برامج تلفزيون الواقع الجزائرية : ” إعادة إنتاج الخطاب المهيمن في المجتمع”


يلخص هذا المقال بحثنا بعنوان «برامج تلفزيون الواقع وإرهاصات التحوّل في بنية الفضاء العمومي في الجزائر ورهاناته»، قدّم خلال المؤتمر الذي نظمته كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية في ماي 2016، والذي نشرت أعماله في كتاب «الإعلام العربي ورهانات التغيير في ظل التحولات» الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت في ماي 2017.

بعد استعراض أبرز الاتجاهات النقدية للمفهوم الهابرماسي للفضاء العمومي، خاصة تلك التي تنفي شرط الفصل الحياة الخاصة عن الحياة العامة في صياغة هذا المفهوم حاول البحث باستجلاء المعوقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تواجه تحوّل بنية الفضاء العمومي في الجزائر، انطلاقا من أربعة برامج من فئة تلفزيون الواقع والتي تعرضها القنوات التلفزية الخاصة، وهي (خطّ أحمر)، و(خطّ برتقالي)، و(المحكمة)، و(ما وراء الجدران).

انطلقنا من إشكالية هل تعمل برامج تلفزيون الواقع في القنوات التلفزية الخاصة الجزائرية على إعادة تشكيل الفضاء العمومي، بعد أن شقّت طريقها في إخراج الحياة الخاصة والحميمية إلى العلن، سواء بسردها أومناقشتها أو الاثنين معا؟ أم أنها تسعى إلى إعاقة تحوّله؟ ووفق أي إستراتجيةّ؟

إجابة على هذه الإشكالية اعتمد البحث على تحليل عينة من حلقات برامج تلفزيون الواقع الأربعة التي تبثّها القنوات الجزائرية الخاصة، والتي تتمحور حول حكايات شخصية وحميمية يسعى المشاركون فيها إلى سردها في هذه البرامج من اجل «إثبات وجودهم وانتزاع حق الاعتراف بهم وبناء ذاتهم في إطار أوسع، بينما تسمح للمشاهدين فهم معايير السلوك التي يجب أن يتقيدوا بها في مختلف الوضعيات في حياتهم».

خلص البحث إلى عدة نتائج على مستوى بنية البرامج مضمونها، فاختيار كل من برنامج (خط احمر) و(ما وراء الجدران) جلوس الضيف في زاوية مظلمة دون الكشف عن وجهه وهويته مقابل جلوس المقدم أو المقدمة في زاوية أخرى إلى جانب الأخصائيين أو الإمام، دلالة على عدم تبني القناة التلفزيونية للموضوع المطروح.

كما خلص البحث إلى أن الهدف من عدم كشف هوية الضيف لا يكمن في حمايته من المجتمع أو احتراما لخصوصيته، بل يدل على اختيار توجيه رسائل مفادها أن هذه الحالة هي استثنائية «تجري غالبا في الخفاء» ويجب أن تبقى كذلك.

وتعتمد برامج تلفزيون الواقع التي شملها البحث قوالب تعبيرية تقريرية أو سردية لرواية قصة الضيف للمشاهدين، حيث يستند برنامج (الخطّ البرتقالي) إلى بث شهادات المواطنين في الشارع حول موضوع القصة التي تعرّض لها الضيف، وغالبا ما تكون آراء المواطنين مستنكرة لهذا الموضوع إن لم تنف وجوده. ولا تلتجئ إلى الأخصائيين لإثارة النقاش حوله. كما هو الحال في البرنامج الذي تناول مسألة المثلية في المجتمع.

وتعتمد البرامج الأخرى على أسلوب «التحقيق»، حيث يلجأ كل من المقدم أو المقدمّة أومن يشاركونه في البرنامج، مثل المحامي والإمام، إلى مساءلة الضيف «عن توبته» من الفعل الذي استدعى حضوره إلى البرنامج والذي تطلب إخفاء هويته، كما تلجأ إلى طرح الأسئلة التي تدفع الضيف للانهيار والبكاء والذي يتبعها، في اغلب الأحيان، فاصل إعلاني «لإنتاج» الفرجة. إن التركيز على البكاء ينفي وجود أثار لقضايا التي أثارت الفرجة ويعمل على رفع عدد المشاهدين.

إن الهدف من وجود هذه البرامج ليس معالجة قضايا تمثل طابوهات في الجزائر، وطرحها على النقاش العمومي، مثل «إنجاب الأطفال خارج العلاقات الزوجية، الاغتصاب والشعوذة»، بل التأكيد على أن هذه الظواهر غريبة على المجتمع (حسب تعريف مقدمي برامج تلفزيون الواقع للقضية التي سيتم تناولها، أو من خلال أراء المواطنين الذين يتم استجوابهم).

تقدم برامج تلفزيون الواقع التي شملها البحث صورة الضيف الذي تعرّض أو عاش احد التجارب التي يعتبرها المجتمع الجزائري دخيلة عليه أو لا تمتّ للإسلام بصلة، على انّها حالة استثنائية يجب إقصاؤها من المجتمع ومن «الحوار العمومي» وعدم السعي لإيجاد حلول لها وتنتهي بــ«الاكتفاء بالدعاء وطلب الهداية والتوبة للمتسببين في هذه الظواهر أو الذين يعانون منها».

ومن هنا يستنتج البحث أن الهدف من طرح هذه الحكايات والتجارب في تلفزيون الواقع ليس التعمق في ما عاشته هذه الحالات والسعي إلى «كشف مسبباتها وإثارة النقاش حولها بغية توصيله إلى السلطتين التشريعية والتنفيذية، ليحوّل إلى قوانين وقرارات». وهكذا يخرج مفهوم تلفزيون الواقع في الجزائر من مسلمات بعض الباحثين الذين اعتبروا أنّ طرح الأشخاص لتجاربهم الخاصة ومشاكلهم في البرامج التلفزيونية سيحول «انشغالاتهم المخصوصة» إلى مشاكل عمومية تدفع السلطات المعنية إلى معالجتها وإيجاد الحلول لها.

لقد أكّد البحث صعوبة الحديث على أن تلفزيون الواقع في القنوات الجزائرية الخاصة يشكل فضاءً عموميا نتيجة لطابعه الانتقائي والإقصائي في النقاش، ولغايته التجارية. إنه يستثمر في المواضيع الحساسة والتي تعد من الطابوهات لرفع عدد مشاهديه فقط، وبالتالي كسب المزيد من الإعلانات. هذا إضافة إلى «تحويل ما يطرح في هذه البرامج من مشاكل وقضايا ذات طابع اجتماعي ومجتمعي إلى مشاكل شخصية، بل ذاتية، جعلت منها منبرا إضافيا لإعادة إنتاج الخطاب المهيمن في المجتمع».

ملاحظة: تلخيص وداد حمد

الصحفيون ضحايا الإرهاب وأنظمة الاستبداد


نشر بصحيفة الخليج يوم  16-11-2017

نزل آلاف الأشخاص يوم الأحد 22 أكتوبر/تشرين الأول إلى شوارع مدينة «فاليتا»، بمالطا، للتنديد باغتيال الصحفية والمدوّنة «دافنه كاروانا غاليزيا»، في انفجار سيارة مفخخة. وهتفوا بالشعارات التالية: «العدالة لدافنه» و«الفساد يقتل الديمقراطية»، و«لا يمكن إخراس الصحفيين».
لقد أصبحت هذه الصحفية، التي اختصت في التقصي عن مختلف أشكال الفساد، مشهورة جداً. إذ بدأت تهدد مصالح الكثيرين بعد أن شرعت في نشر ملفات ما أصبح يعرف ب «بنما بيبرز» (أوراق بنما) التي أماطت اللثام عن حالات من التهرب الضريبي والعمولات والرشاوى. فتزايد عدد قرائها ومتابعيها ليصل إلى 400 ألف متابع من مجمل سكان هذا البلد الأوروبي الصغير البالغ تعداده 430.000 شخص، حسب مجلة «الأكسبرس» الفرنسية الصادرة يوم 18 أكتوبر 2017.

لقد أعاد اغتيال «دافنه كاروانا غاليزيا» إلى الأذهان موجة اغتيالات الصحفيين التي قامت بها عصابات تهريب المخدرات والمافيا في بعض بلدان أمريكا اللاتينية في مطلع تسعينات القرن الماضي. وراح البعض يبحث عن صلة الوصل بها. فوجدوها لا تكمن في طريقة تنفيذ الجريمة فحسب، بل في أسبابها ورسائلها المشفرة. فإذا كان البعض يحبذ إسقاط الماضي على الحاضر، ويرى أن اغتيالات الصحفيين اليوم تشبه، إلى حد ما، ما كان يقدم عليه الملوك في غابر الأزمنة، إذ كانوا يحكمون بإعدام من يأتيهم بأنباء غير سارة. بيد أن صحفي اليوم لا يُقْتل على يد رجال المافيا والعصابات المسلحة وأباطرة الفساد لما ينشره من أخبار لا تسرّهم، بل من أجل الوقوف ضد سطوع الحقيقة، والحيلولة دون فضح أنشطتهم المشبوهة. وأيضا من أجل التخويف وإرهاب كل من يريد النبش في ملفاتهم المريبة وأنشطتهم غير الشرعية.
لقد قيل إن بعض بلدان أمريكا اللاتينية تفتقر إلى حرية التعبير، ويستشري فيها الفساد والعنف، ويعاني صحفيوها من انعدام الأمن ما جعل مهنتهم أخطر مهنة في العالم. لكن بِمَ يوحي مقتل الصحفية «دافنه كاروانا غاليزيا» في بلد عضو في الاتحاد الأوروبي؟
إن ما يتكبده الصحفيون اليوم يتناقض والقول المأثور: «إنّ المصيبة إذا عمّت خفّت». هذا ما أدركته المديرة العامة لمنظمة اليونيسكو، إيرينا بوكوفا، التي وجدت نفسها تدين مقتل ثلاثة صحفيين في ثلاث قارات خلال أسبوع واحد من شهر أكتوبر الماضي! كان أولهم الصحفية، إفجينا فاسكويز أستوديلو» العاملة بالمحطة الإذاعية «ريبورن كوكونوكو» بشمال كولومبيا، وتلاها مدير قناة تلفزيونية بأفغانستان، شير محمد جحيش، ثم الصحفية والمدوّنة دافنه كاروانا غاليزيا. لقد اعتبرت اغتيالهم جريمة لم ترتكب في حق شخص واحد فحسب، بل في حق حرية التعبير والإعلام التي تعدّ من الحقوق الأساسية في دول العالم.
الهاجس
لقد تحول مقتل الصحفيين إلى هاجس كوني، ومصدر انشغال المنظمات والهيئات الدولية إلى درجة أن الجمعية العامة للأمم المتحدة قرّرت، في 2013، أن تجعل من 2 نوفمبر/تشرين الثاني يوما عالميا من أجل وضع حد لانفلات الجناة من العقاب على جرائمهم التي أودت بحياة الصحفيين. لقد تبنى مجلس الأمن الدولي، والجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عشر توصيات للحفاظ على أمن الصحفيين وسلامتهم، منذ 2012. ولم تكفّ هذه الهيئات عن دعوة الدول الأعضاء إلى المساهمة في اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تضمن مثول مرتكبي الجرائم ضد الصحفيين أمام المحاكم لينالوا جزاءهم.
واضطرت الأمم المتحدة إلى عقد اجتماع متعدد الأطراف يجمع الدول الأعضاء والمنظمات الإقليمية ما بين الحكومات، وهيئات المجتمع المدني، وناشطين في قطاع الإعلام والاتصال، وبعض الجامعات، في يونيو/حزيران من السنة الحالية بجنيف، وذلك من أجل صياغة استراتيجية واضحة وفاعلة لضمان سلامة الصحفيين.
واعتبر التقرير الذي أعدّته منظمة اليونيسكو بعنوان: «اتجاهات في مجال أمن الصحفيين»، أن هذه الاستراتيجية تعدّ أكثر من ضرورية لأن تجسيد برنامج التنمية المستدامة في أفق 2030 يستند إلى مصادر الإعلام والمعلومات والمعارف التي تنشرها وسائل الإعلام الحرة والمستقلة وذات الطابع التعدّدي. ويرتكز على حماية الصحفيين لتمكينهم من تقديم المعلومات والأخبار التي تحتاجها المجتمعات.
قد يشعر بعض الصحفيين ومنظماتهم المهنية ببعض الإحباط نتيجة تزايد عدد زملائهم الذين اغتيلوا خلال الفترة الممتدة من 2012 إلى 2016، إذ بلغ 530 صحفياً، أي ما يعادل مقتل صحفيّين في كل أسبوع تقريبا، حسب الإحصائيات الرسمية التي أعدتها منظمة اليونيسكو. وتعزو العديد من المصادر ارتفاع هذا العدد إلى الحروب في أكثر من منطقة في العالم. إن الصحفيين يستهدفون في النزاعات المسلحة من أجل صرف وسائل الإعلام عن تغطية ما يجري من مجازر وإبادة أو من أجل إظهار القوة وتخويف السكان العزل، مثلما تفعل الجماعات الإرهابية. وإن كان هذا التفسير لا يجانب الصواب فإن الإحصائيات تبيّن، أيضا، أن عدد الصحفيين الذين اغتيلوا في المكسيك، البلد الذي لا يعاني من ويلات الحرب، بلغ 13 صحفياً في السنة الماضية، وهو العدد ذاته من الصحفيين الذين قُتلوا في أفغانستان! لكن ما يلفت الانتباه أكثر في هذه الإحصائيات أن عدد الصحفيات اللواتي تمت تصفيتهن قد تضاعف خلال هذه الفترة، إذ قفز من خمس صحفيات في 2012 إلى عشر صحفيات في 2016. وأن المراسلين المحليين يشكلون أكبر نسبة من الصحفيين المغتالين، إذ قدرت ب 92% !
تحسن
يعتقد البعض أن اغتيال صحفي في أثناء أداء مهمته يعدّ من المخاطر التي تميّز مهنة الصحافة. وقد يتفهم الكثير من الصحفيين هذا الأمر ويحتاطون لتجنبه لكن ما يدعو إلى جزع الصحفيين وحتى سخطهم هو انفلات قتلة زملائهم من العقاب.
وعن هذه القضية بالذات تسجل منظمة اليونيسكو تطورا إيجابيا، إذ تذكر في تقريرها، الذي أشرنا إليه أعلاه، أن 46 بلداً استجاب لدعوتها، التي تطالبهم فيها بتسليط الأضواء كاملة على وفاة كل صحفي، من أصل 62 بلدا اغتيل فوق ترابه الصحفيون في السنة الحالية؛ أي أن نسبة 74% من البلدان قدمت تقارير عما آلت إليه التحقيقات القضائية في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين؛ وهي نسبة مشجعة جدا، لأنه لم يستجب في السنة الماضية سوى 68% من البلدان المعنية، ولم يرد على طلب اليونيسكو سوى 47% من البلدان المعنية في 2015، و لم تزد نسبة البلدان المستجيبة لهذا الطلب عن 27% في 2014.
واعتبرت منظمة اليونيسكو أن تطور هذه النسب يترجم استعداد الدول لاقتسام ما تملك من معلومات عن قتلة الصحفيين فوق ترابها مع المنظمات الدولية من أجل وضع حد لانفلات الجناة من العقاب. لكنها تعترف في الوقت ذاته بأن كل الجهود المبذولة لم تصل إلى تجسيد الأهداف التي سُطرت للاحتفال بيوم 2 نوفمبر في السنة الحالية.

مسلسلات المؤلف وسر الولع بالأشرار


نشر في إذاعة وتلفزيون الخليج عدد 100 أكتوبر 2017

 

بدأ عدد من علماء الاجتماع والسيمائيين والفلاسفة في بعض الدول الغربية يهتمون بالموجة الجديدة من المسلسلات التلفزيونيّة الأمريكيّة التي برزت في العقد الأخير من القرن الماضي، و”غزت” تلفزيونات العالم التي بثتها بمختلف اللّغات. فتزايد إقبال الشباب على مشاهدتها عبر الوسائط الرقميّة الجديدة، مثل مسلسل ” سوبرانوس” The Sopranos” الأمريكي الذي بثّه التلفزيون الأمريكي في86 حلقة طيلة الفترة الممتدة من 1999 إلى 2007، ويحكي قصّة رجل عصابة يعاني من صعوبة التوفيق بين متطلبات أسرته ومشاكلها ومهتنه الإجراميّة! ومسلسل ” لعبة أو صراع العروش”  “Game of Thrones” المقتبس من رّواية ”  أغنية من ثلج ونار” للكاتب  جورج آر. آر مارتن.  والذي يصور الصراع الذي تخوضه سبع عائلات للسيطرة على العرش في قارّتين خياليتين. ويطرح في ثنايا هذا الصراع العديد من القضايا ذات الصلة بالحياة اليوميّة للبشر في الواقع، مثل الجريمة، والعدالة، والدين والحرب والولاء وغيرها. ويعري سلوك أبطاله الذين لا يتردّدون في القيام بأي فعل مشين من أجل تحقيق مآربهم. ومسلسل “دكستر” “ Dexter الذي  اقْتُبس من الرّواية الموسومة بـ “حلم دكستر الأسود”  للكاتب “جيف ليندساي” والذي يروى قصة  شخص اسمه “ديكستر مورغان”  يشتغل في قسم الشرطة الجنائية بمدينة “ميامي” الأمريكيّة كفني محلّل للدم ، ويقتل مع سابق الإصرار والترصد في السر تلبية لميولاته المَرَضِيّة.

وزاد الاهتمام بمثل هذه المسلسلات الأمريكية بعد أن تحوّلت إلى نموذج تلفزيونيّ استنسخته العديد من تلفزيونات العالم.

لقد تسأل العلماء المذكورين أعلاه عن سبب توجه الشباب إلى هذه المسلسلات، وهم المعروفين بعزوفهم عن متابعة برامج القنوات التلفزيونية؟  وأكدوا في معرض إجابتهم عن هذا السؤال على أن الأمر أكبر من متابعة. إنه ولع بأبطالها الذي حثهم على تفهم ضعفهم وقوتهم والتعاطف معهم في الصراعات التي يخوضونها!

لقد كان الجيل السالف من مشاهدي التلفزيون يعادي اللصوص، ويمقت المجرمين الذين مثلوا دور الأبطال في أفلام رعاة البقر” الكابوي” الأمريكية. وكان الناطقون باللغة الإسبانيّة والبرتغاليّة وحتّى الأنجليزيّة والفرنسيّة من ذاك الجيل يتابع بتأثر بالغ، وبعيون دامعة، مأساة الفقراء والمظلومين والزنوج في المسلسلات البرازليّة والمكسيكيّة المسماة” تيلي نوفا” Telenova”. تلك المسلسلات التي تحرّر الفقراء من الافتتان بالأغنياء، وتعزّز روح التضامن والتأزر والمحبة. وترسخ حقوق وواجبات كل فرد في المجتمع، وتشجع كل شخص على الإيمان بمستقبله الذي يتوقف على إخلاصه لعمله وإصراره على النجاح.

لكن يبدو أن السؤال المذكور أعلاه لم يشكل سوى معبرا للانتقال إلى التفكير في الإجابة عن سؤال محوري أعمق صاغة الفيلسوف والسيميائي “فانسان كولونا” كالتالي: ألا تكشف هذه المسلسلات التلفزيونيّة الجديدة عن تطور الثقافة الغربيّة الخفي؟

يستعجل البعض الإجابة عن هذا السؤال بالقول أن إنتاج أي مسلسل تلفزيوني هو فعل ثقافي. وصفة الجديدة التي لحقت بهذه المسلسلات تتفصح عن اختلافها الكبير عن تلك التي سبقتها في الوجود، بدليل أن الكثير من النقاد وصفوها بــ “مسلسلات المؤلف” على غرار ” فيلم المؤلف”. وهي الصّفة التي أطلقها النقاد الفرنسيون في خمسينات القرن الماضي على مجمل أفلام مخرج سينمائي ما، والتي تعكس شخصيته الفنيّة وفلسفته المرتبطة بمواضيع ذات قيمة عالية والمتناغمة فنيا بشكل فريد.

نعتقد أن سر الولع بهذه المسلسلات لا يكمن في قوة السرد وحبك عقدة قصّتها رغم أهميتها الكبيرة، ولا في” بهارات” الاخراج الساحرة، بل يعود إلى ما يرمز إليه أبطالها الذين وصفهم الباحث الفرنسي، “فرنسوا جوست”، بالأشرار “الجدد” لتمييزهم عن قطاع الطرق واللصوص في أفلام رعاة البقر الأمريكيين. ونعتهم الفيلسوف ” فانسان كولونا” بالأبطال “السلبيين” كنقيض للأبطال الايجابيين الذين كان تيار الواقعية الاشتراكية في الأدب والسينما يروج لهم. وبالمختصر المفيد إنهم أبطال عديمي الأخلاق يخترقون الأعراف والقوانين ويمارسون الجريمة دون رحمة أو شفقة. والغريب في أمرهم أنهم يفلتون من العقاب، بل ينتصرون دائما في الصراعات التي يخوضونها! ويتحكمون في خاتمة المسلسلات التلفزيونية فيجعلون نهايتها غير سعيدة  خلافا للإرث السنيمائي الهوليودي والهندي وحتّى المصري.

يرى “فرنسوا جوست” أن الأشرار لا يولدون أشرار، بل يصبحون كذلك تأكيدا لما تضمنه كتاب فيلادمير بروب الموسوم ” مرفولوجيا الحكاية” والذي يثبت فيه أن التطور الكبير الذي حدث في الحكايات المعاصرة يكمن في أنه أصبح لكل شرير دوافعه ليكون شريرا.

ويرى بعض النقاد ، على غرار الصحافية “مارتين دو لاهاي” أن المسلسلات الجديدة التي اسهمت في القضاء على الهوة الفاصلة بين الثقافة العليا والثقافة الشعبية، تعدّ فنًّا قائمًا بذاته مثل فنّ الرّواية. وصنفها إلى الأصناف التالية: “مسلسلات العالم”، وهي تلك التي تجري في وسط ما يربط أفرادها نشاط معين أو يعيشون في مكان محدد من أجل تسليط الضوء على القوى التي تتعدى قدرات الفرد مثل، مسلسل ” الرجل ماد”  Mad Men  ” الذي بُثّت منه 92 حلقة في التلفزيون الأمريكي طيلة ثماني سنوات ) من 2007 إلى 20015( ويسرد قصّة مدينة نويورك في ستينات القرن الماضي عبر وكالة إعلان خيالية ونشاط مديرها الفني في حياته الشخصيّة والمهنيّة. ويصف هذا المسلسل التحوّلات الإجتماعية والأخلاقية التي عاشتها المدينة المذكورة. ومسلسل ” التصنّت” The Wire والذي بثت حلقاته من 2002 إلى 2008 . ويروى الجريمة في مدينة ” بالتمور” الأمريكية من وجهة نظر من عاشوها: الشرطة، وتجار المخدرات، والسياسيون، والمعلمون، والصحافيون، وسكان المدينة المذكورة. والنوع الثاني من هذه المسلسلات اسمته الصحافية المذكورة ” مسلسلات الأزمة”، وتقصد به تلك التي تركز على الأوقات الصعبة والحرجة التي يمر بها مجتمع ما أو شخص ما في حياته، مثل ” مسلسل لعبة أو صراع العروش” ” الذي ذكرناه سابقا. والنوع الثالث من هذه المسلسلات هي ” مسلسلات المصير”، أي تلك   التي تحلّل السيرة الذاتيّة الكارثيّة لشخص يعيش العزلة حتى وهو محاطا بأصدقائه وعائلته، مثل مسلسل “سوبرانوس” الذي تحدثنا عنه آنفا، ومسلسل” إختلال ضال” Breaking Bad  ” والذي يتناول قصـة مدرس كيميـاء يصاب بسرطان الرئـة. ويرى أن موته قريب نظرا لغلاء ثمـن العـلاج الذي ليس في متناوله، فيستغل ” كفاءته العلمية” في صناعة نوع من المخدرات ويروجها مستعينا بأحد طلابه.

يتفق النقاد أن كل هذه الأنواع من المسلسلات تعبر، بهذا القدر أو ذاك، عن السياق الاجتماعي والثقافي الجديد الذي يعيشه المجتمع الأمريكي بصفة خاصة، والمجتمعات الغربية بصفة عامة. وأقل ما يقال عن هذا السياق أن يتسم بتراجع الأخلاق. بدليل أن الفيلسوف “فانسان كولونا” اختار عنوان ” وداعا للأخلاق” للكتاب الثاني الذي خصه لنقد هذه المسلسلات التلفزيونية.

إن وداع الأخلاق لا يعني أن القيم الأساسية التي تتحكم في علاقة البشر قد اختفت نهائيا في هذه المجتمعات، بل يشير إلى أن الحدود بين الخير والشر قد تزعزعت وأن السلوك الاجتماعي لم يعد يحتكم إلى الأخلاق، أي إلى المباح وغير المباح ، بل أصبح يخضع للقانون، ويميز ما يسمح به القانون وما يمنعه. فالوعي القانوني يكاد يحل محل الوعي الأخلاقي في نظر الفيلسوف “فانسان كولونا”،  الذي يرى أن هذه المسلسلات “غير الأخلاقية” تتجه إلى شباب في حضارة تتميز فيها الدولة والقانون بالحضور الطاغي والقوة إلى درجة أنهما لم يبقيا أي شيء للمواطن. لقد قلصا كثيرا من حريته وسحبا منه الكثير من المسؤوليات.

ألا يُخشى أن يشكل أبطال هذه المسلسلات نماذج يحتذي بها شباب اليوم؟ سؤال وجيه يتبادر إلى ذهن كل من يدرك حجم حضور الأشرار في هذه المسلسلات.  يجيب “فانسان كولونا” بالنفي عن هذا السؤال. فرغم اعترافه بتعلق الشباب، التائه والفاقد لبوصلته في الحياة، بهؤلاء الأبطال السلبيين إلا أنه يعتقد أن لهذه المسلسلات دور نقدي. إنها تفتح أعين الشباب على الواقع، وتبصرهم  بما يوجد وراء المظاهر الخادعة، وتكشف لهم خفايا السلطة، والشهرة، وجني الأموال، أي انها تميط اللثام عن عيوب المجتمعات المعاصرة وأمراضها.

أخيرا، يمكن القول أنه رغم لجوء هذه المسلسلات إلى الخيال أو الماضي إلا أنها تعبر عن الواقع، بهذا القدر أو ذاك. فالأشرار لا يدفعون دائما الثمن، والشر يظل قائما في المجتمع رغم وجود من يقاومه. وخاتمة الأحداث في الواقع ليست دائما سعيدة مثلما كانت تروج له بعض الأفلام والمسلسلات السالفة.

الذكاء الاصطناعي ووسائل الإعلام: الآمال والمخاوف


 

نصر الدين لعياضي

نشر في مجلة الشروق العدد 1343- الصادر في 1-7 يناير 2018

نشرت  صحيفة “لوموند” الفرنسيّة تقريرا عن استعانتها ببرنامج معلوماتي للإعلان بشكل آلي، في نصوص قصيرة، عن النتائج التفصيلية للجولة الأولى من الانتخابات المحلية الفرنسيّة التي جرت في مارس 2015. وبرّرت ما قامت به بالقول أنه ليس باستطاعة صحافيي هذه الجريدة كتابة نص واحد عن كل بلدية من البلديات الفرنسية التي يبلغ تعدادها 30 ألف بلدية في ليلة واحدة. ولم تنس هيلان بكمزيان،  نائب رئيس تحرير، التي كتبت هذا التقرير أنّ تُوَقّعه باسمها وتُذَيّله بالجملة التالية: إنّني حريصة على نفي أي معلومة تزعم أنّني رجل آلي “ربوت”!

هذه ليست نكتة، بل حقيقة  تلخص حذر القراء من المواد الصحفية التي ينشرها الرجل الآلي بعد أن دخل قاعات التحرير،  وأسندت إليه بعض المهام التي يقوم بها الصحافي إلى درجة أن الصحافيين أصبحوا يخشون على مستقبلهم المهني من هذا الوافد الجديد الذي لا يكلّ ولا يملّ من العمل، ولا يتململ من الخط التحريري للصحيفة ، ولا يطالب برفع راتبه وزيادة علاواته.

بالفعل، لقد شرعت  وسائل الإعلام  في الاستعانة بخدمات الرجل اللآلي منذ مطلع العشرية الحالية،  مثل صحيفة “لاوس أنجلز تايمز” في الولايات المتحدة الأمريكيّة، و”الغاردن” البريطانية،  و” لودفوار” الكندية، و”لوموند” الفرنسيّة، ووكالتي “اسوسيتد برس” و”رويترز”، والقائمة طويلة.

ولم تعتمد وسائل الإعلام على هذا الرجل في تحرير الأخبار فحسب، بل وظفته، أيضا، لإجراء الحوار مع مستخدميها في مواقعها في شبكة الانترنت ناحتة بذلك مصطلح ” الشاتبوت” Chatbots، أي ربوتات الدردشة”  التي يميل إليها النشء الجديد الذي قَلَّل، تدريجيا،  من حضوره في الواب، وكَثَّف تواجده في مواقع الشبكات الاجتماعيّة.

قد يقول البعض أنّ كتابة الأخبار بشكل آلي أو الدردشة الآلية مع المستخدمين تشكلان واجهة الذكاء الاصطناعي، وترسمان الأفق الحتمي لتطور وسائل الإعلام. لكن ما هو هذا الذكاء بالضبط الذي اكتسح العديد من القطاعات: التجارة، والصناعة، والطب، والنقل والاتصالات، والتعليم، والمالية، وغيرها؟

 

ما هو الذكاء الاصطناعي؟

تؤكد القواميس أنّ الذكاء الاصطناعي هو مجمل النظريات والتقنيات التي تستخدم من أجل تصنيع آلات قادرة على تحفيز الذكاء الاصطناعي محققة بذلك حلما ظل يراود البشريّة، والمتمثل ابتكار شبيه الإنسان يقوم بكل الأعباء والأشغال نيابة عنه.  بينما يعتقد البعض بأن صفة الذكاء تنطبق على الأشخاص الذين ابتكروا الآلات ، وليس على الآلات ذاتها. ويؤكد “يان واليفي”، الباحث في المركز الوطني للبحث العلمي بفرنسا، في هذا الصّدد، على أنه يجب على الذكاء الاصطناعي أن يتفهم الأوضاع الإنسانيّة ، ويتصرف بذكاء أو غباء مثلما يتصرف أي إنسان ، لأن المرء لا يكون ذكيًّا في كل الحالات. ولا يكون كذلك طيلة الوقت.

يحمل الذكاء الاصطناعي الكثير من الآمال في تطور البشريّة وفي تيسير حياتها وتحسين وضعها. ويحمل، أيضا، الكثير من المخاوف، إذ يعتقد أنه يحيل المرء على المعاش المبكر بعد أن يحل محله في كل ما يقوم به تقريبا في مختلف المجالات. وهذا ما عبر عنه “إيلون موسك”، المسؤول عن المؤسسة الأمريكيّة المختصة في الملاحة الفضائيّة، ” سبايس إكس”، بكل تشاؤم، قائلا: ” لن أتوقف عن دق ناقوس الخطر من الرجل الآلي. طالما أن الناس لم يروه بأم أعينهم  في الشارع يقتل الجميع. ساعتها لا يعرفون كيف يتصرفون معه”.

لقد بدأ الجمهور العريض  يكتشف الجانب الأبرز في الذكاء الاصطناعي منذ مطلع العشريّة الحاليّة في ظل التنافس بين الشركات العملاقة في مجال المعلوماتيّة التي جعلته ممرا إجباريا لتطوير خدماتها. فبعد الإعلان عن اختراع ” غوغل ناو” Google Now ، المساعد الشخصي الذكي، الذي يستطيع أن يتعرف على الصوت، ويعالج الأصوات للإجابة عن طلبات المستخدمين، سجل شبيهه المسمى “سيري ” Siri“، الذي ابتكرته شركة ” أبل”، حضوره في السنة ذاته، ثم تلاهما العديد من المساعدين الأذكياء مثل ” كرتونا” الذي ابتكرته شركة ” ميكروسوفت” في 2014 ، و ” ألكسا ، الذي اخترعه مختبر ” أمازون دوت كم” في 2016.  فكل هؤلاء المساعدين الأذكياء يتيحون ، على تفاوت كفاءتهم التقنية، التفاعل الصوتي وقراءة الموسيقى و” البودكاست” والكتب السمعية،  والإعلان عن حالة الطقس وحالة سير المركبات الصناعية في الطرقات.

                                                          

   مجالات التطبيق

غني عن القول أن وسائل الإعلام المختلفة لا تقوم باختراع البرامج والتطبيقات التي تجسد هذا الذكاء، بل توظف ما ابتكرته الشركات المختصة من برامج وتطبيقات رقمية من أجل تطوير أدائها وتنوعه. وقد استفادت من ذلك في إنتاج محتويات مخصوصة ، والكتابة الآلية للنصوص ، والكشف عن الأخبار المزيفة والقيام بحجبها ، مرورا بإعادة تنظيف الإرسال التلفزيوني للمنافسات الرياضيّة من الوقت الضائع من أجل تقديم ملخصات لأهم لقطاتها عبر الحوامل المختلفة ،  وصولا إلى القيام بحوار صوتي ومكتوب مع الجمهور.

وتستفيد وسائل الإعلام من الذكاء الاصطناعي، أيضا، في مجال صياغة استراتيجيا استشرافيّة للمحتويات التي يجب إنتاجها مستندة في ذلك إلى التنبؤ بالمحتويات التي يريدها الجمهور، والتي ضبطتها بناءً على البيانات التي يتم تجميعها عنه. هذا ما تقوم به مؤسسة ” نتفليكس Netflix الأمريكيّة التي تنتج وتبث أفلام ومسلسلات بشكل متواصل عبر شبكة الانترنت. وهذا ما يعمل به أيضا موقع  بزفيد Buzzfeed  في شبكة الانترنت، والذي يستعين بما توصل إليه الذكاء الاصطناعي  في مجال انتقاء الأخبار التي ينشرها.

لا تسمح هذه التكنولوجيا لوسائل الإعلام بمعرفة المحتويات التي يرغب فيها الجمهور فقط، بل تقدم لها إجابات دقيقة عن الأسئلة التالية : ما هي المدة الزمنية المثلي التي يفضلها الجمهور لشرائط الفيديو التي تبثها؟ ما هو القالب أو “الفورما” المطلوبة أكثر من قبل الجمهور؟ ما هي شريحة الجمهور التي لم تستطع الوصول إليها؟  ليس هذا فحسب، بل إنها تساعدها على شخصنة محتوياتها ، بمعنى أنّ هذه التكنولوجيا توجهها لنشر الإنتاج المطلوب من قبل شخص معين في الوقت الذي يفضله. وتمكّنها من البث الآلي للنصوص وملفات الفيديو وفق الطلب انطلاقا من بنك المعلومات المهيكل والمنظم. وأخيرا وليس آخرا ،  إجراء الحوار مع الجمهور. بالفعل إن هذا الحوار محدود ومحصور في جملة من الاجابات المبرمجة للرد عن الأسئلة المدروسة والمصنفة التي يوجهها الجمهور إلى الوسيلة الإعلامية. لذا من المستبعد أن تتحوّل وسيلة الإعلام إلى أداة حوارية تجيب بتلقائية وعفوية عن كل الأسئلة التي يوجها لها الجمهور، والمتعلقة بالأحداث الراهنة المتنوعة والتي لا تكف عن التجدّد.

بالطبع لم يكن بالإمكان تحقيق هذه الخدمات المختلفة دون أن يتدخل هذا الذكاء ذاته في تمكّين الوسيلة الإعلامية من معرفة جمهورها بشكل أفضل وأدق : أماكن تواجده ، وأوقات استخدامها ، ومواقع إبحاره في شبكة الانترنت، والمدة التي قضاها في زيارة كل موقع منها، وأنواع الموسيقى التي يفضل الاستماع إليها، والعديد من البيانات والمعلومات المختلفة التي تزود بها المؤسسات الإعلامية للقيام بالتحقيقات الصحفية حول المواضيع المختارة.

لعل الإعلان كان ولا يزال المحرك الأساسي لاستعانة وسائل الإعلام بالذكاء الاصطناعي. فالمعلنون لم يكفوا عن البحث عن أنجع السبل للترويج للسلع والخدمات. وبفضل ما بتم تجميعه من معلومات ضرورية عن جمهور وسائل الإعلام: سلوكه الاستهلاكي ، وذوقه ، واهتماماته ، وقدرته الشرائيّة حيث أصبحت الإعلانات  تستهدف الأشخاص ذاتهم. لقد منح الذكاء الاصطناعي وسائل الإعلام إمكانية تعديل الإعلانات وتكييفها حسب طبيعة الجمهور. لذا يقال بأن الذكاء الاصطناعي أحدث ثورة في الإعلان وفتح له أفاقا جديدة واعدة، منها احتمال مخاطبة الزبائن وحوارهم!

                                                       

  اختراع صحافة جديدة

يختلف تقييم مكانة هذا الذكاء في تطور وسائل الإعلام، فالبعض يعتقد أنه سيقضي عليها بعد أن حل محل منتجي المادة الإعلاميّة والثقافيّة، مثلما فعل في بعض المجالات الصناعية، كتركيب السيارات، أو يحرفها عن وظائفها التقليديّة، إذ يجعلها مجرد وسيلة توزيع الخدمات وفق الطلب. و يعارض البعض الأخر هذه النظرة، إذ يعتقد أن مصير وسائل الإعلام دون الذكاء الاصطناعي سيكون الموت الحتمي. فالكاتب الفرنسي “إيريك شيرر”، المختص في الميديا الجديدة، يرى أن الذكاء الاصطناعي لا ينقذ مهنة الصحافة الحالية من الهلاك بأدوات جديدة بقدر ما يبتكر الصحافة التي يحتاجها العالم الجديد. والذي يقول عنه أنه عالم متسم بتشبيك جماهيري واسع، تداخلت فيه مواقع الشبكات الاجتماعية بمنظومة الاتصالات، فشكل منظومة إعلامية واتصالية تقودها مجموعة صغيرة من الشركات الكبرى في العالم. ذكر منها، على وجه التحديد، مؤسسة الفيسبوك، وتويتر، واليوتوب، ووكالات الأنباء العالمية وبعض المؤسسات الإعلامية العالمية القليلة جدا ، مثل نيويرك تايمز، والغاردن، والقنوات التلفزيونية، مثل قناة ” سي آن أن، والبي بي سي. ويذكر على سبيل المثال أن محرك ” غوغل نيوز” أصبح المهيكل الأساسي لأخبار العالم، وأن خُمس سكان الكرة الأرضية، أي 1.3 مليار شخصا يستقون الأخبار من موقع شبكة الفيسبوك، وأن حوالي ثلث الأمريكيين يثقون في الأخبار التي يزودهم بها أصدقاؤهم عبر هذا الموقع أكثر من ثقتهم في وسائل الإعلام الكلاسيكيّة.

                                                           

   إمكانيات جديدة

استخلص الباحث ذاته أن طرق الحصول على الأخبار والمعلومات قد تغير في هذا العالم.

وللتأكيد ذلك يذكر أن إنتاج فيديو اليوم أصبح أسهل من مشاهدته. فالكثير من الأخبار تضيع أو يتم يتجاهلها في البيئة الرقمية ، وما يُحْتَفظ به من أخبار ينتشر انتشار النار في الهشيم عبر مواقع الشبكات الاجتماعية المنقولة في الوسائط المتنقلة، مثلا الهاتف الذكي. وهذا يعني أن مواقع هذه الشبكات تمارس رقابة غير مسبوقة على اختيار ملايين الأشخاص. فالإعلان الذي يمول هذه المواقع يضغط عليها بقوة لتركز على الأخبار التي يتم التفاعل معها أكثر. ولعل القليل من القراء الكرام من يعلم أن السوق هي التي كانت وراء ابتكار أيقونة ” أحب” في موقع الفيسبوك قصد الترويج للسلع.

إذا، إن عالم الإعلام الجديد يتسم بوفرة كبرى للأخبار والمعلومات التي تتجدّد كل ثانية أمام ضعف الكفاءة الفردية للإطلاع عليها ومتابعتها. لذا فإنّ الذكاء الاصطناعي يجنح إلى تطبيق الشعار الذي يرفعه  كل مستخدم للواب أو متابع لما يُنشر في المواقع الإخبارية ومواقع وسائل الإعلام الكلاسيكية، وهو: ” ستجدني الأخبار أخيرا “، بدل سأبذل قصارى جهدي لأعثر على الأخبار التي أبحث عنها”.  وهذا نتيجة تطور محركات البحث سواء داخل مواقع الشبكات الاجتماعية والمواقع الإخبارية أو في الحوامل ذاتها، وبفضل الخوارزميات التي تغربل الأخبار، وتصنفها وترتبها، وتخفي بعضها غير المرغوب فيه، ساعية إلى الانتقال من توفير الأخبار والمعلومات التي نريدها إلى تقديم تلك التي نحتاجها.

شكوك   

حقيقة، لقد استطاعت كبريات المجموعات الإعلاميّة أن تأسيس ” إدارة لمنصة البيانات”، وهي عبارة عن قاعدة بيانات مركزية تجمع المعلومات الشخصية عن المستخدمين ، تستغلها من أجل تطوير إعلاناتها التي تستهدف أشخاص بعينهم. لكن معظم المؤسسات الإعلامية  تفتقد الإطار التنظيمي الذي يمكّنها من استغلال البيانات لغاية صحفية. وهذا ما حدا بــ “إروان غوشي”، نائب المدير العام للمحطة الإذاعية ” فرنس بلو”، إلى القول  بأننا اليوم غير قادرين على معالجة البيانات، وتخزينها، وتشخيص أي منها”. وهذا ما يجب أخذه بعين الاعتبار في كل استثمار في مجال الذكاء الاصطناعي.

تؤكد مختلف التقديرات أن الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي لازالت في مرحلة التجربة ولم يتضح نموذجها الاقتصادي بعد. وهذا يعني أن هذا الذكاء لم يجلب الكثير من الأموال لوسائل الإعلام التقليدية التي اضطرت إلى الاستعانة به لتواكب التطور الحاصل في عالم الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي. لقد أضحت هذه الأخيرة متفوقة على وسائل الإعلام ” التقليدية” في استقصاء الأخبار وتوزيعها على عدد من مشتركيها الذي يزيد بآلاف المرات عن عدد قراء الصحف أو مستعمي الإذاعة أو مشاهدي التلفزيون. لذا يعدّ استخدام وسائل الإعلام لذكاء الاصطناعي مغامرة اقتصادية كبرى تضاف إلى عدم تمكّنها لحد الآن من العثور على نموذج اقتصادي يلائم انتقالها إلى النشر أو البث عبر الانترنت.

إذا، إنّ التخوّف من استخدام وسائل الإعلام للذكاء الاصطناعي لا مبرّر له. فالقول بأنها ستفرض علينا الأخبار التي نطلع عليها والسلع التي نشتريها لا أساس له من الصحة. كما لا يوجد ما يدفع إلى الخشية على مستقبل الصحافيين مهما استعانت وسائل الإعلام بالذكاء الاصطناعي. وذلك لأن هذا الأخير لا يمكن أن يعوض البشر على الأمدين القريب والمتوسط. فـ” كلود دو لوبي “، المسؤول عن مخبر “سيلاب” المختص في الكتابة الآلية، يرى أن ما تستخدمه وسائل الإعلام حاليا هو ذكاء ضعيف يكتفي بتأدية مهام محدودة جدا. ويؤكد أنه لم يشاهد في المختبرات المختصة ما يدفع إلى الظّنّ بأننا سنتعامل مع ذكاء متطور جدا. ويعتقد  “فراسوا فوريي”، منتج  بإحدى القنوات التلفزيونية الفرنسيّة، أن أي برنامج أو تطبيق ذكي لا يستطيع، مهما بلغ من التطور، أن يعوض ما يقوم به الإنسان في وسائل الإعلام لأنه غير قادر على الإبداع ، وعاجز عن إصدار أحكام قيميّة أو إدارة العواطف التي تحرك بعض الإنتاج الإعلامي وتكسبه خصوصية.

الميديا وما بَعْد الحقيقة ؟


نصر الدين لعياضي

نشر بمجلة الشروق الإماراتية 28 يناير – 4  فبراير 2018

هل لنا أن نعترف بخطئنا عندما كنا نكرّر دون كلل بأن الحقيقة ستنتهي بالانجلاء مهما طال الزمن؟  إن مبرر هذا السؤال لا يكمن في تزايد عدد أعداء الحقيقة الذين دفعوا بالكثير من الحقائق في التاريخ إلى غياهب النسيان فظلّت لغزا يُحَيِّر البشريّة، بل يعود إلى الجدل الذي تثيره عبارة ” ما بعد الحقيقة” والتي توحي بأن هناك ما قبل الحقيقة وما بعدها. إنّ مسألة ” ما بعد الحقيقة” ليست موضوعا فلسفيا كما يعتقد البعض بل موضوع عملي يرتبط ارتباطا وثيقا بواقعنا اليومي وبتطور الممارسة الاتصالية والسياسية في المجتمعات المعاصرة.

ربما لم يسمع القارئ الكريم هذه العبارة إلا بعد أن اختارها قاموس ” أكسفورد” الشهير لتكون كلمة السنة في 2016.  وقد علّل مديره ، كسبر غراثوول، هذا الاختيار بالقول: ”  لقد لاحظنا تزايد استخدام هذه الكلمة بشكل متصاعد في يونيو 2016 على اثر الحملة الانتخابية التي عاشتها بريطانيا للتصويت على مشروع انسحابها من الاتحاد الأوربي. وتضاعف استخدامها في يوليو في السنة ذاتها عندما تمكن دونالد ترومب من الترشَّح  للانتخابات الرئاسية الأمريكية باسم الحزب الجمهوري” وأضاف قائلا ” لن أفاجأ لو أن عبارة ” ما بعد الحقيقة” أضحت احدى التعابير التي تُعَرّف عصرنا”.

بالفعل، لقد أصبحت هذه العبارة كذلك في أقل من سنة. لقد غادرت البشرية الألفية الماضية، وودعت معها النظر إلى ما يجري في الحياة من خلال الثنائية التالية: الواقعي والخيالي، إذ أنها ” استحدثت” فئة ثالثة، وهي الافتراضي، والتي كانت تدلّ، في ثمانينات القرن الماضي، على كل ما يجري في العالم ” الرقمي”، أي في الكمبيوتر وعبر شبكة الانترنت. فاكتسبت معان واسعة تدريجية مع مرور الزمن، منها ما أشار إليه الفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز، الذي أكد على أن ما هو افتراضي لا يتعارض مع الواقع، بل يتعارض مع ما هو ” حالي” ، أي مع ما يوجد الآن بشكل  ملموس.

وهاهي البشرية اليوم تستقبل العقد الثاني من الألفية الثانية مزودة بوحدة ثالثة في محاولة فهمها لما يجري في العالم؛ وحدة تتوسط الحقيقة والكذب؛ إنها ” ما بعد الحقيقة”.

 

التباس

تؤكد القواميس على القول أن ” ما بعد الحقيقة” لا تدل على الكذب، بل تعبر عن اللامبالاة وعدم الانشغال بالتمييز بين الحقيقة والكذب. فعصر “ما بعد الحقيقة” أو ما بعد الحقائق والوقائع هو الحقبة الزمنية التي لا يُعْتَد فيها البشر كثيرا بالحقائق والوقائع الموضوعية بقدر اعتدادهم بالعاطفة من أجل صياغة الرأي العام. وتستخدم هذه العبارة لتوصيف حالة تشابك السياسة بالميديا في مطلع الألفية الحالية، والجنوح المتزايد نحو الاستخدام الاجتماعي لشبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.                                         رغم انتشار هذه العبارة إلا أن الاجماع على معناها لم يتحقق بعد. فبعض الكتاب العرب القليلين يأنفون من استخدامها. ففي اعتقادهم إن الصدق بيّن والكذب بيّن ولا توجد منزلة بينهما. فالكذب خلاف للصّدق ، هو إخبار عن شيء بغير ما هو عليه في الواقع. لذا يفضلون استخدام  ” سياسة تجاوز الحقائق” كبديل ” لما بعد الحقيقة”. لكن بقليل من التأمل نتذكر بأن اللّغة العربيّة صبغت الكذب بألوان، فيقال الكذب الأبيض؛ أي الكذب الجائز الذي لا يعاقب المرء عليه والمقصود منه التورية.  إذا ، أليس الكذب الأبيض ضربا من ” ما بعد الحقيقة”؟

يعترض “آلان بنويست”، عالم الاجتماع الفرنسي، على مسمى ” ما بعد الحقيقة” التي يراه غير دقيق وغير صائب لوصف تطور الممارسة السياسية والاتصالية في المجتمعات المعاصرة، لأنه يوحي بأن الناس أصبحوا غير مبالين بالحقيقة والصّدق، وهذا أمر صعب التصديق في نظره، ويقترح استبداله بعصر “ديمقراطية  السُذَّج “؛ أي الذين يصدّقون كل ما يُقال لهم. ولم يختر ” بنويسيت” هذا البديل لعبارة “مابعد الحقيقة” عن نزوة، بل بعد تفكير وترو إذ  اتخذه عنوانا للكتاب الذي ألفه في 2013  والذي أوضح فيه أن الثّقة التي كانت في قلب النظام الاجتماعي في القرون السالفة اهتزت كثيرا في عصرنا الحالي نتيجة التناسل الفوضوي لمصادر الأخبار ولتخمة الإعلام.

 

البداية

إن أول من استخدام عبارة ” ما بعد الحقيقة” هو الكاتب الأمريكي المنحدر من أصول صربية، ستيف تسيش. لقد وظفها في مقال نشره في المجلة الأمريكية ” ذو ناشيون” في 1992، عالج فيه  حرب الخليج الثانيّة، وما أصبح يعرف بــقضية ”  إيران كونترا” ، أي الاتفاق السري الذي أبرمته إدارة الرئيس الأمريكي ريغان مع إيران والقاضي بتزويدها بالأسلحة التي هي في أمس الحاجة إليها في حربها مع العراق مقابل إطلاق سراح الأمريكان المحجوزين في لبنان. وقد اختتم مقاله المذكور بالقول ” نحن الشعوب الحرة اخترنا بكل حرية العيش في عالم ما بعد الحقيقة.” لكن هذه العبارة شاعت بعد صدور كتاب ” عصر ما بعد الحقيقة” للكاتب الأمريكي رالف كيس في 2004. الذي يقرّ فيه بوجود الكذب والصدق، ويوجد معهما التصريحات التي يدلى بها بعض المسؤولين والتي ليست صادقة لكن لا نعتبر كاذبة لضاءلتها أو لكونها ” تُجَمِّل الحقيقة”.

تعد رئيسة تحرير صحيفة “الغاردن” البريطانيّة، كاترين فينر، من أبرز من حذر من  تداعيات ” ما بعد الحقيقة” على وسائل الإعلام في تقرير تساءلت فيه عن مستقبل مهنة الصحافة بعد الإعلان عن نتائج الاستفتاء على انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والتي قالت عنه أنه أول انتخاب في عصر سياسة ما بعد الحقيقة التي تغلبت فيه الأيديولوجيا على الوقائع والحقائق.

وتفسر ذلك بالقول أن الصحافة البريطانيّة المعادية للنزعة الأوربيّة اعترفت بأخطائها ومبالغاتها، واعترف معها السياسيون المنادون بالانسحاب من الاتحاد الأوربي بأكاذيبهم. وتؤكد رئيسة التحرير المذكورة بأنه يحدث للصحافة والسياسيين يخطئون أو يكذبون لكنهم اعترفوا بذلك بسرعة وبسهولة ودون خجل لأول مرة، وكأن الحقيقة والصدق لا تعني لهم الكثير.

وتقرّ بأن الحقيقة المطلقة لا توجد، فمن المستحيل شرح خفايا عالم معقد بجمل بسيطة تكون مصبوغة بالنزعة الذاتية في كل الأحوال. لكن هناك بالمقابل ، حقائق ساطعة يمكن البرهان على وجودها وتستطيع أن تشكل موضع نقاش تطرح فيه الآراء المتعارضة. لكن الأمر لم يكن بهذه الصورة في الكثير من الأحيان في أثناء حملة الانتخابات المذكورة. فلكل شخص حقيقته مما يجعل النقاش الآلي مستحيلا.  وهكذا تستدرج الحقائق والوقائع لتصبح مجرد وجهة نظر.

أفرد الكثير من الكتاب الذي كتبوا عن ” ما بعد الحقيقة” حيزا كبيرا لتصريحات الرئيس الأمريكي عبر مواقع الشبكات الاجتماعية، خاصة موقع تيوتر،  مثل تلك المتعلقة بالمهاجرين، والمسلمين، وعدد العاطلين عن العمل في الولايات المتحدة الأمريكية، والاحتباس الحراري، وبيّنوا كيف أنها  تجانب الصواب وتفتقد إلى الحجة المبنية على الحقائق والوقائع سواء في أثناء حملته الانتخابية أو بعدها. لكن قطاع واسع من الأمريكيين تقبلها والسبب في ذلك يوعزه المؤرخ الفرنسي “ران هاليفي”  لكونها تدغدغ مشاعرهم القومية ، وتعزّز أفكارهم  المسبقة ، وتريحهم لاعتقادهم أنها تشبه حقيقية. وهذا ما يجعلها تختلف عن الكذب ” التقليدي”. هذا إضافة إلى أن الصدق والحقيقة فقدتا مكانتهما في الديمقراطيات الليبرالية وجردتا من مضمونهما الأخلاقي. إن أهمية الخطاب في عصر ” ما بعد الحقيقة” لا تكمن في علاقته بالواقع وارتباطه بالحقائق العينية، بل بعدد الأشخاص الذين اطلعوا عليه وفي الأثر الذي تركه، وفي مقدرته على استمالاتهم عاطفيا.  ففي هذا الإطار يقول أرون بنكس، وهو أحد ممولي الحملة الانتخابية التي توجت بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوربي، إن هذه الحملة لم تكتسب بالبرهان والبيانات بل بالعاطفة.

 

الأسباب.

إن السؤال الذي يمكن أن يثيره القارئ هو لماذا تراجعت مكانة الصدق في المجتمعات المعاصرة ولماذا تزايد القبول الاجتماعي ” ما بعد الحقيقة” ؟.

يرى مارك أنطوان ديلهاك  استاذ العلوم السياسية في الجامعة الكندية، أنّ حجم الأخبار والمعلومات المتداولة عبر شبكة الانترنت يتزايد كل ثانية بشكل مهول ، وأنّ عدد الأشخاص الذي ينشرونها قد ارتفع بشكل رهيب وهذا ما أدى إلى أن ما ينشر في هذه الشبكة أضحى عائقا أمام اكتساب المعرفة. فأمسى المرء عاجزا عن تأويل الأحداث وربطها بغيرها من الوقائع. فأمام تكاثر مصادر الأخبار تراجع دور وسائل الإعلام التي كانت تغربل الأخبار وتضعها في سياقها وتساعد الجمهور على تأويلها. لقد انزلقت عملية التحري والتدقيق في الأخبار لتسقط في الاستعراض والتشهير بمصادرها من خلال القول أنهم يكذبون. لقد تعب الجمهور من هذا الاستعراض وانتهي إلى الاقتناع بأن الكل يكذب على الكل.

إنّ تنظيم تدفق الأخبار والصور العائمة في محيط من التعليقات بسرعة جنونيّة بشكل تراتيبي أضحى فعلا عسيرا، بل يكاد يكون مستحيلا. والحياة السياسية تحوّلت إلى استعراض وتمشهد؛ إي إلى ضرب من التنافس على الظهور تحتل فيه الصورة مكانة محورية، واستشرى الإعلان الكاذب وذاب الإعلام في التسلية، وهيمنت برامج تلفزيون الواقع مواقع الشبكات الاجتماعية التي تنمي النزعة النرجسية. كل هذه العوامل ساهمت في محو الحدود الفاصلة بين الصدق والكذب مما أدى إلى  ميلاد ” ديمقراطية السذج ” التي تعززت في ظّل الثقافة الرقميّة التي تنهك النزعة النقدية وتستنفذ طاقة الملاحظة والانتباه.

تأسيسا على ما سبق قوله هل يمكن القول أن وسائل الإعلام التقليديّة هي ضحية  عصر ما بعد الحقيقة؟ هذا ما يحاول الكثير من الصحافيين التأكيد عليه من خلال استعراض الصعوبات التي يواجهونها في إعلام الجمهور الذي أصبح كل واحد منهم وسيلة إعلام: ينشر ما يريده، ويعلق على ما يريد، ويقتسم ما يريده من أخبار وتعليقات مع غيره، مما عزز النزعة التبسيطية لعالم معقد يصعب اختزاله. فمن يملك القدرة  اليوم على توجيه الناخب  المعاصر الذي لم يحظ بإعلام كامل عن عواقب اختياره؟

ويؤكد بعض الصحافيين بأن المنافسة في السابق كانت تجري بين القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية والصحف والمجلات وتتجلى نتائجها في نسبة المشاهدين والمستمعين ، وعدد القراء. أما اليوم فقد أصبحت كل مادة إعلامية وثقافية تخوض المنافسة بمفردها: شريط فيديو، صورة،  تغريدة في موقع تويتر، إدراج في موقع الفيسبوك. وهذا ما أدى إلى انتشار فيدوهات مفبركة، وتصريحات كاذبة، وصور مزيفة.

 

المسؤولية

بالفعل، إن مواقع التواصل الاجتماعي انطوائية رغم ما يشاع عن انفتاحها، بمعنى أنها تجمع الأشخاص المتشابهين أو ذوي الاهتمامات والهوايات المشتركة، يتقاسمون المعلومات، والأخبار، والأفكار التي توحدهم، فتعزز ترابطهم وتبعد عنهم من يختلف عنهم في الفكر والسلوك. وبالتالي إن هذه المواقع تعزز ما نملكه من قناعات سابقة، مما يعسر مهمة الصحافي والوسيلة الإعلامية التقليدية بل يغيرها.

يحمّل الكثير من الصحافيين والسياسيين مواقع التواصل الاجتماعي المسؤولية على استشراء سياسة ” ما بعد الجقيقة” لما تنشره من أخبار مفبركة ومعلومات غير موثقة. لكن أليس لوسائل الإعلام التقليدية مسؤولية على ذلك؟ ألم تستسلم إلى إغراءات هذه المواقع فتعيد نشر أخبارها وصورها وفيديوهاتها دون فحص أو محص. وبهذا فإنها تعمل على القضاء على مبرر وجودها كما أكدت على ذلك رئيسة تحرير صحيفة الغاردين البريطانية. ثم ألم تلجأ وسائل الإعلام التقليديّة إلى نشر الأخبار الملفقة قبل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي دون خجل ودون أن تقدم مجرد اعتذار لجمهورها. لعل القليل من القراء يتذكرون قصة ” تميشورا” التي لم تعجل في الإطاحة بالرئيس الأروماني شاوشسكو فحسب، بل قادته إلى ساحة الإعدام رفقة زوجته. لقد ُأخْرِجت العديد من الجثث من مستشفى بوخارست وخُضِّبت بالدماء ونقلتها شاشات تلفزيونات العالم وقدمتها على أساس أنها من جرائم جهاز الأمن الروماني! ثم ألم تتزايد الكثير من القنوات التلفزيونية  والصحف ومحطات الإذاعة في التأكيد على امتلاك نظام صدام حسين ترسانة من الأسلحة النوويّة؟

هذه الأمثلة ليست مجرد عثرات في مسار وسائل الإعلام التقليديّة . إنها تترجم بشكل واضح سياسة رجال المال والأعمال والشركات المتعددة الجنسيات الذين استولوا على زمام الأمر في  العديد من وسائل الإعلام النافذة  في العالم واستبعدوا محترفو العمل الإعلامي من دائرة اتخاذ القرار فيها. على هذا الأساس يمكن أن نفهم  إصرار العديد من القنوات التلفزيونيّة والمحطات الإذاعية والصحف على تبرئة ساحة التدخين من مرض السرطان، وعلى نفي أضرار البشر الصحية الناجمة عن الاستهلاك الواسع للمنتجات الزراعيّة المعدلة جينيّا ، ومناهضة فكرة الاحتباس الحراري ودحض أسبابها دون أي برهان أو حجة ودون اتاحة الفرصة لبروز الحجج المعارضة. لعل هذا الإصرار يعزز قناعة الباحث في علم الإنسان – الأنتربولوجيا- البلجيكي بول جوريون الذي قال أن للحقيقة أعداؤها الأقوياء، إنهم يمثلون سلطة المال، المالكون للوسائل التي تجعل الحقيقة على صورة ما يفكرون فيه.  وهذا مهما بدا تفكيرهم غريبا.

لكن ما يقلق في هذه القناعة هو ما استنتجه هذا الباحث عندما قال ” لقد  بلغنا اللحظة التي تتطلب الاختيار والحسم، فإما أن ندافع عن منطق الربح  أو نسعى للحفاظ على الكائن الحي والبشري تحديدا في هذه المعمورة. لأن منطق الربح بالصيغة التي يبدو فيها اليوم يتناقض مع استمرار هذا الكائن في الوجود بعد جيلين أو ثلاثة.

 

أمل

ما يقلّل من قلقنا أن القوة  المناهضة ” لما بعد الحقيقة”  قد تزايد عددها ليس داخل هيئات المجتمع المدني ومنظمات النفع العام، بل حتى داخل وسائل الإعلام ذاتها في العديد من البلدان مثل اليابان و ألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. فأصبحت تولى أهمية أكثر لعملية التحري والتدقيق في صحة ما تنشره، ووضعتها في قلب سياستها التحريريّة.  ليس هذا فحسب، لقد أنظمت الشركات الكبرى إلى الجهود الرامية إلى القضاء على ” الأخبار المزيّفة” فمحرك غوغل، على سبيل المثال، بدأ يفصح عن جهوده في هذا المضمار وأشرك العديد من وسائل الإعلام في بلدان عديدة في جهوده، إذ حدد لشريطه الإخباري في غوغل نيوز مجموعة من المعايير التي تزيد في شفافية مصدر الأخبار، والمنهجيّة المستخدمة في جمع الأخبار والتي تحافظ على حيادية الوسيلة الإعلامية.  وقد أنضم موقع الفيسبوك من جهته إلى هذه الجهود حيث استحدث آليات لفرز الأخبار بمعية وسائل الإعلام للكشف عن تلك المزيفّة والمحرفة.

 

هل مواقع التواصل اجتماعية حقا؟


نصر الدين لعياضي

نشر في مجلة الشروق الإماراتية: العدد – 1375 – 1387 –  الصادر في  13 – 19 / 8/ 2018

 

وسط الاحتفاء بميلاد شبكة الانترنت وتكاثر تطبيقاتها وتعدّد منصاتها التقنية التي أصبحت تنافس وسائل الإعلام التقليدية في مجال نشر الأخبار وبثها، لفت بعض علماء الاجتماع النظر إلى التحول الخطير الذي بدأ يطرأ على الممارسات الإعلامية والثقافية في المجتمعات المعاصرة. إذ أكدوا أن لاحتكار وسائل الإعلام التقليديّة للأخبار منافع اجتماعية عديدة. لعل أبرزها ” تحشيد” جمهورها؛ أي جمع أكبر عدد من الناس في وقت واحد لاقتسام نشرة الأخبار ذاتها، ومشاهدة مباراة كرة القدم عينها، أو الاستماع إلى الأغنية ذاتها وتعويدهم على ذلك، ممّا يؤدي إلى صقل ذائقتهم الفنية وتوحيد اختياراتهم الثقافية. فما تبثه هذه الوسائل يعمل على تشكيل لُحمة ثقافية وفنية تنصهر فيها تجارب الناس الاجتماعية والعاطفية. لكن مع تزايد عدد مواقع التواصل الاجتماعي بدأ هذا الجمهور يتشذَّر ويتعدّد. فبات كل شخص مستقلا بممارسته الثقافيّة والفنيّة، ممّا يهدد اللحمة المذكورة بالتآكل فتضعف الروابط التي تشدّه أفراده.ومن هنا تعالت الأصوات المحذرة من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.

بالطبع، إن مسؤولي مواقع التواصل الاجتماعي استهجنوا هذه النظرة لنشاطها، بل سخروا  من أصحابها. فأحد إطارات ” أيربنب”، وهي منصة إلكترونية جماعية تسمح لمالكي الشقق بتأجير سكناتهم للمصطفين الأجانب في أثناء الإجازات السنوية لمدة قصيرة والمنتشرة في 191 بلد، يؤكد بأنها تصبو إلى الفوز بجائزة نوبل للسلام خلال السنوات العشر القادمة لأنها تمكن آلاف الأشخاص، الذين لم يكن بوسعهم الالتقاء بدونها، من التقارب والتعارف!

والكثير من رواد هذه المواقع يعتقدون أن الدعوة إلى الحذر من استخدام مواقع التواصل الاجتماعي يعني توجيههم إلى مغادرة القرن الواحد والعشرين و العودة إلى الماضي؛ أي أنه يمثل الدعوة إلى استعمال الشموع للإنارة بدل الكهرباء!

 

مرافعة

يرد “كال نيوبورت”، أستاذ المعلوماتية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة الأمريكية، على هؤلاء الرواد في مرافعة طويلة حملت عنوان” لمَ عليك مغادرة شبكات التواصل الاجتماعي”. أصدرها في فيديو تعليمي لقي رواجا كبيرا. استهلها بالاعتراف أنه لم يسبق له أن فتح حسابا في وسائل التواصل الاجتماعي أبدا. ويؤكد أن هذا القرار الذي اتخذه لم يؤثر عليه كثيرا. فلازال يملك أصدقاءً، وعلى اطلاع على ما يجري في العالم، وقادرا على التواصل والتعاون مع نظرائه من الأستاذة والباحثين في مجال تخصصه العلمي ، ويتفاعل بشكل مستمر مع الأفكار المبدعة والمتميزة. لا يصف نفسه بالفقير في اختياراته الترفيهية إلا نادرا. والأكثر من هذا اعتقاده أنه أكثر سعادة حيث وجد الاستقرار في حياته. ونجح في حياته المهنية دون استخدام مواقع التواصل الاجتماعي

ويوضح اختياره هذا بالقول أنه ليس موقفا اجتماعيا كبيرا بل مجرد رفض لأحد أنواع الترفيه المتوفرة. ويعتقد أن هذا الأمر لا يجب أن يثير جدلا كبيرا لأنه يشبه من يختار المجلات للحصول على الإعلام والمعلومات بدل الصحف اليومية. ويضاهي اختيار من يفضل مشاهدة برامج القنوات التلفزيونية ذات الاشتراك المدفوع بدل شبكة قنوات التلفزيون المفتوحة.

بعد هذا الاعتراف الشخصي، يؤكد “كال نيوبورت”  أن الذين يعتقدون أن مواقع التواصل الاجتماعي مسلية، وأن من يستخدمها لا يخسر شيئا بل يكسب الكثير ما كان له أن يكسبه لو ظل بمعزل عنها، يجانبون الصواب. ويبرّر ذلك بالقول أن هذه المواقع استفادت من خدمات مهندسي الانتباه الذين وظفوا الأساليب التي تتبعها كازينوهات القمار في لاسفيغاس. فصممت على النمط الادماني تحقيقا للربح. ويستطرد قائلا: إنّ هذه المواقع لا تمثل تقنية أساسية بل مجرد مصدر من مصادر الترفيه المتوفرة بكثرة. ويصفه بالمصدر التافه والبغيض لو نظرنا إليه عن قرب أكثر! ويعلّل هذا الوصف بالقول أنه يجزأ انتباه الشخص بأقصى قدر ممكن طوال اليوم. فالشخص الذي يقضى سحابة يومه في حالة من الانتباه المتشظي: الالتفات بين حين وأخر إلى الرسائل التي تصله والتمعن في الصور أو اللهث وراء الأخبار المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي والتعليق عليها، أو الانتباه إلى ما يقوم به أصدقاؤها أو أفراد عائلته في هذه اللحظة أو تلك. فهذا التشتت في الانتباه يؤدي إلى التقليل من القدرات على التركيز بشكل مزمن.

 

أمراض

إننا لا نذهب إلى ما ذهب إليه “كال نيوبورت” في دعوته إلى الاستغناء عن مواقع التواصل الاجتماعي ، لأن كل شخص حر في اختياراته. ونكتفي بالإشارة إلى أن ما استعراضه من اضرار ناجمة عن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي ليست سوى جزءا من أمراض العصر التي شخصها الأطباء النفسانيون بمصطلحات علمية لازال بعضها يبحث عن مرادف له باللغة العربية، مع الأسف، مثل: ” السيلوغومانيا” أي “الاكتناز القهري” وهو سلوك يقضى بتخزين كل ما يصلنا عبر شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، و” تشيلاليا” وتتمثل في رغبة الشخص الجامحة في اشراك أصدقائه في مواقع التواصل الاجتماعي كل ما تقع عليه يده فيرسله لهم دون أن يتمكن هؤلاء من اللحاق به، ممّا يؤدي إلى نوع من الرفض الاجتماعي، و” المنوفوبيا الرقمية” أو الفردانية الرقمية” وهو نوع من الرهاب الذي يعزز إحساس الفرد بالعزلة نتيجة قلة التفاعل مع ما ينشره في مواقع التواصل الاجتماعي؛ وويرسخ ظنونه بأنه أصبح غير مرغوب من قبل أفراد الجماعة التي ينتمي إليها. و” القلق الاضطرابي العام” ؛ أي بالشعور بعدم معرفة هل يمكن الاستفادة بما يجرى في الحاضر على الشاشة أو حفظه في الشبكة والإبقاء عليه لوقت قادم، و” انفصام الشخصية الرقمية” التي تعني تضارب المعلومات التي يُعرف بها الشخص ذاته في حساباته المتعددة في أكثر من موقع في شبكات التواصل الاجتماعي. و ” رهاب الانغلاق” وهو نوع من الذعر الذي يشعر به الشخص عندما يكون عرض نطاق البث ضعيفا أو غير كاف أو عند بلوغ ذاكرة جهازه أقصى حد من قدراتها على التخزين.

 

نماذج

لقد حاولت بعض وسائل الإعلام العثور على من يعانون من أعراض هذه الأمراض. ففي الذكرى العاشرة لتأسيس موقع شبكة الفيسبوك طلبت صحيفة ” لوموند” الفرنسية، على سبيل المثال، من قرائها أن يسردوا لها كيف تغيرت علاقتهم بهذا الموقع خلال عقد من الزمن، وكيف يرونها في المستقبل. فكانت الاجابات مختلفة تؤكد بشكل أو بأخر ما أصبحوا يعانون منه. فإحدى القارئات تعترف أن هذا الموقع يعد مصدرا للأخبار والتشارك والاتصال لكنه أيضا عامل قلق اجتماعي وتبعية. واعترف قارئ آخر بأن مواقع التواصل الاجتماعي جعلته يعاني الخوف من فقدان شيء ما أو تفويت فرصة ما. إذ يخشى عدم علمه بحفل يحضره جميع أصدقائه ، أو عدم الانتباه لحدث أصبح حديث الجميع. وتشكو إحدى القارئات من الاحباط الذي أصبحت تعاني منه بعد أن شعرت أنها لن تكون في مستوى صديقاتها اللواتي يستعرضن حياتهن في موقع الفيسبوك. ولعل أخطر اعتراف هو ذاك الذي قدمته احدى القارئات التي أكدت أنها الغت اشتراكها في هذا الموقع، دون أسف، لأنها فقدت السيطرة على الصورة التي كونتها على نفسها وروجتها في هذا الفضاء الافتراضي.

لعل هذه الاعترافات تؤكد الحقيقة التي ما انفك علماء الاجتماع يذكروننا بها، وهي أن الاتصال ما بين الأشخاص عبر الكمبيوتر أو اللوح الإلكتروني يسقط الحذر وحتّى التحفظ الذي يطبع الاتصال المباشر وجها لوجه ويسمح لمن يملك حسابا في هذه المواقع أن يأخذ راحته في نحت الصورة التي يهوى أن يظهر بها للغير.

يؤكد “توماس زوبر” و”ألكسندر دي اسنارد”، في كتابهما الذي اختار له عنوانا مستفزا ”  :الفيسبوك قتلني”، أن هذا الموقع جعلنا نلهث وراء المستعجل حدّ الإدمان ، ولا نستطيع الانفلات من الغير الذي يتصل بنا في كل لحظة وفي كل مكان. وأصبحنا مريدي الشفافية. لقد أعادت التكنولوجيا الراهنة صياغتنا فأصبحنا نعيش تحت أنظار الآخرين ومراقبتهم. نركض في كل الاتجاهات في الفضاء الافتراضي بعد أن فقدنا الاستعداد الدائم للخوض في الحديث المستفيض مع أي شخص. وهذا الأمر انعكس بشكل جلي على حياة الأشخاص العادين المستخدمين بكثافة لمواقع التواصل الاجتماعي. ففي دراسة حديثة في الولايات المتحدة الأمريكية تَبيّن أن 57% من مستخدمي الانترنت ثرثارين في الشبكة أكثر من حياتهم اليومية في الواقع العملي. وربما تقترب الشعوب العربية من هذه النسبة أو تتجاوزها إذا نظرنا إلى الأشخاص وهم يمتطون وسائل النقل الجماعي، إذ نلاحظ أن كل راكب يضع سماعات الهاتف الذكي في أذنيه ليغرق في عالمه الخاص، أو يبحلق في شاشة دون أن يدري ما يجري حوله. لقد كانت الثرثرة والتطفل على الغير تؤثث هذه الوسائل في زمن مضى.

لكن هل كل سبق ذكره يبرهن على أن مواقع التواصل فقدت ما يجعلها اجتماعية؟ بالفعل يقول البعض، ويضيفون المزيد من الحجج، مثل فسخ علاقة الصداقة بين الأصدقاء في الحياة اليومية وليس الافتراضية فقط نتيجة عدم رد أحدهم على رسالة صديقه الصوتية التي أرسلها له عبر موقع الفيسبوك وهو يتمعن الإشارة الخضراء التي تثبت أن صاحبه يتصفح حسابه في الموقع ذاته في تلك الأثناء. أو الاحباط الذي يعاني منه قطاع واسع من مستخدمي الانترنت المحرمين من أبسط الأشياء أو حتى القنوط من وضعهم وهم يتابعون صور أصدقائهم في أفخم المطاعم أو الفنادق أو في سفريات سياحية أو يقودون أفخم السيارات عبر صفحاتهم في موقع شبكة الفيسبوك. فما هو شعور تلك التي الفتاة التي حرمت من الزواج عندما تتلقى “وابل” من الصور من صديقتها وهي تعيش أحلى لحظات شهر العسل. بالطبع، قد ينسى البعض أن المرء يتجمّل كثيرا ويتظاهر بما ليس له أو فيه أمام عدسة الكاميرا التي تنقل صوره للغير. لكن ما ينفع  الشخص الذي لا يملك حتى ما يتجمّل به إن أدرك ذلك. ربما سينعزل في حياته عن الناس؟

 

الصداقة الهشة

قال القدماء أن لا صديق لمن هو صديق الجميع. فالصداقة تفترض الثقة الكبرى المتبادلة ، والنزاهة، والحميمية. إنها أكبر من محادثة شخص أو التخاطب معه. إنها معاشرة، وممارسة وحياة مشتركة. لكن الروابط الافتراضية التي تتجلى في مواقع التواصل الاجتماعي أفرغت الصداقة من هذا المضمون، وجعلتها تقتصر على النقر على ايقونة التي تعني قبول الشخص وإضافته إلى قائمة الأصدقاء  ونسيانه بعد الإضافة وتبادل بعض المنشورات والتعبير الإيقوني عن الإعجاب في بعض المرات التي قد تكون متباعدة. لكن حتّى هذه الصداقات الرخوة التي تبدو سطحية من المفروض أن تقرّب الأشخاص لكنها قد تعمل على إبعادهم عن بعضهم. فمن لا يلتفت إلى منشوراته في مواقع التواصل الاجتماعي؛ أي لم ينل قدرا كبيرا من ” الإعجاب” يُرضى به غروره يشعر باليأس ويقل تفاعله مع الغير وينتهي به المطاف إلى الانزواء. قد يلوم البعض هذا الشخص لأنه أعطى لإيقونة “الإعجاب ” قيمة أكبر مما يستحق. لكن البعض الأخر يرى أن قيمة الأشخاص اصبحت تقاس في عصر مواقع شبكات التواصل بحجم هذه الايقونات وبعدد المتابعين لمنشوراتهم.  أننا نعيش حياتنا بشكل مكثف في الواب. وأن وصفها بالافتراضية ضرب من التضليل لأن ما هو رقمي ليس سوى الاستمرار في الحياة بطرق آخرى. هذه الحقيقة تنبهنا إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي تعيدنا إلى طفولتنا. فالطفل ينتظر دائما من يثنى على سلوكه ويعبر عن رضاه عنه وقد يصاب بالحزن وحتّى الكآبة إن اهمل ولم يلتفت إليه أحد.

 

طفولة متأخرة

وتتجلى العودة إلى الطفولة أيضا على مستوى التفريط في الخصوصية. فالأطفال لا خصوصية لهم، قد يتجولون في البيت تارة عاريا ولا يملكون أي سر يحفظون عليه. لكن مع نموهم العقلي يبدأون في إدراك أهمية خصوصيتهم. إن مواقع التواصل الاجتماعي تجعل الفرد يتنازل عن هذه الخصوصية إلى درجة أنه يفقد السيطرة عليها. والشخص الذي يتجرد من خصوصيته وتصبح ” “أسراره ” على كل لسان يضحى أكثر هشاشة اجتماعيا. والغريب في الأمر أن الشخص الذي ينشر كل صغيرة وكبيرة عن يومياته في مواقع التواصل الاجتماعي، ويوثقها بالصور، يشتكي من التلصص وحتّى التجسس على حياته الخاصة!

لقد أكد أكثر من باحث أن مواقع التواصل الاجتماعي تشجع الأفراد على الانغلاق بدل الانفتاح ، أي تجمع الأشخاص الذين يؤمنون بالأفكار ذاتها، وينأون عن الأشخاص الذين يخالفونهم  الرأي وينتهون إلى التعصب لرأيهم، و التهجم بأقسى الألفاظ على من يخافونه. لذا نلاحظ بأن بعض صفحات مواقع التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى منبر للقدح والحقد والكراهية. وهذا ما حدا بالفيلسوف ” جون رونسون” صاحب كتاب ” العار” إلى القول بأن أروع شيء في مواقع التواصل الاجتماعي يكمن في كونها منحت صوتا للذين لا صوت لهم، فلا يجب أن نحوّلها إلى عالم تكون فيه أفضل حيلة للعيش هو العودة إلى التزام الصمت.

لقد اهتم الكثير من الباحثين بتطور خطاب مؤسس شركة الفيسبوك “مارك زوكربيرغ “عن موقعه ولاحظوا بأنه أضحى يتعامل مع مستخدمي هذا الموقع كأنهم علامات تجارية وليسوا أشخاصا، بدليل أن أيقونة ” أحب” قد ابتكرت تلبية لرغبة المعلنين في معرفة رأي المستهلكين في السلع التي يروجونها، ثم تم سحب هذا الابتكار على البشر. وبهذا أضحت إدارة العلاقات الشخصية أقرب في هذا الموقع إلى نمط إدارة المؤسسات التجارية.

قد نكتشف بالتدريج إن موقع شبكة الفيسبوك يقدم المجتمع في صورته المثالية الخالية من النزاع، أو بالأحرى المجتمع المالك للأدوات القادرة على تطهيره من أي نزاع من خلال مسحه وإلغاء أصحابه. فإن لم يعجبك تعليق شخص ما، أو صورة ما أرسلها لك صديق، أن اختلف معك في الرأي، فلا تناقشه ولا تحاول أن تبحث معه عن أرضية للتفاهم، بل اسرع إلى إلغائه من حسابك وأنفيه من ” مملكتك. فهل بهذه الطريقة نؤسس للحياة معا رغم اختلافاتنا في حياتنا اليومية الواقعية؟

 

حقوق المؤلف في السوق الرقمي : صعوبة إرضاء الذئب والراعي


نصر الدين لعياضي

 أخيرا، صادق نواب الاتحاد الأوربي على النص القانوني الخاص بحقوق المؤلف في السوق الرقمي الموحد في شهر سبتمبر الفائت. لم يثر أي ملف  قدرا من الصراع داخل قبة البرلمان الأوربي وفي وسائل الإعلام بقدر ما أثاره ملف حقوق المؤلف.  فبمجرد تسجيل هذا النص القانوني في جدول أعمال هذا البرلمان ،لأول مرة في شهر يوليو الماضي، شبّت معركة شرسة بين مختلف “اللوبيات” وجماعات الضغط : المجموعة التي أصبحت تعرف باسم ” الغافا”، اختصارا بالأحرف الأولى لأسماء الشركات العملاقة في شبكة الانترنت ، وهي: غوغل، وأبل، والفيسبوك، وأمازون، والجمعيّات المدافعة عنها من جهة، والصحف  ووكالات الأنباء ، ومنتجي الأفلام والصور والموسيقى والجمعيات المناصرة لها من جهة أخرى.

انتصرت مجموعة ” الغافا” في هذه المعركة، إذ نجحت في تأجيل مناقشة هذا النص القانوني، إلى شهر سبتمبر الماضي، قصد مراجعة بعض بنودها التي احتدم الاختلاف حولها. وقد علق “دافيد الصايغ”، الأمين العام لشركة الملحّنين ومنتجي الموسيقى في فرنسا على هذا التأجيل بالقول: لقد انتصر ممثلو أرباب الشّركات المتحكّمة في شبكة الانترنت في معركة اليوم لكنهم لم يفوزوا بالحرب. وهذا ما أكدته نتائج التصويت على النص القانوني المذكور في سبتمبر الماضي.  النتائج التي حملت الكثير من الآمال والمخاوف على مستقبل الإعلام والثقافة والفن في العصر الرقمي،  والتي تلخصها  العديد من الأسئلة الجوهرية، مثل: هل انتقلت المعركة بين الولايات المتحدة الأمريكية من المجال الاقتصادي والتجاري إلى المجال الثقافي والإعلامي؟ وهل ستتجه أوربا إلى “وأد” الانترنت في صيغتها التي تعودنا عليها؟ وهل ستسحب هذه التعليمية القيمة الثقافية والفنية المضافة من مواقع التواصل الاجتماعي وتتركها تغرق في السطحية والابتذال؟ وهل يتمكن فعلا هذا النص القانوني من حماية حقوق المؤلفين والمبدعين في العصر الرقمي الذي زالت فيه الحدود بين منتجي المادة الإعلامية والثقافية والفنية وموزعيها و” مستهلكيها” الذين يتوسطهم عدد كبير من المتعاونين والمسوقين؟ بمعنى أخر، هل يفلح هذا النص القانوني في عدم إغضاب الراعي وعدم تجويع الذئب؟

 

متن الخلاف

استحوذت المادتين 11 و13 في النص القانوني المذكور على أكبر قدر من النقاش والجدل، حيث مكّنت المادة الأولى المؤسسات الصحفية من الانتفاع من ” الحقوق المجاورة”.  وهي الحقوق التي يستفيد منها الأشخاص الماديون والمعنويون الذين يقومون بدور في ابداع عمل فني أو فكري دون أن يكونوا مؤلفوها المباشرون. وعلى هذا الأساس يمكن للصحف أن تطالب بالمقابل المادي عن مقالاتها أو مقتطفات منها التي نشرتها المواقع الإلكترونية في شبكة الانترنت.

إن الحقوق المجاورة معروفة وتطبق في مجال الموسيقى والفنون البصرية دون أي نقاش أو احتجاج  لأنها تعتبر منتجات ” أصيلة” خلافا للمُنْتَج الصحافي الذي لا يعترف له بهذه الصفة لأنه يتشكل في مجمله من الاقتباسات والاستشهادات والحجج والبيانات المستقاة من مصادر مختلفة. لكن النص القانوني المذكور  شمله. وقد استندت في ذلك إلى الشَّكْوَى التي رفعتها المؤسسات الصّحفيّة الإسبانيّة والفرنسيّة والبلجيكيّة على مستوى المحاكم تتهم فيها محركات البحث، خاصة محرك غوغل ” نيوز”، باستغلال جهدها. إذ رأت أن وجوده أصبح مشروطا بنشاطها دون أن تستفيد من الأرباح الطائلة التي يحققها. إذ أكدت بعض الدراسات قبل سنتين  أن 57 % من مستخدمي الانترنت يستدلّون على مقالات الصحف بفضل مواقع شبكات التواصل الاجتماعي ومحركات البحث الجامعة للأخبار والمواد الصحفية.

إن معارضي تعليمة حقوق المؤلف في صيغتها النهائية المصادق عليها في سبتمبر الماضي يندّدون بما أسموه بـــ” الضريبة على الرابط الرقمي”. فعضو البرلمان الأوربي ” جولي اريدا”، الناشطة في حزب القراصنة الألماني، تؤكد أن  قانون الحقوق المجاورة الجديد يطعن في حرية التعبير ويلحق الضّرر بالكثيرين، مثل المدونين في شبكة الانترنت. وتضيف قائلة: لقد ألزمت الصحف الألمانيّة والإسبانيّة محركات البحث الكبرى بدفع مقابل مالي جراء كل اقتباس للمقاطع من المقالات الصحفية. وقد مني هذا الإجراء بالفشل.

ترد نتالي فنديستادت، الناطقة الرسمية باسم البرلمان الأوربي، على هذه الحجج بالقول إن الحقوق المجاورة التي يستفيد منها  ناشرو الصحف لا تتطلب مقابل مادي عن كل رابط إلكتروني”. ولا يوجد ما يسمى بـــ ” ضريبة عن الرابط الرقمي” إلا في ذهن أصحابه. أما المدير العام لوكالة الأنباء الفرنسيّة، فبريس فري، الذي يقول أنه سعيد بهذا النص القانوني، يرى أن مجال الحقوق المجاورة  محدود جدا إذ ينطبق على المنصات الرقمية الكبرى القائمة على التشارك، والتي تستغل مقاطع كبرى من المقالات الصحفية. وأن هذه الحقوق ستعيد، حسب زعمه، الاعتبار للأخبار والمواد الصّحفيّة. وتمنحها قيمة كبرى في البيئة الرقميّة.

 

اعتراض

لقد تمت الإشارة إلى احتمال اعفاء ” موسوعة الوكيبيديا” من دفع ثمن اقتباساتها في إطار تطبيق البند المذكور أعلاه. لكن هذا الاحتمال لم يرض الناقمين على قانون الحقوق المجاورة. فممثل جمعية ” موسوعة وكيبيديا” بفرنسا يؤكد بأن ملايين الصفحات في موسوعته تعدّل شهريا  مما يجعل طلب الترخيص من مئات المصادر التي استند إليها  في إعداد هذه الصفحات أمرا مستحيلا. ويضيف قائلا: إن هذا الإجراء لا يقضي على الموسوعة المذكورة فقط، بل يقضي على الكثير من المشاريع المشابهة التي يستند وجودها إلى ما تنتجه الصحف، مثل” ويكيداتا” و” ويكيسيونار”.  وبعيدا عن الدفاع عن حق هذه الموسوعات في الوجود في شبكة الانترنت تعبر الجمعية المذكورة عن مخاوفها من أن يقضي هذا النص القانوني على جوهر ” الواب” ذاته.  فهذا الأخير ليس سوى صفحات تستضيفها المواقع في شبكة الانترنت وتترابط ببعضها البعض بفضل وصلات النص المتشعب. فإنشاء هذه الوصلات، واقتباس المقتطفات ومقاطع من النصوص المختلفة، واقتسام المحتويات هي من المكونات الأساسية لشبكة الانترنت.

الموضوع الذي أثار أكثر النزاع داخل قبة البرلمان وخارجه  ورد في البند 13 من النص القانوني المذكور الذي يجبر مختلف المواقع في شبكة الانترنت ( شبكات التواصل الاجتماعي، وتلفزيونات وإذاعات الواب، ومنصات الفيديو وفق الطلب…) على ابرام اتفاق مع مالكي حقوق التأليف في المجالات التالية: الموسيقى والصورة والفيديو يضمن لهم مستحقاتهم المالية جراء بث منتجاتهم الفنية والثقافية، ويصون حقوقهم الأدبية والاعتبارية. وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق مع هؤلاء تلتزم مختلف المواقع في شبكة الانترنت بإقامة نظام يمنع البث عبر الانترنت كل المؤلفات الخاضعة لقانون المؤلف. وهذا يعني أن هذه المواقع مجبرة على دفع مقابل مالي جراء بث الصور وشرائط الفيديو ومقاطع الموسيقى لأصحابها الشرعيين ، وإن لم تفعل تكتفي ببث المنتجات التي أصبحت ملكا مَشَاعا. لقد علّل المدافعون عن هذا النص القانوني بالقول أنه يروم تغيير علاقة المنصات الرقمية، مثل اليوتيوب، والدليموشن، والفيسبوك بحقوق المؤلف بغية منع نهب جهود المبدعين وابتكاراتهم. لقد ظلت المواقع المذكورة تتمتع بوضع قانوني خاص منذ نشأتها ، وهو وضع ” مضيف الخدمات المحايد”، فارتاحت من المساءلة القانونية على مسؤوليتها على ما يتم تداوله في مواقع الانترنت أمام المؤلفين والمبدعين. وهذا خلافا للمؤسسات التي تعمل في حقل الإنتاج الفني والثقافي والتي تحرص على احترام تراخيص بث المنتجات الثقافيّة والفنيّة وتوزيعها أو تشتري حقوق بثها من ملاكها الشرعيين. فموقع مثل “دليموشن”، على سبيل المثال، لا يتوقف عن بث أي مادة ثقافية أو فنية إلا في حالة ما احتج مالكو حقوقها الشرعيين أو طالبوا بحقهم المادي.  ويستنكر معارضو هذا النص القانوني هذا المبرّر بالقول بأن الكثير من المنصات توصلت إلى اتفاق مع منتجي الموسيقى والفيديو والصور أو وكلائهم. غير أن أصحاب حقوق المؤلف يؤكدون أن الاتفاقيات المبرمة لحد الآن لم تكن في صالحهم.

ما أثار غضب شركات ” الغافا” وأنصارها هو التطبيق الرقمي الذي يقترحه البند المذكور المسمى ” تشخيص المحتوى”، والذي يقوم بتصوير آلي لمقاطع الموسيقى وشرائط الفيديو. فعندما يستشعر هذا التطبيق في موقع شبكة اليوتيوب أن شريط الفيديو يخضع لقانون حقوق الملكية يقوم بتوقيف بثه بشكل آلي إلا إذا تدخل أصحاب الحق في ملكيتها وابرموا اتفاقية البث مع الموقع المذكور .

إن هذه التطبيق الذي يقوم بغربلة المحتويات قبل بثها ليس غريبا على الشركات المتحكّمة في المحتويات المتداولة في شبكة الانترنت وعلى مستخدميها. لقد دفع المنصات التي تستخدمه، مثل موقع اليوتيوب، إلى السعي لإبرام عقود مع أصحاب حقوق البث، فإذا حقق ذلك فيمنحهم جزءا من عائدات الإعلان التي يجنيها جراء بث المواد المتنازع عليها. لكن التجربة بيّنت أن استعمال هذا التطبيق لم يرض أصحاب حقوق البث لأن المقابل المالي الذي يقترح عليهم زهيد فعلا. ولا المشتركين في هذا الموقع وذلك لـ ” مغالاته” وتطرفه، إذ يحدث أن يلغي بث بعض المواد الفنية والثقافية التي لا تخضع لحقوق المؤلف! والمثال الأطرف هو ما أشار إليه “ريك فالكفيج، أول مؤسس لحزب القراصنة في السويد. إذ ذكر أن نواب اليمين المتطرف الفرنسي انفجروا غضبا عندما اكتشفوا أن المواد التي تبثها قناتهم التلفزيونية على اليوتيوب الغيت لأن مصفاة هذا الموقع، التي تغربل كل ما يعرض للبث، اكتشفت عدم احترام الكثير من موادها لحقوق المؤلف. ورغم هذا فقد كان هؤلاء النواب السبّاقين إلى التصويت لصالح النص القانوني المذكور.

 

لوبيات

يذكر نواب البرلمان الأوربي أن المداولات حول تعليمة حقوق المؤلف في البيئة الرقمية تجاوزت حدود النقاش والجدل، بل شكلت فرصة للوبيات للممارسة ضغطها على تصويتهم. هذا ما أكدته فرجيني روزيار، عضو الحزب الرديكالي اليساري الفرنسي، التي صرحت بأن رسائل الاحتجاج على هذا النص القانوني المحرر بأسلوب واحد قد بعثت إلى العشرات من نواب البرلمان الأوربي. وأنها تلقت في بريدها الإلكتروني 40 ألف رسالة إلكترونية خلال أسبوعين فقط ! ناهيك عن التغريدات في مواقع التواصل الاجتماعي التي يرسلها روبوت بشكل آلي. وهذه الرسائل والتغريدات هي ثمرة  حملة” لتحافظ على أنترناتك” التي نظمتها مجموعة “الدفاع عن الحريات في الواب”  بخمس لغات. وساندتها العديد من الجمعيات، مثل:  مؤسسة الحدود الإلكترونية، و الويكيميديا التابعة لشركة الويكيبيديا” ومجموعة “س4س” التي يوجد مقرها في بروكسل، وجمعية الأرضيات الرقمية ” إديما” ، وغيرها من الجمعيات والمنظمات. وتكلفت الشركات العملاقة في واد السيلكون  بتمويل هذه الحملة.

وذكرت مجلة مريان الفرنسية في عددها الصادر في يونيو الماضي نقلا عن الصحيفة البريطانية ” فانانشيل تايم”، أن شركة ” غوغل” أرسلت رسالة إلكترونية  إلى وسائل الإعلام التي استفادت من تمويلها تضمنت بعض النصائح  لصحافييها مقترحة عليهم بلباقة استعمال نفس المصطلحات والعبارات التي تستخدمها ” اللوبيات” في بروكسل،  والتي تمثل شركات الواب العملاقة. واستخلصت هذه المجلة أن مؤسسة ” غوغل” سعت لجعل الصحف الأوربية ذراعها المسلح في نضالها ضد تعليمة حقوق المؤلف الأوربية.

 

جوهر الصراع

يختلف البعض في تأويل اسباب التجنيد حول القانون الأوربي لحقوق المؤلف في البيئة الرقمية. فالبعض يحصره في العامل الاقتصادي فقط. إذ يعتقدون أن الهوة ازدادت اتساعا منذ 2001 بين طموح المنصات الرقمية الأمريكية الكبرى في الاستحواذ على عائدات الإعلان الناجمة أساسا عن الاستغلال الواسع للمؤلفات والمقالات الصحفية التي ينتجها الأوربيون، والمبدعين والفنانين والصحافيين الأوربيين الذين كانوا يأملون أن يرتفع دخلهم وتتحسن أوضاعهم المادية جراء زيادة انتشار منتجاتهم عبر شبكة الانترنت.

لقد شخصت صحيفة لوموند الفرنسية جوهر الصراع عن الحقوق المجاورة في الصحافة، في افتتاحيتها الصادرة يوم المصادقة على النص القانوني المذكور بالقول: ما يهدّد الإعلام ليس استغلال  محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي للروابط  الرقميّة، بل امتصاص موقعي غوغل والفيسبوك للزيادة المسجلة في عائدات الإعلان.ليس هذا فحسب بل لجوئهما إلى ” تحطيم” أسعار الإعلانات، و توجههما إلى جمع بيانات مستخدمي الانترنت الشخصية على نطاق لا يمكن تخيله وتوظيفها في مجال الإعلانات.

قد يستنتج مما سبق أن الصراع حول حقوق المؤلف الأوربية يخفي بصعوبة صراعا اقتصاديا بين أوربا والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد أن افلحت هذه الأخيرة  في تذويب الثقافة والإعلام في التجارة. وأنست فرنسا، ومن لف حولها، المطلب الذي رفعته في نهاية القرن الماضي والمتمثل في الاستثناء الثقافي.

ويرى البعض الأخر أن النزاع على النص القانوني المذكور ذا جذور ثقافيّة وفكريّة بين حقوق المؤلف الأوربية ، و” الكوبي رايت” ” copyright” المطبقة في الولايات المتحدة الأمريكية  وكندا وبريطانيا وأستراليا ، أي الدول الأنجلوسكسونية . فــ “الكوبي رايت” يستند إلى المنطق الاقتصادي، إذ أنه يحمي استغلال المواد الثقافية والفنية والعلمية أكثر من حمايته لمنتجيها ومبدعيها. فوفق هذا المنطق يبيع المنتج أو المبدع أو المبتكر منتجه أو إبداعه لشركة الإنتاج مرة واحدة وإلى الأبد. وبهذا يتنازل عن حقوقه عنها. فلو افترضنا أن كاتبا انتج رواية في الدول الانجلوسكسونية فيطلب منه أن يبيع حقوقه إلى دار النشر. ولا يسمح له بالتدخل فيما تفعله بها هذه الدار. فلا يولي “” الكوبي رايت”  أهمية كبرى للحقوق المعنوية للمؤلف. وهذا خلافا لحقوق المؤلف في الدول الأوربية التي تسعى إلى الحفاظ على الرابط الذي يشدّ المبدع بإبداعه. وبالتالي الجمع بين حقوق المؤلف المادية والمعنوية. فالمؤلف يتقاضى مقابلا ماديا جراء قيام شركة نشر بطباعة روايته بنسخ محسوبة. وإن أرادت إعادة طباعتها مرة ثانية فلابد من ابرام  عقد جديد مع المؤلف. ولا يمكن لها التصرف في الرواية لغرض غير ذاك الذي ينص عليه العقد.

إذا، لننتظر ما يحققه النص القانوني المذكور عند تطبيقه ، ولمن ستكون الغلبة في رسم مستقبل الإعلام والمنتج الثقافي والفني في البيئة الرقميّة.