حوار مع عالم اجتماع الميديا: أنطونيو كاسيلي، لا يسعنا في بداية العام إلا إحصاء أوهامنا


ترجمة د. نصر الدين لعياضي، مجلة الرافد الإماراتية، عدد 215- يوليو 2015

الرابط : http://www.arrafid.ae/images/Raffid1_215.pdf

جون لوي ميسيكا: الإنترنت لا تزيل الرابط الاجتماعي، بل تمنح الأشخاص إمكانية التحكم فيه


حوار: ماتلد كريستياني

– ترجمة: نصر الدين لعياضي-أكاديمي جزائري

أستاذ علم اجتماع الميديا أكد نهاية التلفزيون التقليدي جون لوي ميسيكا: الإنترنت لا تزيل الرابط الاجتماعي، بل تمنح الأشخاص إمكانية التحكم فيه

 

مجلة الفيصل : نشر في: الأربعاء 01 مارس 2017 | 08:03 ص

يؤكد أستاذ علم اجتماع الميديا بمعهد العلوم السياسية بباريس، والباحث في مجال وسائل الإعلام جون لوي ميسيكا نهاية التلفزيون، في كتابه الجديد «نهاية التلفزيون»؛ إذ يرى أن مشاهدة التلفزيون آخذة في الانحسار، إضافة إلى اختفاء تقاليد المواعيد المحددة لمشاهدة البرامج. ويذكر أن الإنترنت ستبتلع التلفزيون. ويقول لوي ميسيكا، في حوار معه صدر ضمن منشورات مركز «BNP Paribas» للبحث والاستشراف: إن الرابط الاجتماعي الذي ينشئه التلفزيون يتضمن مجموعة من الإكراهات، فالتلفزيون، في رأيه، يقدم الرسالة ذاتها إلى الجميع في الوقت نفسه، بينما الرابط الذي تنشئه الإنترنت يتسم بمرونة أكثر، كما أنّ هذا الرابط يمنح الشعور بالحرية، على العكس من التلفزيون التقليدي.

أصدرتم كتابًا بعنوان: «نهاية التلفزيون». فماذا تعنون بهذه النهاية في زمن تضاعف فيه عدد القنوات التلفزيونية، وتزايد إقبال المشاهدين عليها؟

_ بالعكس، تؤكد آخر الإحصائيات أن الوقت المخصص لمشاهدة التلفزيون يتناقص، بشكل واضح جدًّا لدى الشباب على وجه التحديد. إن القناة التلفزيونية تتحرك وفق العناصر الآتية: توصيل الصور المتحركة إلى البيت، وبرمجة المواد التلفزيونية وبثها وفق مواعيد محددة، والوصول إلى أكبر عدد من المشاهدين. ففي الوقت الذي تنحصر فيه المشاهدة التلفزيونية وتصبح محدودة جدًّا، وتتشذّر إلى حد أن تصبح فردية، وتختفي تقاليد المواعيد المحددة لمشاهدة البرامج تدريجيًّا، تاركة المجال لأنماط أخرى من المشاهدة؛ مثل: التلفزيون الاستدراكي، والفيديو تحت الطلب، والاشتراك في نظام الفيديو تحت الطلب، فإننا نلج عالمًا مختلفًا، فهذا العالم يقترح وجود عدد كبير من الصور المتحركة والبرامج المصورة المقدمة إلى الجمهور، لكنها لا تشكل تلفزيونًا بالمعنى التقليدي للعبارة. ويجب أن نضيف له المنصّات السمعية البصرية في شبكة الإنترنت؛ مثل: «اليوتيوب» و«الديلي موشن» التي تسمح ببث المحتويات التي ينتجها الأشخاص العاديون والهواة، وتغير بعمق العلاقة القائمة بين من يبث الصور ومن يتلقاها، وهي لم تعد ثابتة ومستقرة كما كانت في السابق.

إنتاج مشترك

ألا تعلن شرائط الفيديو في شبكة الإنترنت نهاية البرمجة التلفزيونية بمعنى أنها تتيح لمستخدم الإنترنت حرية أكثر، ومجالًا أوسع للاختيار؟

_ بكل تأكيد. لقد انتقلت سلطة البرمجة التلفزيونية من يد المبرمج التلفزيوني إلى جمهور المشاهدين.

هل يغير «مبدأ»: إنني أشاهد متى أرغب في المشاهدة ما ننتظره من التلفزيون؟

_ في البداية يجب أن نلحظ ظاهرة مساهمات الجمهور المستخدِم في المحتوى، وهو ما أصبح يعرف لدى الأنغلوسكسونيين بــ «User Generated Content» أي أن البرنامج التلفزيوني سيغدو إنتاجًا مشتركًا أو إبداعًا يشترك فيه الباث والمشاهد. ثم إن (فورمات) المواد التلفزيونية -قوالبها- ومدوّناتها، وأوقات المشاهدة، كلها تتطور تدريجيًّا، لكنها لا تحدث بين عشية وضحاها. فعادات وسائل الإعلام راسخة بشكل عميق. فهناك أشخاص تعودوا عادات متعلقة بمشاهدة التلفزيون منذ عشرين سنة، ولا يغيرونها بسهولة. بيد أن الأشياء تتحرك بسرعة نسبية. فعندما نلحظ التزايد الكبير في عدد مشاهدي مواقع «تقاسم مواد الفيديو» video sharing، فإننا ندرك أن طريقة «استهلاك» الصور في طور التغيير. وهذا لا يعني أبدًا أن استهلاك الصور سيقل، بل على العكس.

إذن، ما الذي يجب القيام به تجاه الأشخاص الذين لم يكتسبوا عادات في مجال استخدام شبكة الإنترنت حتى ندفعهم إلى هذه الاستخدامات الجديدة؟

_ أعتقد أن جزءًا من الناس لا يتدافع نحو هذا الاستهلاك، ويجب انتظار قطيعة جيلية (نسبة إلى الجيل) هذا مع تعايش عدة طرق من استهلاك الصور. بكل تأكيد، لن تكون الأمور مغلقة من هذا الجانب أو ذاك، لكن أعتقد أن هناك تفاوتًا هائلًا بين أبناء الجيل الرقمي، والآخرين!

أنحن مشاهدون ومستهلكون أكثر حرية أم على العكس نحن خانعون أكثر؛ لتعدّدية اختيار الحوامل (التلفزيون، والإنترنت، والحوامل المتنقلة)؟

_ أعتقد أن الاثنين يحدثان معًا. ففي التلفزيون الكلاسيكي يوجد نظام من الهيمنة، رغم كل شيء، بين من يَستهلك، ومن يُنتِج، ومن ينشر، ومن يحدد مواعيد البث. فيجب ألّا ننسى أن التلفزيون ظل سنوات طويلة مسيطرًا على ساعة الأشخاص البيولوجية، ويتحكم في إيقاع حياتهم المنزلية ووتيرتها! فمن هذا الجانب يمكن القول: إن العرض «التلفزيوني» الجديد يمنحهم الحرية. لكننا نعرف جيدًا أن الشركات؛ مثل: غوغل وبعض محركات البحث ستقوم بدور حاسم، وستؤثر كثيرًا في أنماط الاستهلاك. فأدوات قياس السلوك وتحليله؛ أي ما يسمى برصد ملامح مستخدمي الإنترنت ومسالكهم في الإبحار عبر الشبكة؛ تطرح مشكلات واقعية في مجال الحرية الفردية واحترام الحياة الخاصة. يجب الإقرار بوجود رصيد من المعارف عن سلوك مستخدمي شبكة الإنترنت لم يحلم به حتى مجانين قياس المشاهدة التلفزيونية.

هل تعدّدية العروض التي تتيحها شرائط الفيديو في شبكة الإنترنت تعلن عن تفوق الصورة على الوسائط الأخرى؟

_ لا أعتقد ذلك. أظن ببساطة أن شبكة الإنترنت لم تكن مدة طويلة وسيلة متعددة الوسائط بالكامل؛ بسبب بسيط يتمثل في بطء تدفق البيانات ومختلف التطبيقات؛ لأنه لم يكن من السهل إنتاج صور متحركة وتوصيلها إلى المعنيّين. لكن ما نشاهده اليوم من سرعة تدفق البث، واستخدام الألياف البصرية، وتطبيق عدة برمجيات؛ مثل: البرامج المتعلقة بالصورة، وكل تقنيات الضغط على البيانات وتحجيمها، ومختلف التطبيقات الجديدة التي تقلل من حجم البيانات في الصفحات، تجعل الصورة المتحركة تأخذ المكانة التي تحتلها بقية الوسائط. إن شبكة الإنترنت أصبحت أداة ذات وسائط متعددة بمعنى الكلمة، تجمع الصوت والصورة والنص والإنفوغرافيا والتفاعلية، وتتيح تحميل الملفات بتدفق عالٍ ومنتظم، أي أن هناك كل الأشياء التي تُحَوّل بعمق طبيعة الإبداع. أعتقد أنه سيتم الطعن في فكرة التعارض بين النص والصورة بفضل هذه العُدّة التقنية التي تجمعهما بشكل ديناميكي أكثر من الورق والتلفزيون.

عدد من الإكراهات

إنّ التلفزيون يجمع جمهورًا متنوعًا حول البرنامج التلفزيوني، فيشكل رابطًا اجتماعيًّا. فهل تنشئ شبكة الإنترنت شكلًا جديدًا من الروابط الاجتماعية؟

_ يتضمن الرابط الاجتماعي الذي ينشئه التلفزيون كثيرًا من الإكراهات. فالتلفزيون يقدم الرسالة ذاتها إلى الجميع في الوقت ذاته، على حين يتسم الرابط الذي تنشئه الإنترنت بمرونة أكثر منه، مع جماعات سريعة الاندثار تستند إلى وشائج تسمح للأفراد بمغادرتها وقتما يشاءون. إنّ هذا الرابط يمنح الشعور بالحرية. بالطبع إنّ عائق هذه الحرية يكمن في هشاشة الرابط الاجتماعي، وضعف التضامن، ومخاطر عزل الأعضاء الضعيفة. فيمكن أن نكون أمام وضعيات لا يملك فيها الناس أي سبب للعيش معًا؛ مما يطرح مشكلة حقيقية على الجماعة الاجتماعية. لكن يمكن القول اليوم: إن شبكة الإنترنت لا تزيل الرابط الاجتماعي، بل تمنح الأشخاص إمكانية التحكم فيه أكثر من الوقت السابق.

هل تعتقدون أن منصات التشارك في شرائط الفيديو، التي يكون فيها المستهلك منتجًا ومبتكرًا، تملك مقومات البقاء والاستمرارية؟

_ نعم، بكل تأكيد. إننا نعيش الآن بروز هذه المنصات ممثلة في كثير من المواقع؛ مثل: «ديلي موشن» و«اليوتيوب» التي تعاني صعوبات في العثور على أنموذج اقتصادي مناسب له مقومات الاستمرارية. لكننا نرى بكل وضوح إلى أين تتجه هذه المنصات، مع إمكانية إنتاج الأشخاص شرائط الفيديو، والاشتراك في إنتاجها. هناك فرص جديدة لاختيار المنتجات التي هي في طور التطور والبروز -الكتالوغات الاجتماعية على سبيل المثال- وذلك لأن هناك بعض شرائط الفيديو لا يُشاهَد في ظل تضخم تعداد ما هو معروض من شرائط في هذه المواقع؛ لذا يجب إيجاد وسائل تسمح بربط إمكانية الجميع في «الاستهلاك» بإجراءات انتقاء شرائط الفيديو، مع وضع سلم لترتيبها وتسلسلها. توجد ثلاثة أنواع من الإجراءات؛ إجراءان منها متاحان، وهما: محركات البحث، ومنح مستخدمي الإنترنت درجة لكل شريط فيديو. ويجب البحث عن الإجراء الثالث في الأنموذج الاقتصادي، أي جعل محترفي العمل التلفزيوني يشاركون في الاختيار والنشر.

هل التهافت على فرص الإنتاج الجديدة سيتواصل أم أننا نطلب من الإنترنت أن يكون نمطًا جديدًا من استهلاك شرائط الفيديو؟

_ أعتقد أنه سيستمر وسيصبح شبه حرفي. فما نلحظه اليوم أنه يوجد 10 في المئة فقط من المساهمين في تغذية موقع موسوعة «الويكيبيديا» بالمواد، على حين يوجد 90 في المئة من مستهلكيها. وستزداد الفرصة في المستقبل بفضل المنظومة التقنية، المساهمة في التحرير والاطلاع على المواد. لكن ستظل أغلبية مستخدمي هذه الموسوعة من المطلعين على محتوياتها بكل تأكيد.

هل يملك التلفزيون التقليدي مستقبلًا مزدهرًا؟

_ نعم بكل تأكيد، لكن ما سيحدث هو أن الإنترنت ستبتلع التلفزيون، كما هي الحال الآن، والإذاعة، والصحافة المطبوعة. سيكون هناك تلفزيون في شبكة الإنترنت. والذين يريدون متابعة النموذج التقليدي للتلفزيون بشبكة برامجه التي يعدها غيرهم سلفًا، أو الموجهة بخوارزمات، يمكنهم فعل ذلك، وسيمنحون الأدوات لتحقيق ذلك. سيظل الاستهلاك الساكن والسلبي للتلفزيون قائمًا. استهلاك الصور المريح والبطيء عبر إجراءات البرمجة التلفزيونية المعهودة.

هل يمكن حدوث التواؤم الدائم بين الحاملين؟ إن قناة التلفزيون الفرنسي الأولى، على سبيل المثال، مالكة منصة التشارك في شرائط الفيديو المسماة: «وات تيفي» وهي تعمل على بث شرائط الفيديو التي ينتجها الهواة عبر شاشتها. فهل يمكن تعميم هذه المبادرة؟

_ لا أعتقد أنه من الممكن أن يجري الأمر بهذا الشكل. إن «وات تيفي» فكرة لطيفة فعلًا، لكن ولع مستخدم الإنترنت بشرائط الفيديو في هذه المنصة لا يدل على أنه سيشاهدها عبر قناة تلفزيونية كبرى؛ لأن ما يبث عبر القناة التلفزيونية لا يتناسب مع ما نبحث عنه في شبكة الإنترنت، أي تشكيل الجماعة والاعتراف بها. بينما يمكن لهذا الأنموذج أن يتحقق في مجال الإنتاج، وفق منطق رصد الكفاءات، مع منتجي التلفزيون الذين يستطيعون متابعة الفنانين في شبكة الإنترنت، واختيارهم، والاقتراح عليهم إنتاج أعمالهم. هذا هو الأنموذج الذي أومن به.

شروط نقد الصورة

قال أستاذ علم اجتماع الميديا جون لوي ميسيكا: «إن التعارض الموجود بين الكلمة والمكتوب «هو تعارض بين ما هو مُخَزّن وما هو متدفق. وهذا ينطبق على كل أشكال الاتصال؛ أي ينطبق، أيضًا، على الصورة. إذن الصورة المخزنة في شبكة الإنترنت التي يمكن مشاهدتها أكثر من مرة، ولا «تستهلك»، أو تتلاشى في سريانها المتدفق كما هي حالها في جهاز التلفزيون، تخلق شروط نقد الصورة بقوة أكثر مما كان ممكنًا مع التلفزيون؛ لذا يجري التنديد بالتلاعب بالصورة، وبما تمارسه من التضليل، الذي أصبح مألوفًا لتكراره، وشجب اختلاق الصور المزيفة في شبكة الإنترنت. ولفت إلى أننا «نملك إمكانية المقارنة بين كثير من الصور، وفحصها وتحليلها. إذن يمكن معاينة كل المشكلات ذات الصلة بالتلاعبات بالصور. وبهذا نقترب من المقاربة التي تكون فيها الصورة المتدفقة شبيهة بالاتصال الشفوي، على حين تشبه الصورة المخزنةُ الكتابةَ. أي مع إمكانيات التخزين، والمقارنة والنقد، سيحدث تحوّل أساسيّ في الإنترنت، يرتبط بالسهولة التي يمكن بوساطتها مقارنة صورة بأخرى».

 

 

الثورة الرقمية لازالت في بدايتها


حوار مع بيار ليفي  أجراه معه جرمير ماشادو دا سيلفا

ترجمة نصر الدين لعياضي

نشر في مجلة ”  Fronteiras do Pensamento” حدود الفكر” البرازيلية  في مارس 2016، وأعاد نشره في مدونته باللغة الفرنسية. 

بيار ليفي: فيلسوف وعالم اجتماع وباحث في علوم الإعلام والاتصال فرنسي. من مواليد تونس في 1956. يعتبر من المنظرين للتبعات الثقافية والمعرفية للتكنولوجيا الرقمية. نشر العشرات من الكتب حول الانترنت وآثارها الاجتماعية والثقافية والمجتمع الافتراضي والذكاء الجماعي،  ترجمت كلها إلى العديد من اللغات العالمية. يشتغل حاليا أستاذ الإعلام والاتصال بجامعة أوتاوا بكندا.

 جرمير ماشادو دا سيلفا: كاتب ومترجم وصحافي وأستاذ الصحافة في جامعة برازيليا – من مؤلفاته:  تكنولوجيات المخيال، وسائل الإعلام والثقافة في عصر الاتصال الشامل.

 

جرمير ماشادو دا سيلفا:  استغرق تطور الانترنت وقتا  أكثر مما هو متخيل. والانترنت بالنسبة لجميع الناس هي انفجار ” الواب ” Web” في تسعينات القرن الماضي. هل يمكن القول بطريقة ما أننا دخلنا منذ ثلاثين سنة في مخيال جديد، وهل ستحدث الكثير من الأشياء في المستقبل أم أن دورة التطور بلغت مداها ووصلت إلى السقف المحدد لها؟

بيار ليفي:  لقد تطورت الانترنت بشكل سريع جدا، بل اسرع من أي نسق إعلامي أخر. لقد كانت نسبة المتصلين  بشبكة الانترنت أقل من  1% من مجمل سكان العالم في 1990، ثم قفزت إلى 45% بعد جيل. إننا نتقدم بسرعة تقترب من نسبة 50% وتزيد.

نحن في بداية ثورة الوسيط الخوارزميّ فقط. ستعيش الأجيال القادمة تحولات كبرى. فالمعلوماتية الحاضرة في كل وقت وكل الأمكنة والمتاحة باستمرار ستعمم. وولوج تحاليل البيانات الضخمة – التي هي اليوم بيد الحكومات والمؤسسات الكبرى – ستدمقرط ونحصل أكثر فأكثر على صور إدارتنا الجماعية في آنيتها. هناك العديد من الأمثلة التي تؤكد هذا التوجه. وسيتمحور التعليم حول التكوين النقدي للانتقاء الجماعي للمعلومات ونشرها واقتسامها. و يصبح الفضاء العام دوليا وينتظم في ” سحاب سيميائي” في مواقع الشبكات الاجتماعية.  وينتقل شكل الدولة من ” دولة-أمة” إلى دولة السرب في اقليم ذي سيادة و شريحة دون حدود في الفضاء الإعلامي الموجود في كل مكان وزمان، والنقود ستشفر ، وغيرها…

جرمير ماشادو دا سيلفا: نتحدث كثيرا عن انترنت الأشياء وعن ” الكل انترنت”. فهل هذا الأمر يعد تحولا أم أنه نوع من التعجيل والتصعيد التكنولوجي؟

بيار ليفي:  يمكن دراسة الانترنت من جانبين متميزين على صعيد المفهوم لكنهما غير منفصلين عمليا ومترابطين. فمن جهة يوجد ” الفضاء الإعلامي للبيانات، الخوارزمات التي هي غير مادية ومتواجدة في كل وقت وفي كل الأمكنة: إنها ” سحب”. ومن جهة أخرى توجد أجهزة الاستشعار والاستقبال، الهواتف الذكية، والأدوات الصغيرة، والمنظومات التكنولوجية المحمولة المختلفة، والكمبيوترات، ومراكز البيانات، والروبوهات، وكل ما هو فيزيائي ويمكن، بالضرورة، تعيين مكانه: ” العتاد”. فلا يمكن للسحب أن تشتغل دون هذه الأجهزة والأدوات. فالانترنت هي التفاعل الدائم بين الموجود في مكان ما وغير المرتبط بمكان معين، بين العتاد والسحب. فكل هذا  يعتبر، بشكل ما، منطقيا ومستنبطا من الأتمتة والتحريك الرمزي بواسطة الأنظمة الإلكترونية، لكننا مقبلون على الشعور بأثر هذا التفاعل في حياتنا اليومية.

جرمير ماشادو دا سيلفا: لقد اطلق العنان للتوقعات والتنبؤات مع الانترنت. لازلنا نتحدث عن مستقبل الصحف الورقية والكتاب. فالبعض يقول أن الورق يتساكن مع الحوامل الرقمية الجديدة والبعض الأخر يقول أن نهاية المطبوع  مسألة وقت فقط. فهل تعد حجج كل طرف جدية ؟ ألا تؤخذ العاطفة وأثر الحنين بعين الاعتبار كثيرا بالنسبة إلى الورق، ؟ هل المسألة مسألة جيل؟

بيار ليفي: اعتقد أن نهاية الصحف الورقية مسألة وقت. أما بالنسبة إلى البحث العلمي، والتربية والمعلومات والإعلام ستنتقل كلها إلى التكنولوجيا الرقمية. وبالمقابل أتخيل أن من يقرأ الروايات والكتب النادرة على الورق سيظل موجودا، مثل استمرار وجود سوق صغير للفنيل- الأسطوانات القديمة التي يحركها ذراع في عالم الموسيقا. أنا شخصيا أحب قراءة الكتب على الورق والأخبار في شبكة الانترنت ( في موقع شبكة تويتر على وجه التحديد) لكن الرهان لا يتعلق بما أفضله… إن كهربة أو بالأحرى خوارزمية القراءة والكتابة لا مفر منه.

جرمير ماشادو دا سيلفا: ما هو أكبر تحوّل أو النقطة الأساسية في هذا التحوّل بعد ثلاثين سنة من المبتكرات، مثل مواقع الشبكات الاجتماعية، ؟

بيار ليفي: لم تحدث نقلة تقنية كبرى منذ ظهور الواب في منتصف التسعينات. فما جرى  يتمثل في العديد من التطورات الصغيرة.  يبدو أن أكبر انزياح على الصعيد الاجتماعي والسياسي يتمثل في الانتقال من فضاء عمومي تسيطر عليه الصحافة والإذاعة والتلفزيون إلى فضاء عمومي تسطر عليه ” الويكيات” ” wikis – يقصد بها المواقع الإلكترونية التي يمكن لمستخدميها وزوارها إضافة المحتويات دون قيود في الغالب وتعديلها – المترجم- والمدونات الإلكترونية، ومواقع الشبكات الاجتماعية، وأنظمة انتقاء المحتويات وتوزيعها حيث يمكن الناس أن يعبّروا. وهذا يعني أن الاحتكار الثقافي الذي يمارسه الصحافيون والناشرون ورجال السياسة والأساتذة هو في طور التآكل. فالتوازن الجديد لم يتحقق لكن التوازن القديم لم يعد قائما.

جرمير ماشادو دا سيلفا: تحدثت منذ مدة عن الذكاء الجماعي، وجماعية الذكاء. بيد أننا نرى أن الانترنت وشبكاتها الاجتماعية تُستَخدم للخير والشر لنشر الأفكار المتطرفة للحركات الجهادية. فهل يمكن أن نتحدث عن ” ذكاء الانترنت الجماعي للشر” أو عن أداة الحماقة الكونية؟

بيار ليفي:  أتحدث عن الذكاء الجماعي من أجل الإشارة إلى ازدياد القدرات الإدراكية بصفة عامة وتشجيعها: ازدياد الذاكرة الجماعية، وإمكانيات التنسيق وإنشاء الشبكات، وفرص التعاون في التدريب، وفتح المجال للنفاذ إلى الإعلام والمعلومات، وغيرها. أعتقد أن هذا الجانب مؤكد وعلى كل الفاعلين في الميدان الفكري والاجتماعي المسؤولين أن يستفيدوا من هذه الإمكانات في مجال التربية،  وإدارة المعارف في المؤسسات والإدارات من أجل المداولات السياسية الرقمية، وغيرها. لكن يجب أن ننظر إلى اختراع الانترنت ضمن استمرارية اختراع الكتابة والمطبعة. إنها ترفع قدرات الإنسان في التعامل والاستخدام الرمزي. وتكمن في قلب هذه القدرات اللغة التي لا تتوقف على تقنية خاصة لأنها وجدت منذ ميلاد الجنس البشري. فبفضل اللغة يوجد الفن، والثقافة، والقيم، وتعقدت المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية… ومن يذكر اللغة يذكر أيضا الكذب والتضليل. ومن يذكر القيم يذكر أيضا الجمال والقبح. فمن السخافة أن نتخيل أداة تزيد في سلطات اللغة بصفة عامة ولا تنقل سوى ما هو حقيقي، والخَيِّر والجميل. حقيقي بالنسبة إلى من؟ وخَيّر بالنسبة إلى من؟  إن الحقيقي لا يبرز إلا عبر حوار وجهات النظر المفتوح لوجهات النظر. فضلا عن لو حاولنا أن نجعل من الانترنت آلة إنتاج الحقيقي، والخير والجميل فإننا نصل سوى إلى مشروع شمولي يكون الفشل مآله.

جرمير ماشادو دا سيلفا: إن العنف اللفظي كبير في مواقع الشبكات الاجتماعية، إذ يتم فيها التهجم على الأشخاص والشتم. وينقسم فيها العالم بين اليمين واليسار، وبين الطيبين والسيئين ، جماعتنا وجماعتهم. يوجد الكثير من الصحافيين الذين اوقفوا تعليقات القراء المشبعة بالعنصرية، والتهديدات و السَّبّ. فهل نحن في مرحلة التعلم والتَّمَرُّن على استخدام هذه الأدوات؟

بيار ليفي: إذا شتمني شخص ما أو بعث لي كلاما يصدمني عبر موقع شبكة تويتر أحذف اسمه من قائمة أصدقائي  وأتباعي وكفى! فلا توجد بشرية كاملة. وبالمقابل إن مستخدم الانترنت ليس قاصرا. إنه يملك سلطة كبرى ومسؤولية عظيمة. القضية بالنسبة إلى المعلمين، على وجه الخصوص، تتمثل في تربية مستخدمي الانترنت. يجب أن نتعلم كيف نحدد الأولويات، وأن ندير اهتمامنا  وأن يكون اختيارنا حصيفا لمصادر الأخبار التي نلجأ إليها وننقدها، ونولى أهمية للثقافة ، ونتعلم تشخيص السرديات وتناقضاتها، وغيرها من الأشياء. هذه هو تعلم الرقمية الجديد والتربية عليها؛ أي أن نصبح مسؤولين!

جرمير ماشادو دا سيلفا: إن القضايا التي حظيت بنقاش أكثر بخصوص الانترنت  تتعلق بحقوق المؤلف ومجانية المحتويات. إن الانترناتيين يميلون إلى المطالبة بمجانية كل ما ينشر في شبكة الانترنت. لكن للإعلام كلفة مالية، فمن يدفع الثمن؟  هل هو الإشهار؟ إن الصحف تغلق مواقعها؟ هل آن الأوان فعلا لدفع مقابل مالي على ما ” نستهلكه” في شبكة الانترنت؟

بيار ليفي: ليس من المستحيل أن نجبر المستخدمين على دفع  مقابل مالي من أجل الحصول على خدمات جيدة في شبكة الانترنت. هذا من جهة، ومن جهة  نعم الإشهار، وخاصة بيع الأخبار التي ينتجها المستخدمون لشركات التسويق تشكل اليوم الطريقة الأساسية  لتمويل الخدمات عبر شبكة الانترنت. تعاني حقوق المؤلف من أزمة  في مجال الموسيقا وأكثر فأكثر في مجال الأفلام. أريد أن أشير على وجه التحديد إلى ميدان البحث والتعليم  حيث يظهر الناشرون من الآن فصاعدا كمكبح أساسي لتقاسم المعارف. إن المقابل المادي للإبداع  في عصر الوسيط الخوارزمي مشكل معقد لا أملك بخصوصه أي حل مقبول في كل الحالات.

جرمير ماشادو دا سيلفا: تحدثت أيضا عن الديمقراطية الافتراضية. هل يمكن القول أننا نتقدم اليوم نحو عصر جديد من الدمقرطة؟

بيار ليفي: نعم في حالة إمكانية بلوغ مصادر الأخبار والمعلومات أكثر تنوعا من الماضي، حيث يمكن للجميع  التعبير والتوجه إلى جمهور واسع، وأخير، من السهل جدا أن ينسق المواطنون وينتظموا من أجل النقاش، والمداولات والفعل.  ويمكن أن يكون لهذه “الديمقراطية الافتراضية” قاعدة محلية، مثلما هو الأمر في بعض مشاريع ” المدن الذكية”  لكن الفضاء العام تًدَوَّل وزالت حدوده أيضا.  فمن الممكن متابعة الحياة السياسية على سبيل المثال في العديد من الدول مباشرة أو العيش في تناغم مع مجمل ما يجري في الكوكب الأرضي من وجهات النظر أو المواضيع التي تهمنا. ولا يمكن أن نغفل بروز الحملات السياسية التي تستخدم كل تقنيات تحليل المعطيات و ” الملامح العامة” التي توظف في حملات التسويق، وكذا عملية الرصد، وحتى تضليل الرأي العام العالمي الذي تمارسه أجهزة المخابرات في مواقع الشبكات الاجتماعية.

جرمير ماشادو دا سيلفا: هل يمكن القول أن الانترنت قد غير طريقة تفكيرنا وقراءتنا وأسلوب بنائنا للمعرفة؟

بيار ليفي: بكل تأكيد، إن وجود القواميس في متناول اليد بشكل آني ، و الموسوعات ) منها موسوعة وكيبيديا)، والكتب التي يمكن الإطلاع عليها مجانا أو بمقابل مالي، والفيديوهات التربوية  المتعددة، شكل مكتبات ضخمة في خدمة الجميع  في كل مكان. هذا فضلا عن الاشتراك في العديد  من مواقع ” الواب” المتخصصة والتواصل مع الأشخاص المهتمين بالمواضيع ذاتها عبر مواقع الشبكات من أجل التعاون في بناء معارف بطريقة تشاركية.  إن تطوير أنواع جديدة من الشبكات التعاونية أو للتدريب في مجال التعليم تشهد على التغيير المذكور.

جرمير ماشادو دا سيلفا: تقول أغنية برازيلية: رغم كل ما قمنا به وعشناه فإننا دائما الأشخاص ذاتهم نعيش مثلما عاش آباؤنا”. فهل حقيقة أننا دائما الأشخاص ذاتهم أم أن الانترنت غيرتنا وفصلتنا عن حياة آبائنا؟

بيار ليفي: نحن دائم بشر نحيا ونموت، سعداء أو تعساء. فالشرط الإنساني الأساسي لا يتغير بينما وثقافتنا المادية والفكرية هي التي تتغير. لقد تضاعفت قدرتنا على الاتصال وتوزعت على المجتمع بأسره. تطور إدراكنا للعالم الذي يحيط بنا وازداد دقة. واتسعت ذاكرتنا. و ستغير قدراتنا  على تحليل الأوضاع المعقدة انطلاقا من فيض البيانات قريبا علاقتنا بالمحيط البيولوجي والاجتماعي. وتزداد قدراتنا على الحساب بفضل كمية البيانات المتوفرة، فمن المحتمل أن تشهد العلوم الاجتماعية في القرن الواحد والعشرين ثورة شبيهة بالثورة التي شهدتها العلوم الطبيعية في القرن السابع عشر. نحن الأشخاص ذاتهم لكننا نتغير.

 

 

فانسن كولونا: إنه عصر البطل السلبيّ في المسلسلات التلفزيونيّة


ترجمة نصر الدين لعياضي

فانسن كولونا، من مواليد الجزائر في 1958، خبير  المسلسلات التلفزيونيّة وسيميائيّ. ابن عالمة الاجتماع “فاني كولونا” والطبيب “بيار كولونا” الفرنسيان اللّذان تعاطفا مع الثورة الجزائريّة وقرّرا البقاء في الجزائر بعد أن نالت استقلالها، واختارا الجنسيّة الجزائريّة.

يهتم “فانسن كولونا” بدرّاسة المسلسلات التلفزيونيّة المعاصرة التي تحوّلت إلى ظاهرة اجتماعيّة أحدثت انقلابا كبيرا في صفوف المشاهدين. فأخر كتاب أصدره حمل عنوان:” فن المسلسلات التلفزيونيّة” في جزئين. يحدّثنا بنظرة فلسفيّة في هذا الحوار، الذي أجراه معه الصحافي “آلان بورتر” ونشر في ” ميغرو مغازين”، وهي أكبر مجلة سويسريَة ناطقة باللغتين الفرنسيّة والألمانيّة، في أكتوبر 2015، عن النزعة التخريبيّة لدى الجيل الجديد من المسلسلات التلفزيونيّة الغربيّة، والأمريكيّة تحديدا، وعن انزياحها عن الفهم الشائع للأخلاق. ففي نظره إن بروز هذه المسلسلات المعاصرة  يُعدّ علامة عن ولوجنا عصر فَنّيّ وثقافيّ وفكري جديد.

 

لقد أطاحت المسلسلات التلفزيونية بالأفلام من عرشها في الشاشات الصغيرة في أثناء ذورة البثّ التلفزيونيّ. وأصبحت الكتابة عنها تحتل الصفحات الأولى في الجرائد. فأضحت حديث حميع الناس. فلماذا كل هذا التتيّم والإعجاب الغريب بهذا النوع التلفزيونيّ الذي وُجد منذ بضعة عقود؟

السبب الرئيس يكمن في نوعيّة هذه المسلسلات التي سجلت تقدمًا كبيرًا سوى على مستوى السيناريو أو على الصعيد المرئي ( التصوير والإخراج، والغرافيكس، والديكور…). وأيضا على مستوى الحكايات التي تسردها التي أضحت أكثر تركيبًا وتعقّدًا وتنوّعًا لتشمل كل المواضيع. لقد  كانت الكثير من المواضيع ممنوعة من التناول في التلفزيون في الماضي. لقد شق هذا التغيير طريقه في تسعينات القرن الماضي، وتأكّد بقوّة في العقد الأول من الألفيّة الحاليّة. إننا اليوم أمام دائرة فعّالة ومُحَكّمة. فالمسلسلات التلفزيونيّة أضحت اليوم تتّسم بنوعيّة جماليّة جيّدة ونقديّة من وجهة نظري. إنها تُعَوِّد الجمهور الذي أَلِفَها، وتُحَقِّق أرباحا كبرى للفاعلين في الإنتاج التلفزيونيّ وتسويقه وبثّه.

ما يثير الدهشة فعلا أن هذه المسلسلات التلفزيونيّة افلحت في جذب وحتّى أسر الشباب، جيل المشاهدة التلفزيونية المُوَاثِبة Zapping ، والذي يُعرف بأنه غير مواظب على مشاهدة برامج التلفزيون.

اشْتُهر هذا الجيل من الشباب بأنه لا يشاهد ما يبثه التلفزيون باستثناء برامج تلفزيون الواقع. لكن هذه المسلسلات التلفزيونيّة أعادته نسبيّا إلى الشاشة الصغيرة. نعم نسبيّا لأنه يشاهدها كثيرا على شاشتي الكمبيوتر واللوح الإلكتروني.

تصفون في كتابكم الأخير هذه المسلسلات التلفزيونية بأنها تقوم بالدور ذاته الذي تقوم به الألعاب التي تأخذ شكل الحيوانات المحشوة بالقش في أوساط المراهقين والشباب الذين بلغوا سن الرشد… 

يؤكد الطبيب المختص في الأطفال والمُحَلِّل النفساني البريطاني “فينيسكوت” أن الحيوانات المذكورة تجلب عالما ثالثا للأطفال الصغار، وتقدم شيئا يسمح لهم بتهيئة علاقتهم بغرائزهم الداخلية، و بالمطالب الخارجية أيضا. فالمسلسل التلفزيوني يشبه هذه الحيوانات المحشوة بالقش لأنها تقترح على شباب اليوم، التائه في عالم يغري بفن التصرف والتدبير، قيّمًا ومعالم. أعتقد أن هذا السبب يفسر لنا تعلقهم بهذه المسلسلات وحتّى إدمانهم على مشاهدتها.

لقد ظلت هذه المسلسلات تعتبر” دونيّة” وعديمة المعنى إلى غاية تسعينات القرن الماضي. لكنها تُحظى اليوم باعتراف الانتليجنسيا ، وتشيد بها الطليعة الفنيّة. فماذا تغير بالضبط طيلة هذه السنوات؟

إن نوعيّة هذه المسلسلات جيّدة ومن الصعب نكرانها. هذا إضافة إلى أن إشادة مختلف الأوساط وحتّى النقاد المتشدّدين والمعروفين بعدم المجاملة بالمواضيع الشعبيّة، مثل المسلسلات التلفزيونيّة، يُعدّ أيضا علامة بأننا نغادر عصرا سادت فيه شبه حرب بين الثقافتين الساميّة       والشعبيّة. هناك حقب في التاريخ تتضمن هُوَّة بين الثّقافة الشعبية والثّقافة الاستقراطيّة، و تنعدم هذه الهوّة في بعض الفترات. ونحن بصدد الانتقال من عصر إلى آخر. وهناك العديد من العلامات التي تؤكد هذا الانتقال. وشبكة الانترنت تساهم في هذا التغيير بطريقة هامة جدا.

هذه المسلسلات إبتكارية، متطورة ومتقنة الصنع، بيد أن مسلسلات المؤلف، مثل مسلسل بريكينج باد ” Breaking Bad[1] ” اختلال ضال ” “، ودكستر” ” [2]Dexter” و  ” جيم اوف ثرونز ” Game of Thrones” ” صراع العروش”[3] تبدو تخريبيّة أيضا.

نعم إنها شديدة النقد للمؤسسات والسلوك، وللفجوة القائمة بين ما يتطلبه المجتمع وما نفعله عمليّا. إن هذه المسلسلات تقوم بالدور الذي كان يُناط أكثر بالرّواية. إنه الدور الذي يجعل المرء أقل سذاجة، ويتجاوز المظاهر الخداعة في الحياة. فهذه المسلسلات تكشف لكم ماهو الواقع، والحكم، والسلطة، والمال… باختصار إنها تدين الكثير من العيوب المعاصرة. وتكتسي هذه المسلسلات أهمية كبرى لأنها بعيدة عن الأيديولوجيا. ووظيفتها هي تفكيك الكثير من الأشياء في المجتمع.

التلفزيون، أفيون الشعوب ، بيد أنه يعمل في هذه المسلسلات على فتح عيون المشاهدين. أليست هذه الملاحظة مُطَمْئِنّة؟

بالفعل، إن لهذه المسلسلات وظيفة صحّيّة وسليمة. لقد أخطأت الأنتليجنسيا عندما فكرت بأن الترفيه الشعبيّ أفيون الشعوب. وهذا في الغالب تأكيد جزافيّ ومجانيّ، ولم يستند إلى أي دراسة وتحليل فعليين. إذ يبدو لنا أن هذا التفكير يعدّ طريقة لتثمين الأشياء التي لا تُحظى بمشاهدة الكثيرين.

إن الخواتم غير السارة لهذه المسلسلات التلفزيونيّة، وأبطالها الغامضون جعلوها ” تزعزع” الأخلاق. وهذا أمر جديد في التلفزيون الذي يعدّ وسيلة في خدمة الفضيلة.

بالفعل، عندما نقوم بفحص تاريخيّ للاستعراضات الشعبيّة ولبرامج التلفزيون ندرك بأن القصص والحكايات كانت فاضلة، بمعنى أن العدل هو المنتصر دائما في نهايتها وأن الشّرّير ينال جزاءه. أما اليوم، فالأمر يختلف، وأصبح أكثر تعقيدا. لنأخذ مثلا بطل إحدى المسلسلات، وليكن ” دكستر” القاتل بالتسلسل والذي يمارس وظيفته كتقني في الشرطة في ذات الوقت. إنه ينتصر في نهاية المسلسل التلفزيونيّ. إن هذه الظاهرة في نمو مُطَّرِد. وما يصدم أكثر أنها جديدة، لم نشاهدها من قبل أبدا.

لماذا يتعلق المشاهدون بأبطال لا يؤمنون بأي شيء ولا يحترمون أي قانون على غرار أستاذ الكيمياء في مسلسل ” بريكينج باد ” Breaking Bad” اختلال ضال” الذي يؤسس أمبراطورية المخدرات ….

لأول مرة  تقدم المسلسلات التلفزيونيّة أبطالاً سلبيين. فماذا يعني هذا الأمر؟ هل يعني أن الوعي الأخلاقي في طور التغيير؟ هل أننا بصدد استبدال حدود ما هو قانوني وماهو مخالف للقانون بحدود الشر والخير؟ هل تطورت علاقتنا بالأفلام والمسلسلات  حتى أضحى الجمهور يدري جيّدا بأن هؤلاء الأبطال غير الأخلاقيين ليسوا بوصلات ولا نماذج؟ هل هو شيء آخر؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال. لكن يمكن القول في كل الحالات أن الافتتان بهؤلاءالأبطال السلبيين يعود لكونهم يفكرون في ذاتهم قبل كل شيء، ويتدبرون أمرهم بأنفسهم. وأنهم مستقلون ذاتيّا ولا يتردّدون في الاعتراض على المجتمع إن اقتضت الضرورة ذلك.

هل يمكن القول وداعا للأخلاق؟

إننا في مجتمع يولي أهمية أقل للأخلاق . مجتمع تتعاظم فيه مكانة الجانب القانونيّ باستمرار. ويشكل المجتمع الأمريكي أنموذجه. فكل شيء في الولايات المتحدة اليوم يخضع للتّشريع. فعندما نسحب منك قسطا من الحرية وآخر من المسؤولية فيسكون لما يسحب تأثير على الأخلاق لأن الأخلاق هي استخدام لحريتك.

ماذا يُقال عنا، وعن مجتمعنا؟

يقال أن المجتمع يزداد صعوبة. ويُقال أيضا أن الدولة تنسحب وأصبحت تَتَكفّل، بشكل أقل، بالأفراد. وكأن جزء من هذه المسلسلات يقول:  طيب، نعم إنّنا نعيش معا! والعيش معا هام جدا!  لكن حذار لا أحد يَتَكفّل بكم. وعليكم أن تًتَكفّلوا بأنفسكم حتّى وإن اقتضى الأمر ارتكاب أشياء غير أخلاقية، وحتّى وإن كان ثمنها مغازلة الشر.

يعد بروز هذه المسلسلات، بالنسبة إلى البعض، أمارة انحطاط الثّقافة، وبالتالي مجتمعنا.

الحديث عن  الانحطاط  هو أمارة الخوف دائما وعدم فهم ظاهرة جديدة في طور التطور. تعادل المسلسلات الحديثة الرّواية أو الفيلم المستقل نظرا إلى سردها وخطابها وصورها، وتعقّد حكاياتها وقصصها. لذا يبدو بأنّ الحديث عن الانحطاط ليس حديثا جِدّيًّا. لكن بالمقابل يمكن الحديث عن تغيير كبير، وعن تحوّل ثقافي هائل. وهذه هي الفكرة التي أوافق عليها. فحتّى وإن بلغت علاقة المسلسلات بالشر المستوى الذي تحدّثنا أنفا فلا يعني أنها منحطّة. فهذه النزعة غير أخلاقية وُجِدت منذ زمان بعيد في الأعمال الأدبيّة الكبرى، وفي الفنّ التَّشْكِيلِيّ الكبير، والأوبرا. فمن وجهة نظري إنها بالأحرى علامة عن نضج جمالي أكثر من كونها علامة انحطاط.

في كتابكم الأخير، الذي خصصتموه إلى المسلسلات التلفزيونيّة، ذهبتم إلى حدّ التأكيد على أن هذه الظاهرة الثقافيّة تشكل ثورة حقيقيّة، وتعدّ علامة على أننا ولجنا عصرا فنّيّا وفكريا. فهل بلغت هذه المسلسلات هذه الدرجة؟

إننا أمام ثورة لا تُصَدّق ومن الصعب قبولها. فمن المؤكد أن مكانة الكتاب والسينما تضاءلت. إن الأمر أصبح يشبه ما جرى للفاينيل أو الايثينيل-مادة كيمائية تستخدم لصناعة القماش الاصطناعي منذ سنوات. بالفعل إننا نفقد أشياء لكننا نكسب آخرى. فمثلا ستتضاعف كل متاحف العالم بطريقة افتراضية ونستطيع أن نزورها  مقابل سعر زهيد. سنعيد إنتاج أشياء هشة جدا على غرار كنيسة سيستينا[4]. وهذه حالة كهف شوفيه[5] بفرنسا. إن الافتراضيّ يغزو كلّ مجالات الحياة.

الهوامش:

[1] – ينـاول هذا المسلسل قصـة مدرس كيميـاء يصاب بسرطان الرئـة. ويرى أن موته محقق نظرا لغلاء ثمـن العـلاج الذي ليس في متناوله، فيستغل ” كفاءته العلمية” في صناعة نوع من المخدرات ويخوض مغامرات مع أحد طلبته

[2] –  اقتبس هذا المسلسل من الرواية الموسومة بـ “حلم دكستر الأسود  للكاتب “جيف ليندساي” يروى هذا المسلسل قصة ديكستر مورغان  الذي يشتغل في قسم الشرطة الجنائية بميامي كمحلّل دماء في العلن، ويجسد ميولاته المرضية في السر والمتمثلة في القتل العمدي المتسلسل.

[3] – صراع العروش أو لعبة العروش ( مسلسل  ملحمي اقتبسه ديفيد بينيوف من رّواية ”  أغنية من ثلج ونار” للكاتب  جورج آر. آر مارتن.  يصور هذا االأساقفة منذ الذي يدور بين سبع عائلات للسيطرة على عرش المماليك في قارّتين خياليتين ويطرح في ثنايا هذا الصراع العديد من القضايا ذات الصلة بالحياة اليومية للبشر في الواقع مثل الجريمة، والعدالة، والدين والحرب والولاء وغيرها.

[4] – كنيسة سيستينا، هي إحدى قاعات القصر البابوي ، يعود إسمها إلى البابا سيستوس الرابع، الذي بناها في الفترة الممتدة من 1477 إلى 1483.  لقد اعتاد الأساقفة  منذ القرن 15 على الاجتماع في هذه الكنيسة من أجل انتخاب البابا جديد. وأصبحت اليوم تنتمي إلى متحف الفاتكان- المترجم.

[5] –  استكشف هذا الكهف لأول مرة في 18 ديسمبر 1994 في منطقة الأرديش بجنوب فرنسا. يتضمن العديد من الرسومات لمختلف الحيوانات. ويقدم هذا الإكتشاف شهادة عن الحياة في العصر الحجري القديم.  وللحفاظ على محتويات هذا الكهف من التلف تم إنشاء نسخة  له طبق الأصل في 2015 – المترجم