدافع عن أطروحة الحتمية التقنية، فإنه لم يسعَ قط إلى إثبات العلاقة السببية بين وسيلة الاتصال والمجتمع لكنه سعى أكثر إلى جمع المقولات والاقتباسات المختلفة، بشكل انتقائي، وفي صورة ترقيعية تمثل أفضل شرح للثقافة الكهربائية التي أصبح أحد رسلها.
يؤمن بعض الملاحظين بعودة النزعة المكلوهانية اليوم؛ ويتساءلون قائلين: ألا يعد مكلوهان، في آخر المطاف، أول مفكر في تيار ما بعد الحداثة؟
درست الباحثة مرجوري فرغيسون تأثير مكلوهان على المفكر بودريار واستنتجت (أن بودريار ينقل حتمية مكلوهان التكنولوجية إلى عدمية تقنية… وقد نتج عن هذا النقل نموذجٌ أكثر حتمية لم يتنبأ به مكلوهان قط. فوسائل الإعلام فائقة الواقعية، وأورلية (نسبة إلى جورج أورويل والعالم الشمولي والاستبدادي الذي وصفه في رواياته)، وقوية جداً في نظر المفكر بودريار6.
حتى نتعمق في دراسة العلاقات بين الاتصال والتقنية، فما يهمني أكثر مما كتبه مكلوهان الما بعد الحداثي، هو الأعمال التاريخية التي انشغلت بتأثير وسائل الإعلام على أنماط التفكير. وكتاب إليزابث إزنستين عن ثورة المطبعة يشكل على الأرجح، الدراسة الأكثر كمالاً ضمن هذا الأفق.
فإذا شاركت الباحثة إزنستين المفكر مكلوهان في الفكرة التي مفادها أن انتقال الكتاب من المخطوط إلى المطبوع قد أحدث انقلاباً في المعرفة، فإنها لا تعتبر، بأي حال من الأحوال، التغيرات التي حصلت في الاتصال العنصر المحدد والحتمي للتغيرات الاجتماعية في الأزمنة المعاصرة. لكن بمنهجيتها الخاصة تنفصل عن باحثي مدرسة طورنطو. فبالنسبة لها لا يوجد تأثير مباشر لهذه التغيرات، لكن توجد العديد من التفاعلات التي تتدخل بشكل مختلف حسب الظروف في هذا التأثير.
لاحظ أغلب المؤرخين الدور التي اضطلعت به المطبعة في تطوير الإصلاحات، بيد أن السرعة التي انتشرت بها أفكار مارتن لوثر1 ظلت لدى معظمهم سراً. تقول إليزابث إزنستين: (إذا أردنا أن نكشف هذا السر، فيجب أن نمشي خطوة خطوة في البحث آخذين بعين الاعتبار نشاط الطباعين، والمترجمين، والموزعين الذين يتدخلون كفاعلين في التغيير)7. وقد اهتمت إليزابث إزنستين بالطباعين، على وجه الخصوص. فهؤلاء موجودون في قلب النشاط الفكري، ينظمون اللقاءات بين الأشخاص ذوي النزعة الإنسانية من مختلف الجنسيات بصفتهم مؤلفين أو مترجمين أو قراءً. فهؤلاء الأشخاص كانوا محتكين بالطباعين.
لكن المطبعة تشكل أيضاً، أول مثال عن المؤسسة الرأسمالية، فلها علاقات بالسلطات الدينية والسياسية التي تشرف على الإنتاج الفكري أو تحظر نشره. فالطابِع ليس وسيطاً بين الكاتب والقراء فحسب، بل إنه شخص أيضاً، تسمح ملاحظاته بتحليل مختلف التفاعلات بين الدولة، والكنيسة، والنشاط الاقتصادي، وحركة الأفكار ودراستها. هذا الاهتمام الذي توليه الباحثة إليزابث إزنستين للطابِعين ليس عديم الصلة بالانشغال بالتاريخ الاجتماعي للفن الذي يهتم برعاته الماليين ومستشاريهم، وبتجار اللوحات الزيتية. هذا مع الاقتناع بأننا يمكن أن نؤول، بطريقة جديدة، العلاقات بين الفن والمجتمع عبر هذا المنهج8.
هذا المنهج الذي يتطلب تراكم الوقائع، ويؤكد على تعقد التغييرات يحول دون اختصار «ثورة المطبعة» في عامل واحد أساسي. إن التطورات التي شاهدناها في ذلك العصر كانت متناقضة فعلاً. فمن جهة، سمحت المطبعة للكنيسة الكاثوليكية بتوحيد معايير طقوس القربان المقدس، وتعزيز مذهبها في الحملة المعادية الإصلاح. ومن جهة أخرى، سمحت للبروتستنت. بفضل إنتاج الإنجيل وزيادة قراءته، بتحقيق استقلالية ممارستهم الدينية.
لنأخذ مثالاً آخراً في مجال آخر؛ إنه مجال الملابس، لقد شاهدنا وحدة ونمطية في الهندام، فالموضة «التي كانت تسمى بـ «الطريقة الإسبانية»، انتشرت وامتدت إلى امبراطورية «هامسبورغ»2. وبالمقابل ازداد الوعي بتنوع الهندام بشكل أكثر حدّة. فانتشر الكتاب عن الهندام المحلي في مختلف بلدان العالم. وأدت النقوش والحفريات التي جسدت الهندام المحلي إلى ميلاد الكثير من الصور النمطية؛ فمع المطبعة ظهرت جدلية جديدة: الوحدة النمطية والتنوع.
إن التفكير التاريخي في العلاقة السببية بين التكنولوجيا والمجتمع، يمنح أهمية كبرى لمسألة السوابق. فكل وسيلة اتصال جديدة لا يمكن أن يكون لها تأثيرا على ظاهرة اجتماعية إلا إذا وجدت قبلها أو تزامنت معها. فالباحثة إليزابث إزنستين كشفت عن ظواهر من التأثير المتبادل أكثر تعقيداً. فدرست على وجه التحديد، مسألة العلاقات بين اختراع المطبعة والنهضة. ورأت أن التجديد الثقافي الذي قاده المتعلمون والفنانون الإيطاليون جرى في عهد الخطاطين، بيد أن هذا لا يعني أن المطبعة لم يكن لها أي دور في النهضة وتطورها.
بالفعل، لقد شاهدنا ظهور حركات ثقافية مماثلة مرتين في العصر الوسيط، لكنها لم تفلح في إحداث تغيير عميق في حركة الفكر، نظراً لعجزها عن الانتشار في مختلف التخصصات، وعدم القدرة على جمع مجمل الأجزاء المتناثرة من التراث القديم. فالمطبعة أعطت نفساً جديداً للحركة التي بدأها «بترارك»3 والإنسانويين (ذوي النزعة الإنسانية).
إن العلاقات بين الإصلاح والمطبعة كانت مختلفة جدا. فاختراع المطبعة سبق الحركة الدينية التي قادها مارتن لوثر. لقد وجد هذا الأخير في المطبعة وسيلة سحرية وأداة تؤسس للروحانيات الجديدة. فالمسيحي المصلح لا يمكن أن تكون له علاقة مباشرة بالإنجيل لو تم توزيعه باللغة العامية أو اللهجة المحلية.
أثر ميلاد المطبعة على الحركات الثقافية والدينية في القرنين الخامس والسادس عشر. وأحدث انقلابا في أنماط المعرفة، فقبل اختراع المطبعة لم يوجد إطار مكاني وزمني مشترك لرجال العلم، ولم يكن بالإمكان إعادة إنتاج الخرائط المرسومة باليد بكل دقة ووفاء دون تعريضها للكثير من التحريفات. ومن جهة أخرى، كان من المستحيل، عملياً، إثراء الخرائط بالملاحظات والاكتشافات التي يقوم بها الرحالة والتجار. فالمطبعة وحدها هي التي تسمح بتشكيل عينة من الخرائط التي حظيت تدريجياً، بإجماع. وإعادة طباعة هذه الخرائط من جديد تحسنها ولا تحرفها. فهذا العمل العلمي، الذي يقارن بين الخلاصات التي توصلت إليها الأعمال التي أنجزها الأقدمون، وتضاف لها الملاحظات الحديثة، أضحى ضرورياً لرصد الوقائع التاريخية الدقيقة، ومن أجل تطوير علم الفلك والنباتات، وعلم الحيوان.
هكذا إذاً، فإن المقاربة التي قامت بها الباحثة إليزابث إزنستين للمطبعة تجدد بعمق دراسات تأثير وسائل الإعلام. وهذا النوع من المقاربات لم يطبق مع الأسف، على وسائل إعلام أخرى، مثل: التلفزيونُ. لقد تساءل علماء اجتماع وسائل الإعلام، منذ العديد من العقود، هل التلفزيونُ يؤثر على الناخبين؟ وكان تفكيرهم منصبّاً تقريباً، على المخطط السلوكي. والسؤال الوحيد الذي حاولوا الإجابة عنه يكمن في معرفة هل إن سلوك مُشاهد التلفزيون تغير أم لا؟ بينما لم يطرح سوى النزر القليل من الأسئلة ذات الصلة بالتغيير الحاصل في إدارة السياسة، وعن دور البرلمان نتيجة ميلاد التلفزيون. كما أن مقاربة إليزابث إزنستين لتأثير وسيلة الإعلام الجديدة على أنماط المعرفة، لم تمتد إلى الأشكال المعاصرة للمعلوماتية (الكمبيوتر الشخصي، الشبكات الإلكترونية، الميديا الفائقة). فالنصوص المنشورة في هذا الخصوص مستوحاةٌ من نبوءات مرشال مكلوهان أو تُعدّ امتداداً لخطاب صناع هذه التكنولوجيا. فالتحليل الصارم الذي يأخذ بعين الاعتبار مختلف الوساطات بين الأدوات الجديدة والعمل الثقافي يظل مطلوباً بكثرة.
إذا كان بحث إليزابث إزنستين يشكل منعطفاً في دراسة العلاقات بين تقنيات الاتصال والمجتمع، فيمكن على الأقل، التأسف على أن هذا التحليل الدقيق لم يهتم بالتأثير المتبادل الذي أحدثته النهضة والإصلاح على اختراع المطبعة وتطورها.

التكنولوجيا والثقافة
لقد ظل تاريخ التقنية لمدة طويلة حبيس الرؤية التقنوية الخالصة. بيد أن لوسيان فيبر ومارك بلوش حددا في سنة 1935، في أول عدد مما أصبح يعرف فيما بعد بالحوليات، توجهاتٍ لمقاربة مختلفة للظاهرة التكنولوجية؛ أي معالجة هذه الظاهرة في مختلف أوجهها، ودراستها ككلٍّ ثقافيٍّ. فبعض المقالات، خاصة نص لمارك بلوش حول الطاحونة، توضح هذه المقاربة.
إذا كان بعض الباحثين، مثل فرنود برودال، سيهتمّون، أيضاًَ بالتقنية، إلا أن هذه الأخيرة لم تصل لتكون في صدارة اهتمامات مؤرخي مجلة الحوليات. ففي الولايات المتحدة برز تيار التاريخ الاجتماعي- التقني، والتفَّ حول مجلة «تكنولوجيا وثقافة» في الستينيات من القرن الماضي، انضمَّ إليه الكثير من المؤرخين الذين نشروا العديد من البحوث تطرق بعضها إلى مجال الاتصال مباشرة. بينما تناولت البحوث الأخرى بدايات الكهرباء والأدوات الأولى للاتصال. وقد أولت أهمية خاصة للمخترعين –المقاولين، مثل: اديسون 9، وبيل 10، وإيستمان 11، وغيرهم.
إن الكشف عن محتوى الأرشيف التقني (في المختبرات) بشكل منتظم، والأرشيف التجاري والمالي للمؤسسات، سمح بإدراج مختلف أوجه المبتكرات في هذه البحوث. والهدف هو البناء الاجتماعي والتقني للمبتكرات. ومن بين المفاهيم التي سكّها هؤلاء المؤرخون يمكن ذكر «الأسلوب التقني». فبهذا المفهوم عيّن الباحث توماس هيوغس الخصوصيات الوطنية أو التاريخية التي تميز تقنية ما في عصر ما وفي مكان معين. فلا توجد طريقة جيدة لحل مشكل تقني، بل توجد اختيارات متعددة لذلك. وتتوقف الموافقة على أي اختيار وتبنيه على كل مجموعة من التقنيين. ولتوضيح هذه الفكرة يستعرض توماس هيوغس المثال الخاص بالهندسة المعمارية لشبكات الكهرباء في لندن، وباريس، وبرلين، وشيكاغو في 1920 12. فالشبكة اللندنية تتضمن العديد من نقاط إنتاج الكهرباء؛ لأن كل بلدية طورت سياستها الخاصة. وقد اختارت برلين، عكس ذلك، شبكة كهربائية أكثر مركزية. ودرس باحثون آخرون السياق الإيديولوجي للاختراعات. لقد اهتموا بالإيديولوجية التي اشترك فيها المخترعون الذين اتفقوا في وقت ما على العديد من الإمكانيات التقنية. الباحث روبرت فريدل يميز بين إيديولوجية التطور التقني، وإيديولوجية التطور الاقتصادي. ففي الحالة الأولى يقتنع المخترع بأن الإمكانية التكنولوجية ستتحقق لا محالة، وأن كل المشاكل الحالية ستحل. وفي الحالة الثانية فإن المخترع يضع آماله في المستخدم. فرغم الصعوبات التي تواجه مخترعاته إلا أنه مقتنع بأنها ستجد سوقاً لها. فهذا الباحث اهتم على وجه الخصوص باختراع اديسون الخاص بالإنارة الكهربائية. أما الباحثة سوسن دوغلاس فقد اهتمت من جهتها بإيديولوجية إذاعة الهواة في بداية القرن الماضي13. فهذه الإذاعات رامت تطوير اتصال مستقل وحر لتغطي أكبر مساحة.
أخيرا، لقد أوجز مؤرخون آخرون نموذجاً لدراسة المخترعات؛ ففي هذا الصدد تساءل الباحث هيغ إيتكن في ملخصه حول أصل الإذاعة، عن مدى دقة المخطط الخطي التالي: العلم-التقنية-السوق. فلا ضرر من القول أن العلاقة ذات الاتجاه الأحادي بين هذه الميادين لا وجود لها، وأن التفاعل بينها معقد جداً. ويلح على حركة رجع الصدى تحديداً التي تدفع بالسوق نحو التقنية، وتدفع بالتقنية نحو العلم. فالمعلومات عن السوق توجه المخترع نحو هذا الدرب أو ذاك في استخدام تكنولوجيته الجديدة. والشيء ذاته يمكن قوله عن الخلل في النظريات العلمية السائدة في ذلك الوقت والذي اكتشفه المخترع خلال تجاربه مما أدى إلى بروز نظريات علمية جديدة. فالباحث إيتكن يهتم على وجه الخصوص بمسألة التداخل بين العلم والتقنية من جهة، وبين التقنية والسوق من جهة أخرى. ففي المحاولة الأولى لمقاربة هذا الموضوع كان يبني تحليله على الصفقات ليس بمعناها الاقتصادي فقط، بل بمعناها المعلوماتي أيضا. لكنه اهتدى لاحقاً إلى مقاربة أخرى، وهي الترجمة. حيث يوجد العديد من الأشخاص والمؤسسات التي تقوم بدور الوساطة. إنهم عناصر التحويل، والمترجمون الذين يمنحون الإمكانية للعلم والتقنية والسوق التحدث إلى بعضهم البعض14. إن عملية الترجمة هذه ضرورية لأن التعبير عن الأفكار ذاتها يتم بطريقة مختلفة في ثقافتين فرعيتين. فالمترجمون: هرتز ولودج، وماركوني بالنسبة للإذاعة كانوا يملكون شرعيةً في الحقلين اللذين تدخلوا فيهما على التوالي. هذه الشرعية المزدوجة تمنحهم إمكانية القيام بتحويل المعرفة من ثقافة فرعية إلى أخرى. ويمكن أن نلاحظ أخيراً، أن المترجمين كانوا أشخاصا في القرن التاسع عشر وأصبحوا مؤسسات في القرن العشرين.

بعض مسالك البحث:
الخلاصة الأولى التي يمكن استنتاجها من هذا الاستعراض المختصر للبحوث السوسيولوجية والتاريخية حول العلاقات بين أدوات الاتصال والمجتمع، تبرز ضرورة تجاوز التمييز بين دراسة الاختراع وتوزيعه أو انتشاره في البحوث عن تأثير وسائل الإعلام على المجتمع، وتلك المتعلقة بشروط بروز أنظمة الاتصال الجديدة. هذا إذا أردنا أن نفهم ظهور تقنيات الاتصال وتطورها. فإذا فصلنا التصور الخاص بالأداة التقنية عن توزيعه وانتشاره فصلاً تاماً فإننا ننسى أن التصور مرتبط بتمثّل استخدامات هذه الأداة والعكس، فإن امتلاك المستخدمين لأدوات التقنية لا يتم دون التأثير على تطور النظام التقني. ومن المناسب أن نرفض التصور الذي يعتبر الأداة التقنية شيئاً جامداً. فمن جهة إننا نملك رؤية غائية للتاريخ: كيف يصل المخترعون إلى اختراع أداة تقنية محددة؟ ومن جهة أخرى فإن علماء اجتماع توزيع أو بث التكنولوجيا يعتبرون أن الأداة التكنولوجية علبة سوداء مغلقة. فهناك إذاً، قطيعة منتظمة جداً بين دراسة مرحلة تصور الأداة التقنية وتوزيعها وانتشارها. وهذا القطيعة تعود أيضاً إلى استبعاد دراسة تطور العقليات وحركة الفكر وتياراته التي تؤثر أيضاً على مصممي الأداة التقنية ومستخدميها.
والفصل بين البحوث المتعلقة بتأثير وسائل الإعلام وتلك المرتبطة بظروف ميلادها يبدو عديم الجدوى. فإذا عدنا إلى المطبعة التي قدمناها كمثال، نرى أن الدور الذي قامت به من أجل تعزيز تيارات التجديد الفكري الإنسانوي لا يمكن فصله عن كون النهضة سمحت للمطبعة بأن تتطور. لذا، من المناسب التخلي عن مسألة السببية لصالح تحليل دقيق لمختلف الوساطات التي تجمع الأداة التقنية بالمجتمع.
من أجل توسيع دراسة تقنيات الاتصال ضمن هذا الأفق؛ أريد أن أعمق التفكير في النقاط الثلاثة التالية: انتشار الأداة التقنية، وجدلية المدة الطويلة التي يستغرقها هذا الانتشار والفرص المناسبة، ودور الطوباويات الاجتماعية – التقنية.

انتشار الأداة التقنية
إن الأداة التقنية لم تكن جامدة طيلة تاريخها الطويل، فلم تكف عن التغيير. وهذا التغيير مهم في البدايات الأولى لوسيلة الاتصال الجديدة، على وجه الخصوص. الأمر يتعلق بالمبادئ التقنية الأساسية (التليغراف الكهربائي أو الجوي، والمحول الهاتفي الإلكتروميكانيكي، أو الإلكتروني…)، أو الاستخدام التقني (غائية وسيلة الإعلام: نقل النص أو الصوت، نظام ثنائي الاتجاه أو متعدد الاتجاهات….)، أو الاستخدام الاجتماعي(الاتصال الهاتفي بالمموِّن من أجل تجهيز طلب سلعة أو للحديث مع الأسرة أو الأصدقاء)، الصيغة التجارية (بيع البرمجيات أو السماح بتصوير نسخ الوثائق وبيعها). بالطبع إن هذه المستويات تتفاعل فيما بينها، فانتشار الأداة التقنية، هو أيضاً، انتقال من مستوى إلى آخر، في هذا الاتجاه أو ذاك. وفي كل مرحلة من هذا الانتشار تظهر خلافات مرتبطة بالاختيارات المختلفة، والاستخدامات…. وتحليل هذه الخلافات ودراستها يزودنا بالعديد من الدروس، ويمكن أيضاً أن يسمح لنا بملاحظة البدائل التي قدمت للاختيارات التي تم تبنيها. وهي الاختيارات التي تحتفظ الذاكرة الجمعية عادة بقَفَاها. فعندما ندرس مسار الأداة التقنية يجب الاهتمام أكثر بالانسداد الذي واجهته أكثر في الدروب السالكة التي قطعتها. القيام بهذا التحليل يتطلب منَّا أن نكون في موقف المخترع الذي وافق على هذا الاختيار أو ذاك، وليس انطلاقاً من الحكم على هذا الاختيار أو ذاك بالنظر إلى نجاحه أو فشله النهائي. ومن المحتمل أن يشكل مسار التلفزيون أفضل مثال عن انتشار إحدى أدوات الاتصال. فبعد اختراع الهاتف بقليل، تخيلنا جمع الصورة بالصوت. والمخترعون الذي اشتغلوا على هذا المشروع تأرجحوا بين نقل صورة ثابتة أو متحركة، ونقل الاتصال ما بين الأشخاص أو للاستعراض. والبعض اتجه نحو السينما، والبعض الآخر جنح نحو إرسال الصور الفتوغرافية عن بعد. وبميلاد الإذاعة ازدهرت مشاريع التلفزيون. وقد ظهر خلافان أساسيان، الأول: ذو طبيعة تقنية (اللجوء إلى الحل الإلكترو – ميكانيكي أو الإلكتروني). والثاني: يتعلق بالاستخدام (نقل الاستعراض الجماعي، أو الاستعراض في المنزل). وعشية الحرب العالمية الثانية، وعندما بدا التلفزيون أنه عثر على الشكل المماثل لما نعرفه اليوم، قام أحد مخترعيه بتجريب النقل التصويري للصحف إلى البيوت عن طريق الموجات الهرتيزية15.

المدة الطويلة
كيف تنتظم عملية انتشار الأداة التقنية؟ إنها تندمج في حركات طويلة المدى تخترق التقنية والمجتمع. فبعض التقنيات هيمنت في فترة معينة لأنها استعملت في العديد من الوضعيات، ولأن مجموعات المخترعين قد تبنتها. لقد أراد المهندسون تعميم «الكل كهربائي» وتطويره منذ قرن، ثم رغبوا في تطبيق «الكل الإلكتروني» ، واليوم اختاروا «الكل رقمي»، أي تعميم التكنولوجية الرقمية على مختلف أدوات الاتصال. إن تطور التنشئة الاجتماعية منذ سنوات طويلة يلعب أيضاً، دوراً على قدر كبير من الأهمية في هذا المجال. وما انزلاق الترفيه من الأماكن العامة إلى الأماكن الخاصة، داخل الأسر، منذ القرن التاسع عشر، إلا خير مثال عن هذه التنشئة.
إن تمفصل الحركات التقنية والاجتماعية لا يكفي لتفسير بروز وسيلة إعلام جديدة. فالمخترعون يستغلون كل الفرص السانحة التي تصادفهم ويحولون مسار الأداة التقنية. فالباحث إدوارد بيلن اشتغل في مطلع القرن على نقل الصور الحقيقية بواسطة الكهرباء؛ أي التلفزيون. وترك مشروعه الأولي عندما علم أن المهندس الألماني كورن، سيعرض في باريس، نظام بث الصور الفوتوغرافية بواسطة التلغراف. وشرع في تحضير جهاز منافس لاختراع كورن أطلق عليه مسمى بيلينوغراف (جهاز يسمح ببث النصوص والصور الفوتوغرافية والرسوم عن طريق التليغراف). إن انزياحات مثل هذه المشاريع التقنية عديدة. فعندما اشتغل أديسون على الصور المتحركة كان يريد ربطها بالكهرباء وينقل المسرح إلى المنزل16. لقد بلغ هذا المشروع درجة من التعقد أدت إلى تخليه عنه، وتسويق منظومته في الأماكن العامة. فالسينماطوغرافية ليست وسيلة الفضاء الخاص مثل الفونوغراف (الحاكي)، والمذياع (الراديو) لاحقاً. لكن خصوصية هذا الفن السابع تظل استثنائية. فالتلفزيون الذي تذبذب مخترعوه بين المكان العام والفضاء الخاص استقر أخيراً داخل المنزل.

الطوباوية التقنية والطوباوية الاجتماعية
لشرح بروز وسيلة اتصال جديدة يجب إدماج الأجلين: القصير والطويل، وينبغي إحداث التمفصل بين الجانب التقني والاجتماعي. فمن المحتمل أن حركية الوساطة بين الحقلين التقني والاجتماعي تتجلى، بشكل أكثر، في الطوباويات التأسيسية لآلة الاتصال الجديدة. فالمخيال يلعب دوراً أساسيّاً في صياغة وسيلة اتصال جديدة. فمجموعة المهندسين والمخترعين يواجهون جماعيّاً تحدياً تكنولوجيّاً. وفي القرن 19، كانت حركية المعلومات التي تنظمها المجلات العلمية والأكاديميات هي التي تصوغ هذه المشاريع. أما في القرن 20 فإن المؤسسات التقنية الدولية تقوم بدور حاسم في تحديد الأهداف الكبرى لجماعة التقنيين. وهكذا فإن فكرة بناء شبكات مندمجة قادرة على نقل الصوت والمعطيات قد حددتها اللجان التقنية التابعة للاتحاد الدولي للاتصالات منذ الستينيات من القرن الماضي. وفي القرن 19 كانت فكرة التليغراف اللاسلكي موضع تجريب آباء التليغراف الكهربائي. وقد حاول العديد من المخترعين استخدام العديد من الطرق التقنية لتحقيق هذا الهدف، فاهتدى ماركوني إلى استخدام الموجات الهرتيزية.
والتكنولوجيات الحديثة تحمل أيضاً مخيالاً اجتماعيّاً شارك فيه المهندسون، والمخترعون، وجزء من الجمهور العريض. ففي نهاية القرن 19 فكرنا بأن تطبيقات سحر الكهرباء كانت متعددة. وبعد فترة كنا نتخيل أن الكهرباء التي أخضعت المصنع لنظرية تايلور4، يمكن أن تؤتمت (تتم الأعمال فيها بشكل آليّ) المنازل العائلية. فمختلف الطوباويات شكلت الأرضية التي استندت إليها الكهرباء في تطورها17.

الخاتمة
إذا كان الخطابات الطوباوية ترافق التكنولوجيات الحديثة سواء بالأمس أو اليوم يجب تحليلها ودراستها بانتباه. فهي تقوم بدور لا يمكن تجاهله في تطور التكنولوجيات الحديثة، نظراً لتأثيرها المجند لمختلف الفاعلين: مهندسين، وسياسيين، ومستخدمي المخترعات. ورغم الفاعلية الحقيقية لهذه الخطابات إلا أنها اختزالية جداً في الوقت ذاته؛ وذلك لأنها تفترض دائماً وجود رابط ذي اتجاه أحادي يجمع التقنية بالمجتمع.
أمام توسع التكنولوجيات الرقمية وتجاوزها لمعالجة البيانات والنصوص لتصل إلى التلاعب بالصور والأصوات، اعتقد بعض الكُتَّاب المعاصرين أنهم أدركوا بروز نظام جديد من الاتصال عبر الوسائط المتعددة يغير جذرياً ممارسة النشاط الفكري. فإذا وجدت فعلاً وضعيات من الاتصال تسمح حقيقة باللعب بطريقة معقدة بالعلاقات بالصور والصوت والنص، فإن التغيير الجذري المزعوم غير وارد. فالتكنولوجية الرقمية لا تحدد بطبعها أشكال الاتصال الجديدة. فهذه التكنولوجية لم تغير نمط اتصال مستخدم الهاتف، كأبرز مثال عن وسيلة اتصال.
فبجانب الوهم بالحتمية التقنية التي انتشرت في السبعينيات من القرن الماضي، ظهر وهم آخر، إنه الحتمية الاجتماعية. فبعض الملاحظين اكتشفوا، في ذلك الوقت، نزعة جديدة نحو المحلي، والجماعات البشرية. فشعار: (الصغير هو جميل) ترجم أوروبياً بـ(عش في البلد). بالطبع، لقد وجدت وسائل الإعلام الجديدة في ذلك الوقت (الإذاعة FM، والكيبل) في المحلي أغلب طموحاتها الأساسية أو بالأحرى سوقها. إن اللقاء بين المحلي ووسائل الإعلام الجديدة، قد يؤدي في بعض الحالات إلى ميلاد تجارب أصيلة وحركات اجتماعية، بيد أن هذه الحركات لم تؤد وحدها إلى تطوير الإذاعة.
إذاً لا توجد حتمية تقنية أقوى من حتمية اجتماعية. ويجب تحليل علاقات التقنية بالمجتمع، بطريقة مغايرة. والانطلاق من درب التحليل الدقيق لمختلف الوساطات التي تربط التقني بالاجتماعي. وينبغي دراسة تمثلات الاستخدامات التي صاغها المهندسون، وتلك التي يملكها مستخدمو التقنية، ودراسة الخلافات واللحظات التي تتجه فيها التقنية وفق هذه التوجهات أو تلك لأنها ثرية جدا بالدروس. وأخيراً، يجب تحليل فضاء تمفصل التقنية والمجتمع ودراسته.

المراجع والهوامش:
(1)- مارتن لوثر (1483-1546): مصلح ديني ألماني، مؤسس المذهب البروتستانتي في الديانة المسيحية. (2)- تشمل معظم الأقاليم التي حكمها فرع من عائلة هامسبورغ النمساوية والتي حكمت النمسا والمجر من (1804 إلى 1918) – المترجم. (3)- Pétrarque Francesco: كاهن إيطالي وكاتب ذو نزعة إنسانوية، يعد من أكبر الكتاب في الأدب الإيطالي. (4)- هي طريقة من تنظيم العمل تتمثل في عقلانية كل حركة يقوم بها العامل في المصنع ويتقاضى على أساسها راتبه، وهذا أدى إلى تقسيم شديد ودقيق للعمل المتسلسل.
(1)- Beaud Paul (1984): La société de ccnnivence, Paris; Aubier Montaigne, p (71-99). (2)- Katz Elihu (1971), The social itinerary of technical change: two studies of the diffusion of innovation (1 publication 1961) repris dans Wilbur Schramm et Donald Roberts The processes and effects of mass Communication, University of Illinois Press, 1971 p 785 (3)- De fleur Melvin 1970: Mass communication and Social change (1 publication 1966) repris dans Jeremy Tunstall, Media Sociology a
reader, Londres, Conststable, p 59. (4)- Boullier Dominique (1989): du bon usage d’une critique du modèle diffusionniste: discussion- prétexte des concepts d’Erevett Rogers in Réseaux. (5)- Colloque Sur “les réseaux sociaux, Sorbonne, juin 1991. (6)- Furguson marjorie(1990): Marshall Mac Luhan revisited, 1960 s Zeitgeit victim on pioneer postmodernist? in Media Cuture and Society, Vol 13, n 1 Londres P 84. (7)- Eisenstein Elizabeth(1991): la révolution de l’imprimerie dans l’Europe des premiers temps modernes –Paris; la découverte, p 186.
(8)- أنظر على وجه التحديد:
Haskell Francis (1991): Mécènes et peintres; l art et la société au temps de baroque italien; Paris Gallimard. et Alpers Svetlana (1991): l’atelier de Rembrandt, la liberté, la peinture et l’argent, Paris, Gallimard. (9)- Hughes Thomas (1983): l électrification de l’Amérique- in culture technique N 10, p (21-42); Neuilly; CRCT, Robert Freidel et Paul Israel (1986): Edison’s Electric Light: Biography of an Invention-New Brunbswick. Rutgers University Press. (10)- Hounshell David(1983): Ellisha Gray et le téléphone in culture technique n 10, pp (61 -74). et Lilian Hoddeson (1983): Naissance de la recherché fondamentale à la compagnie Bell in culture Technique n 10; pp 43-60. (11)- Jenkins Reese(1983): Georges Eastman et les débuts de la photographie populaire in Culture Technique; N10; p (61-74). (12)- Hughes Thomas(1989): The evolution of large technological systems, in Wiebe Bijker, Hughes Thomas and Trevor Pinch The social construction of technological, Cambridge, MIT Press P (68-69). (13)- Douglas Susan (1987): Inventing American Broadcasting. (1899-1922) Baltimore, John Hopkins, University Press. (14)- Aitken Hugh (1976): Syntony and Sparks; The origins of radio – New York, John Wiley and Sons, p 331. (15)- Flichy (1991): La genèse socio technique de la télévision in Culture Technique ; 24 Neuilley; CRCT. (16)- Flichy (1991), Une histoire de la communication modern espace public et vie privée-Paris. La découverte, p 113. (17)- Beltran et Carre (1991): la fete et la servante, la société française face a l’électricité, Paris, Berlin.

جورج بالوندي:عندما تكون الصورة روتينية ومبتذلة


ترجمة د. نصر الدين لعياضي

نشرت بمجلة الرافد- الشارقة عدد 200، أبريل 2014

 

أدلى العالم الفرنسي  “جورج بالوندي” بهذا الحديث إلى مجلة ” ميديا” الفرنسية في 2008. عبر فيه عن رؤيته الفلسفية لوسائل الإعلام وتطورها، وشخص رهاناتها في مجال الإعلام والثقافة والفعل السياسي.

و”جورج بالوندي”، أستاذ علم الاجتماع والأنتروبولوجيا، ينتمي إلى جيل أساطين الفكر ومن مجايلي شريكه ألفريد سوفي في نحت مصطلح ” العالم الثالث” في 1957، الذي عمم استخدامه في العلوم الاجتماعية ووسائل الإعلام. وقد عاصر العديد من المفكرين والفلاسفة الفرنسيين وزاملهم، مثل: ألبير كامي، ورولان بارث، وميشال فوكو، جون بول سارتر، وغيرهم. ويُعّد من أفضل من ناضل من أجل إسماع صوت دول العالم الثالث، خاصة الدول الإفريقية، وأبرع من  دعا إلى فهم ” خصوصيتها” بشكل علمي، وهذا يتجلى في كتابه المرجعي: انتروبولوجية سياسية:       ( 1967).

ويشرف على إصدار :” دفاتر دولية في علم الاجتماع”. و( الإزعاج الكبير)  هو أخر مؤلف أصدره في دار المنشورات الجامعية  بفرنسا في 2005.    

ما هي أول ذكرياتك مع الصحافة؟

لقد كانت علاقتي بوسائل الإعلام عميقة وعاطفية دائما. أحب ضجيج العالم حتى استعلم وأعرف ما يجري ، وأوثق معلوماتي. فعندما كنت طفلا وُصفت بأنني قارض الورق. كنت أحب أن اقضي وقتي في قبو بيت جدتي الذي تتكدس فيه أعداد هائلة من المجلات القديمة، مثل : l’illustration،  وLe monde illustré. ففي هذا المكان تشكلت رغبتي واستطعت أن ألبيها. ومازلت لحد الآن احمل الشغف ذاته. لذا أعتبر أن الصعوبات الحالية التي تعاني منها الصحف جرحا شخصيا بقدر ما هي مشكل سياسي وثقافي.

لقد شاهدت تطور الإذاعة، فكيف استقبلت هذا المولود الجديد؟

لقد اضفت، بسرعة، الإذاعة، هذه الأداة الغامضة، إلى علاقتي المتميزة بالصحف. لقد عرفت جهاز الرديو عندما كان مصنوعا من مادة الرصاص. وقد أذهلني الجيل الأول من أجهزة الراديو. لقد كانت عبارة عن قطعة من أثاث البيوت في ذلك الزمان. إن الأصوات تسحرني الأصوات دائما. وكان يبدو لي أنه من الصعوبة الكذب في الإذاعة أكثر من التلفزيون، ومازالت كذلك. وكأن الصوت يخون المتحدث أقل من وجهه. يوجد نوع من النزاهة في الصوت تؤثر في. وقد ظللت مستمعا للكلمات. أحب متابعة المناقشات والاستماع إلى الأخبار في الراديو. وعندما امتطي السيارة ابحث عن الموسيقى الكلاسيكية أو المناقشات الجادة. فمن المستحيل أن استغنى عن ” إذاعة فرنسا” الثقافية، أو محطة إذاعة الأخبار بفرنسا. فبالحديث والنقاش تستطيع الإذاعة عرض الأفكار والرغبات والعواطف للتداول.

إنكم تمنحون لوسائل الإعلام مكانة مرموقة في تكوينكم الفكري؟

أجل، وهي كذلك إلى غاية اليوم. أعتقد أن الإبقاء على علاقتي بالصحف والاستماع إلى الإذاعة سمح لي بعدم الاستلام إلى وهن السن. أحب الاستماع إلى ضجيج الأحداث المحلية والدولية والشعور بتناقضاتها. إنني بحاجة إليها. إنها حرب دائمة من أجل البقاء يقظا وتحليل حركات العالم.

ما هي الصحيفة  أو الصحف التي أثرت فيك أكثر؟

الصحيفة التي أثرت في أكثر هي صحيفة ” Combat“.  فعندما رجعت إلى باريس بعد مشاركتي في المقاومة ضد النازية كانت هذه الصحيفة بالنسبة لي مثل الوحي. فلم يكن لها نظيرا في الصحافة الفرنسية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية. إنكم لا تدرون ماذا كانت تمثل صحيفة ” كومبا” وألبير كامي! لا يوجد اليوم ما يمكن أن نقارنه بهما. لقد كانت هذه الصحيفة حيث يجب أن تكون. فامتلكت الشرعية الثقافية والأخلاقية لمواجهتنا بحقائق ذاك الزمان.  لقد اتصلت مبكرا بالطاقم المشرف عليها، خاصة موريس نادو وميشال ليرينس اللذان كانا من العناصر الأساسية في ذاك الطاقم. فلقائي بميشال كان أعظم لقاء في حياتي. لقد تعارفنا في ” متحف الإنسان”، وهو المسمى الذي أطلق على أول شبكات المقاومة ضد النازية. وقد أوصلني هذا الأخير إلى ألبير كامي. لقد تأثرت بأفكاره وبصحيفته خلال فترة قصيرة. وبعدها ابتعدت عنهما بسبب انتقالي إلى افريقيا. لقد فاجأ قرار انتقالي هذا اصدقائي لأنني بدأت اكتسب قليلا من الشهرة.  ويبدو أنه كان لي مستقبلا في عالم الكتابة في باريس، خاصة وأنني قدمت مخطوطي الأول المعنون بـ: ” إذا أخذنا بعين الاعتبار” إلى “موريس نادو” ليصدره ضمن السلسلة التي كان يشرف عليها والموسومة ” دروب الحياة”. وبعدها أصبحت صحيفة مرفئي ومرجعي. والسبب في ذلك يعود تقديري الكبير إلى  “هربرت بروف ميري الذي أسس هذه الصحيفة التي تحظى بالاحترام. وإذا استعرنا مقولة الفيلسوف كانط فإن قراءة هذه الصحيفة كانت صلاتي الصباحية منذ خمسين سنة. وإن تطورت هذه الصحيفة عما كانت عليه قبل خمسين سنة فإنها تظل بالنسبة لي مثالا للصرامة.

لكنك ساهمت في تحريرها؟

نعم، لقد نشرت فيها العديد من ” الروبرتاجات” منذ الخمسينات من القرن الماضي.  وتوليت كتابة مقال، بانتظام، في ملحقها الخاص بالكتب لعقد من الزمن تقريبا. لقد كانت تجربة مثيرة سمحت لي بتعريف القراء بأعمال متميزة وجادة في بعض الأحيان. لقد أحببت هذا النشاط الذي اعتبره ” مُمَرر” الأفكار. وقد أدركت خلالها المعركة التي يجب أن نخوضها لنشر مقال. وأدركت كم كانت مساحة التحرير المتاحة في الجريدة تشكل رهانا، وتحدد، في الغالب، محتواها. وكانت معركة التأثير من نصيب هيئة التحرير.

وساهمت، أيضا، في مجلة ”  النوفال أبوسرفاتور”  Nouvel Observateur. أعتقد أنني بدأت الكتابة في العدد الثالث من هذه المجلة عن الوضع في الكونغو . لقد وصلت إلى هذه المجلة عن طريق مجلة ” فرنسا ابسرفتور” France Observateur التي كانت تنافح عن مبادئ السياسي البارز” مندس فرنس”. وقد ساهمت كثيرا في النقاش عن القضايا الأفريقية، وعن تصفية الاستعمار بهذه القارة، على وجه التحديد.  فمن خلال مجلة نوفال أوبسرفتور أطلقت بمعية المفكر ألفريد سوفي مصطلح ” العالم الثالث”. لقد حاولنا أن نساعد الدول المستعمرة على إسماع صوتها. أعتقد ان المجلات هي التي أغرتني أكثر على وجه الخصوص. لقد اصبت بداء حاد يمكن تسميته مجازا  ” المجالاتي”! فبفضل ميشال ليريس، الذي سمح لي أكثر من مرة بالخروج من عالمي الخاص، تعرفت في البداية إلى الفيلسوف جون بول سارتر، وفريق المجلة التي كان يشرف عليها: ” Temps Modernes” التي تعد، بدون شك، منارةً في ذلك الوقت.  ففي تلك الأثناء بالذات أدركت القوة الفكرية التي يمكن أن تمثلها مجلة وفريق تحريرها.  وبعدها شاركت في نوع أخر من الغليان الفكري والثقافي والذي كانت تمثله مجلة ” Critique ” والتي كان ينشطها المفكر الرائع ” جورج بطاي”. لقد تلقيت على يده ويد ميشال ليريس دروسا لا تنسى في الكتابة. لقد كانا يتسمان بقدر كبير من الصرامة لم أجده قط بعدهما.

بالنسبة لكم هل للمجلة دورا تضطلع به لتطوير الأفكار؟

لقد كان ينظر للمجلة كوسيلة لإقامة منابر للتعبير وتبادل الأفكار. فتوجد علاقة قوية بين الذين يساهمون في هذه المنابر والقراء. إنها طريقة لجعل الأفكار والمعارف تتقدم ،خاصة أفضلها. بالنسبة لي إن المجلات تقوم بدور الجسر، وتساعد على هيكلة الفكر وعلى فيدرالية وجهات النظر.  لقد كنت أعتبر نفسي دائما كنقطة تقاطع الاتصال موجهة إلى تفضيل العلاقات وتداول المعاني. ومن هنا، على ما يبدو، جاء اختياري في أن أكون عالما إثنوغرافيا. إني أحب العيش في عدة حضارات. إن المشكل الأكبر في عصرنا يعود إلى كوننا مضطرين إلى تحمل الآخرين. والآخرون المختلفون عنا كثيرا.  إننا عاجزون في اتصالنا، بمعنى أنه يجب علينا أن نواجه  لغات الاختلاف.

لقد كنت وراء تأسيس مجلة ”  Présence Africaine” وتوليت رئاسة تحريرها مع أستاذ جامعي إيفواري – أي من كوديفوار- وهو برنارد دادي الذي أصبح  وزير الثقافة في بلده لاحقا.  لقد كان من المهم في ذاك الوقت أن نشكل فريقا قويا ومختلطا يجمع البيض والسود. وبموازاة ذلك شاركت آلان رسنيس في الفيلم الموسوم ” التماثيل تموت أيضا” والذي كان معاديا للاستعمار. واقتصر توزيعه على منتديات السينما فقط. لقد شاركت في انطلاقة العديد من المجلات الأخرى. وأتولى، منذ أربعين سنة، الإشراف على المجلة الدولية لعلم الاجتماع.

ألا يفسر اهتمامكم بوسائل الإعلام ، جزئيا، توجه أبحاثكم في مجال الأنتروبولوجيا إلى تبيّان العلاقة بين السياسة، التي ترونها في كتابكم الموسوم ” الآنتربولوجية السياسية”  كمنتجة للرموز، وعالم الإعلام؟

نعم إن السياسة في نظري تشتغل على الصعيد الرمزي. أنا متشبث بالفكرة التي تنص على أن كل سلطة هي سلطة درامية ) بمعنى ممسرحة- المترجم( حتى في مجتمعاتنا العلمانية وذات الطابع التقني المتطور. لقد أصدرت في 1982 لدى دار ” أندري بالوند للنشر” كتابا أسميته ” السلطة في الركح”. وهو كتاب غير متوفر اليوم نظرا لإفلاس دار النشر المذكورة. لكن بطلب أخوي من كلود ديرون، سأعيد نشره في “دار فيار” بطبعة جديدة منقحة ومكملة. سأشير فيه إلى خسارة السلطة السياسية في مجتمع متداول إعلاميا بإفراط، ويحظى فيه الاضطرار إلى نقل الأحداث اليومية الجارية بالأولوية. أعتقد أنه يمكن القول أن الديمقراطية الكاثودية ) نسبة إلى الأنبوب الكاثودي في أجهزة التلفزيون( هي ديمقراطية اضعفت كثيرا، حيث أصبح فيها مفعول الإعلان والمظهر يحظيان بالاهتمام أكثر، والأولوية.

لماذا؟

هذه النظرة التحليلية تعود إلى أعمالي الأولى حول السلطة السياسية التي توجت بنشر كتاب: الأنتروبولوجيا السياسية” في 1967. فوسائل الإعلام، والتلفزيون تحديدا، تمتعت خلال بعض العقود بأهمية بالغة. فالصورة طغت وأصبحت دائمة الحضور، ووسائل الإعلام تشابكت فيما بينها. وهذا  يغير، بطبيعة الحال، السلطة السياسية، ونمط سيرها، وعلاقتها بالمحكومين. في البداية نلاحظ القضاء شبه التام عن الأمور المخفية والمتسترة، وعلى البعد الذي كان يفصل المتحكمين في السلطة عن مجموع المواطنين. فالقدرة على الحكم، التي كانت تشترط  توافق المحكومين، وهنت بفعل نشاط وسائل الإعلام واللجوء الدائم إليها. إن وضع المتحكمين في السلطة يتسم بنوع من المفارقة: إن حضورهم في وسائل الإعلام أصبح شرطا وجوديا ملحا أكثر فأكثر. فالصورة هي التي تحافظ على علاقتهم الحية بالمحكومين. ومن جهة أخرى فإن ظهورهم المتكرر في الإعلام يجعل الصورة روتينية ومبتذلة. ويضعف المكانة الاستثنائية لرجل السلطة، ويسلب قوته ويقلل من شأنه بفعل السخط أو الرفض لحضوره الإعلامي الطاغي. فالشخص يُقَيَّم من خلال الصورة،  ويُحْكم على أدائه بعيون وسائل الإعلام. فالقدرات على التعبير عن العواطف، ومعنى المظهر المرئي تحظيان بالقدر ذاته من الأهمية التي تولى للاتصال السياسي، ولمعنى الرسالة وتلقيها. إن نوعية حضور الصورة يشترط الحفاظ على الفاعلية الإعلامية التي يمكن أن تخدم مالك السلطة السياسية أو لا تخدمه. نحن هنا بصدد إجابة تقنية تستدعي تزايد تدخل أخصائيي الاتصال ليحللوا، بشكل دائم، الصورة التي يظهر به السياسي في وسائل الإعلام. إن خبراء الصور والرسائل يتمتعون بجانب كبير من السلطة.

هل بدا لكم التلفزيون بهذه الصيغة منذ بدايته؟ وكيف تنظرون إليه اليوم؟

كنت أعتقد أن التلفزيون،يقوم، في بدايته،  بوظيفة تعليمية. لقد اعتقدت أنه مؤهل لجعل الجمهور الواسع يقتسم البرامج ذات النوعية الجيدة، ويقيم، بفضل برامجه، منبرا يشرح مسيرة العالم ويسمح بالحوار المتعارض. لكن تغيرت الأشياء بسرعة، وتموقع التلفزيون كسلطة. يوجد، بشكل ما، نوع من التنافس القوي بين السلطتين السياسية والإعلامية. لكن السلطة الثانية انتصرت. إنني مندهش من طول عمر الصحافيين المكلفين بإدارة البرامج الحوارية في التلفزيون. إنهم يملكون قدرات حقيقية للتأثير على الحوار وتوجيهه.

هل تعتقدون أن الساسة قدروا سلطة التلفزيون حق قدرها؟

لقد كانت الأجهزة السياسية في البداية حذرة من سلطة الصورة. فقامت بما يجب من أجل احتوائها ومراقبتها. فالنقاش السياسي كان يخضع لمعايير محددة. وظهور رجال السياسة كان مؤطرا جدا وخاضعا لسيناريو مسبق. بصفة عامة ، يمكن أن نعتبر أن هذه المرحلة واكبت مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الفرنسية في بدايتها. وبعدها، غير تزايد عدد القنوات التلفزيونية والتسابق من اجل الحصول على أكبر عدد من المشاهدين وتطور العلاقة بالسلطة، ميزان القوى. فغدا من المستحيل مراقبة الرسالة السياسية التلفزيونية، والإبقاء على مركز وحيد لبث الخطاب والصور.

إن كثرة القنوات التلفزيونية أفرز فيضا متواصلا من الصور التي تبث الواحدة تلو الأخرى. فالقنوات التلفزيونية تبحث دائم عن الصور، والإثارة، والعواطف التي تعد وقودها. والسياسيون مجبرون على تلبية ما يبحث عنه التلفزيون من أجل تمرير خطابهم.

إننا شهود على الإخراج الفني الدائم للسلطة السياسية. فرغم قلة تحكم هذه الأخيرة في الأشياء تزداد محاولتها لرفع تأثير الصور. فهذه هي حالة الحوار الذي يجريه بعض الصحافيين مع رئيس الجمهورية الفرنسية  أمام التلفزيون عشية العيد الوطني الفرنسي يوم 14 يوليو، على سبيل المثال. إننا نتقلى، بالمناسبة، خطابا مؤسساتيا جدا دون محتوى حقيقي، أي ضربا من مسرح الظل. فهناك حاجة من أجل تدريم ( مسرحة) الخطاب السياسي حتى يمنحه مظهر السلطة.

إنكم تربطون موضوع طقوسية السلطة، الذي يتكرر في بعض كتاباتكم بحركة تجريد المجتمع من الإيديولوجية 

لقد رافق تزايد سلطة وسائل الإعلام الطلب على تليين المعارضات المختلفة لأن مكينة التلفزيون تحتاج العاطفة والتوافق. فلضمان الاستعراض التلفزيوني يجب أن ينطلق الحوار والنقاش من حد أدنى من الاتفاق بين مختلف الأطراف المتحاورة. فالتلفزيون يفضل الترفيه على التحليلات المعقدة وتبادل الآراء المتعارضة لأنه يسعى إلى جمع أكبر عدد من المشاهدين. إنه بحاجة إلى يقينيات وليس إلى تعقيدات. وهذا يؤدي إلى إضعاف الجدل السياسي وتقليص مكانة كل ما له علاقة بالشأن العام. هذا التطور الذي يشهده التلفزيون يجري، ويا للمفارقة، في وقت جعلت العولمة والتغيرات الاجتماعية العالم أكثر تعقيدا، وعسيرا على الفهم. فكلمات السياسة ابتذلت وأصبحت، شيئا فشيئا، غير مسموعة. ليس هذا فحسب، بل أعطت الانطباع، بأنها تريد إخفاء عجزها عن مواجهة الحداثة الفائقة، أو التصدي إلى التطور الرهيب في القدرة الاقتصادية- التقنية. فالإخراج المرئي للسلطة السياسية يحاول أن يعالج تجريدها من كل قدسية ويعوض فقدانها للسلطة الرمزية.  وبالموازاة لفقدان المعارضات الايديولوجية لقيمتها، نمت سلطة في الكواليس يشكلها الخبراء.  إنهم الأخصائيون أو الذين يعرفون بهذا المسمى، والذين يشاركون في اللجان، وتركض وراءهم وسائل الإعلام بانتظام لمعرفة أرائهم. وحتى رجال السياسة ذاتهم يدركون أنهم بحاجة إلى هؤلاء الخبراء من أجل إضفاء الشرعية على قراراتهم. فالخبراء يبررون، بأسباب تقنية، الاختيارات التي يتبناها السياسيون والتي لا مكان لها في الأفق الإيديولوجي. وسيزداد تأثير الخبراء بانتشار قوة الانترنت.

ما هي العلاقة؟

لقد دخلنا عوالم جديدة  تشمل أقاليم الكائن الحي، واستخدام الذكاء، وشبكات الإعلام والتواصل للصورة ” وللافنراضي- الواقعي”. أقاليم افتراضية وتتجاوز إلى أبعد حد التنقل والسرعة. إن الفيض الذي تعاني منه مختلف الأشكال: فيض شبكات الشبكات، أي الانترنت، والحوامل المتنقلة، تشكل دورة من الإعلام لا مثيل لها، وتجرنا إلى متطلب التنقل الذي يدافع عنه الخبراء المرتاحين في هذا المجال. ومن جهة أخرى، فإن كلمات السلطة ضاعت في دوامة من التنازل عن المعانى.إن الرسائل والصور تحولت إلى مادة طقوسية وفقدت قيمتها بفضل مضاعفة آلات بثها، وسهولة استخدام هذه الآلات أو النفاذ إليها، واستمرارها في بث مختلف الرسائل. فدورة فيض الرسائل لا تتوقف إلا لما يطرأ حدث غير منتظر واستثنائي، أو حدث درامي أو كارثة، أو عندما يتعرض المجتمع أو الدولة أو الأشخاص إلى خطر. ساعتها يحدث الانكسار في العادات مما يتطلب بناءً جديدًا قبل أن تنطلق الآلة من جديد. إن العديد من المتدخلين أصبحوا ينافسون المتحكم في زمام السلطة الرمزية، ويستطيعون اليوم الحديث، وتقديم الأخبار والمعلومات، والتعريف بوجهات نظرهم… فلا أحد اليوم يمتلك شرعية أكبر من الآخرين لأن كل واحد يستطيع أن يتدخل عبر وسيلته الإعلامية الخاصة: مدونته الإلكترونية، على سبيل المثال.

إنكم تشيرون ، أيضا، إلى أننا نعيش أكثرا فأكثر في مجتمع هجين. فماذا تريدون قوله بالضبط؟

إن الأزمنة الجديدة تدفعنا إلى اللحظة التي تمتزج فيها كل الأشياء، فالواقعي والافتراضي يحاولا الاقتران دون أن تكون هناك إمكانية لفرز الغث من السمين. فهذا المجتمع الهجين جعل العالم صعبا على الفهم، أكثر فأكثر، ويسعى إلى إنتاج نسبية معممة تعَّد مصدر ضياع المعالم ونقص القيم الجديدة.

والعلاقات المتكنجة – التي تنتجها التكنولوجيا- تشكل ضربا من التدين الجديد الذي يبعدنا عن أصولنا الفيزيائية، والمكانية والزمنية وينتهي إلى سلخنا عن تاريخ البشرية.

حوار مع الفيلسوف وعالم النفس ” ميغال بنسياغ” : لا أخ أكبر في الإعلام


ترجمة د. نصر الدين لعياضي، مجلة الرافد الإماراتية، عدد 208، ديسمبر 2014 – للاطلاع على الرابط: http://www.arrafid.ae/208.pdf